ترجمةعلم الاجتماع

ما مفهوم “ضد السوسيولوجيا” عند “آلان تورين”؟

ترجمة: رسلان عامر

يُعد عالم الاجتماع الفرنسي الحديث آلان تورين (Alain Touraine)، الذي خـُصص هذا المقال لأعماله، أحد منتقدي علم الاجتماع الكلاسيكي، وقد صاغ مبادئ “الأنتيسوسيولوجيا” (ضد علم الاجتماع)، وأنشأ “علم اجتماع الفعل” (Sociologie de l’action)، وهو على هذا الأساس، يصف الحالة الاجتماعية المستقبلية، المسماة “المجتمع المبرمج“.


ويعتبر تورين ممثلا بارزا لـ “علم اجتماع الأزمات”. أفكاره راديكالية ولا هوادة فيها، وأول ما يفعله هو إصلاح حالة الأزمة في العلوم الاجتماعية الحديثة، والتي تبدو له حتمية في المرحلة الحالية من تطورها، ولكن ليس ميؤوساً منها، فعلم الاجتماع سيتم إحياؤه، ليس إذا لم يدرك حالة الأزمة الخاصة به.


ولم يوصف أزمة المجتمع نفسه، وحسب، بل  إذا أدرك أيضا أن السبيل الوحيد للخروج منها هو “العودة إلى الإنسان”؛ ويروج تورين بشكل صريح “الأنتيسوسيولوجيا”(Antisociologie)  بحجة أن بناء النظم السوسيولوجية الكلاسيكية هو الذي أدى إلى الأزمة.


وهكذا، في شخص المفكر الفرنسي، نلتقي، من ناحية، ناقدا جذريا للمجتمع الحديث وعلم الاجتماع الحديث، ومن ناحية أخرى، مدافعا عن علم الاجتماع غير الكلاسيكي، الذي طور هو نفسه نسخته الأصلية.


الأعمال الرئيسة لألان تورين هي “علم اجتماع الفعل” (1965)، “عودة الإنسان الفاعل. مقال في علم الاجتماع” (1984)، “إنشاء المجتمع المبرمج” (1973)، “المجتمع ما بعد الصناعي” (1969).


وقد كان أشهر كتبه في بلادنا هو كتاب “عودة الإنسان الفاعل” (Le Retour de l’Acteur)، والذي من خلال تحليله، برأينا، ينبغي للمرء أن يبدأ تحليل أعمال تورين.


أساس كتاب تورين “عودة الإنسان الفاعل” تم نشره فعليا في مقالات ومقطوعات كتابية، يرجع تاريخ أقدمها، وفقا لاعترافات المؤلف نفسه، إلى عام 1973، وآخرها إلى عام 1984، لكن طول فترة تأليف الكتاب وتعدد الأفكار المتضمنة فيه لا يجعله انتقائيا، وباتساق مدهش، يعرض تورين، في عمله الفكرة الأكثر أهمية بالنسبة له.


وهي الحