المتنبي.. ما سرّ حضوره المتشعب في ثقافتنا؟
الحديث عن المتنبي هو حديث عن شاعر كل العصور الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس” ولم يزل حضوره المتشعب في ثقافتنا يدفع إلى تأمله واستعادة تجربته في الحياة والموت، كما في الشعر، بالطبع، والتأكيد معًا.
هو وريث الملك الضليل امرئ القيس، لكنه المختلف الذي يكتب قصيدته “الآنية” فيجعلها تخاطب الآتي، وكأني به نذر نفسه من صباه الأول لتجاوز اللحظة، وحتى العمر الحياتي القصير، إلى “التسكع” في عصرنا الراهن، فلا أحد يملك فرارًا من تجربته الشعرية الثرَة المفتوحة في دورها على شخصية مركبة اختار صاحبها الشعر العظيم أداة ووسيلة لتجاوز الملوك والحكام، وهو الذي حارب بشعره، لكنه حارب بسيفه مع سيف الدولة وإلى جانبه.
هو أحمد بن الحسين، شاعر العرب الأبرز والأهم، الذي “فرّ” من زمانه بعبقريته، وجاء الى زماننا، بل إلى الأزمنة كلها، حتى أيقنا أنه حين كان يجترح الشعر في “مديح” كافور، أو حتى في “هجائه”، كان يقدم شخصيته هو الجديرة بالملك الزماني، ولكن كذلك بالإقامة الدائمة في أفق الخلود الرحب والمفتوح على المستقبل.
يكتب عن كافور مديحًا، أو هجاء، فنراه يحدث عن نفسه، وهي هنا نفس تعتد بكبرياء خاص، عميق، يستند قبل أي شيء آخر على تفرده وعبقريته، وعلى ما تعتمل به نفسه من طموح كان يرفد شعريته ببلاغتها الخاصة، فهو إذ يفتقد ملك الإمارة ومالها يعتز بالشعر ويراه معادلًا فعليًا للأشياء كلها، إذ هو حين يمتدح صديقه “أبو شجاع فاتك”، وهو من أهدى إليه الأراضي والبيوت، لا ينسى أنه ليس ثريًا ولا حاكمًا، فيفتتح قصيدته بذلك البيت الخالد، وكان عنه هو:
“لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم يسعد الحالُ”.
قول يشي بما يضمره صاحبه، وهو بالتأكيد يعادل تلك الأراضي والبيوت والأموال، لأنها تذهب ويظل خالدًا يخترق التاريخ والعصور، ويطل على بشر الأيام الآتية. ستتوزع الدراسات الشعرية على كبار شعراء العربية، فيرى بعضهم أن أبو تمام هو أعظم من رسم الصورة الشعرية، والبحتري هو فارس القصيدة المموسقة وأميرها، والمعري هو شاعر الفلسفة، أو فيلسوف الشعر والشعراء، حتى إذا وصلنا إلى أحمد بن الحسين، نراه يتنكب عن ذلك “الاختصاص”، ويقنعنا أنه ملك الشعر كله بكل أبوابه وموضوعاته وقضاياه، إذ هو من يكتب وكأنه يغلق باب الإبداع خلفه:
“كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا”.
هذا البيت الذي يفتتح قصيدة غضبه من سيف الدولة، ورحيله عنه، إذ يحمل لغة الحكمة وخلودها، يفتح الباب للبيت الذي يليه، والذي يحمل عاطفة مشبوبة تحدث عن اللحظة، وعن صاحبها:
“حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارًا فكن أنت وافيا”.
يلاحظ دارس تجربة المتنبي الشعرية عزوفه عن شعر التركيب اللغوي، أو كما يقال “التلاعب بالألفاظ”، فهذا الشاعر المسكون بالفكرة والرؤية برع في الوصول إليهما والتعبير عنهما من خلال وسيلته الأثيرة والأكثر التصاقًا بالشعر، ونعني الصورة الشعرية: المتنبي شاعر يرى بمخيلته،
وهو إذ يعبر عن الواقع والأفكار يذهب نحو استعادة الأشياء بحدقة المخيلة، فنراه يرسم ويقترب كثيرًا من التشكيل، ولكن من دون أن يفقد الأفكار، فهو أولًا وثانيًا، وللمرة المليون، شاعر الفكر الذي يحمل رأيًا في السياسة والحرب، كما في الحب وشؤون الحياة اليومية.
من هنا بالذات، جاء جهده الشعري مكرسًا لمزيج الفكرة والمخيلة على نحو لم تعرفه الشعرية العربية قبله، ولا بعده، رغم مرور ألف سنة ونيف على رحيله عن عالمنا. نقرأ قصائد ـ تفترض موضوعاتها بساطتها ـ فنعثر على براعة المخيلة وتحليقها إلى مديات عليا كما في قصيدته في رثاء أخت سيف الدولة مثلًا:
“طوى الجزيرة حتى جاءني نبأ
فزعت منه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملًا
شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرق بي”.
جدّة خبر الموت تجعل الشاعر لا يصدق، بل هو يهرع إلى الكذب، لعله يسعفه، ليفاجأ أن الكذب ذاته يؤكد له صحة الخبر. هو المتنبي مالئ الدنيا وشاغل ناسها، الذي “نظر الأعمى إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم”، وهو وحده من يقبض على ناصية الخيال، فيحلق به ليقول من علياء شاهقة صورًا وفنًا تشكيليًا مغمسًا بنداوة عبقرية تضع الشعر في رحاب الخلود.
رغم ملاحظات تطال “نظرة عنصرية” في هجاءاته الكثيرة لكافور، إلا أنه قدم في تلك الهجاءات بعضًا من عيون شعره، بل قدم اعتداده وطموحه الذي يجعله يزاحم الملوك وأصحاب الحكم، ويرى نفسه ندًّا لهم، ولعل هذه المسألة بالذات تؤشر إلى رؤيويته وتوجهه الأهم في كل ما كتب،
وهو أنه شاعر يتحدث مع التاريخ، بل هو بالأدق يتحدث مع الخلود، ويذهب بكلية شعره ووجوده نحوه بجموح مخيلته وبقوة سبكه اللغوي، ولكن أيضًا وأساسًا برؤيته للأشياء والواقع في حركيتها، فالمتنبي، بمعنى ما، مشدود طيلة الوقت بتحقيق هدف ما، أو صبوة محددة تتناغم في روحه، وتبث فيه عزمًا لا يكلُّ. هو يعرف كيف يجعله جزءًا حيويًا من الشعر، وقد نجح ببراعة في جعله قوام الشعر كله، وغايته النبيلة.
هل كان المتنبي شاعرًا تقليديًا؟
سؤال يفرض نفسه من خلال اتكاء دعاوى الكلاسيكيين العرب ضد خصومهم من شعراء الحداثة باللجوء إلى عظمة المتنبي وشعره، وكأنهم يقولون لهم: هل تستطيعون تحقيق ما حققه المتنبي؟
الحق أن السؤال الذي يبدو منطقيًا الى حدود بعيدة يدفعنا في دورنا أن نسأل أصحابه الكلاسيكيين: وهل استطعتم أنتم؟
ليس لنا أن نرسم ملامح تجربة لم تتحقق في زماننا، بل جاءتنا من العصر العباسي المتأخر، لكننا، واعتمادًا على عظمة المتنبي وموهبته ونباهته، نعتقد أنه، كشاعر حمل التجديد دائمًا، سيكون في مقدمة صفوف المجددين والحداثيين لو أنه عاش في زماننا الراهن، وتجاور مع الحضارة الجديدة، وأدواتها التي طالت بالتغيير كافة الآداب والفنون، بل وخلقت، أو ساهمت في خلق، فنونًا أخرى لم تكن موجودة من قبل، وهي فكرة تجعلنا نرى الفارق الكبير بين لغة المتنبي ولغة “جد الشعراء” ومؤسس الشعر العربي الأهم امرىء القيس، وما حملته تلك التجربة العظيمة، وبالذات معلقته، من مفردات انقرضت ولم تعد متداولة في أيامنا تجعل شعره في حاجة مستمرة للاستعانة بقواميس اللغة، في حين أن من يقرأ ديوان المتنبي سيكتشف بيسر أن تلك “المعضلة” غير موجودة تقريبًا، والفضل في ذلك يعود بالتأكيد إلى ما بين الشاعرين من دهر طويل طوت فيه أمة العرب كثيرًا من مفردات لغتها، وأضافت مفردات جديدة فرضتها الحضارة الجديدة.
المتنبي “نام ملء جفونه عن شوارد الدنيا”، لكن شعره العظيم ظلَ نداء الحياة للمستقبل، ولعلي به يرانا اليوم بعين الشاعر الرائي ويخرج لنا لسانه ويقول:
“أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”.
بل يرى الكوارث والعجز في دنيا العرب، فيتذكر بيته الشعري الخالد:
“وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل”.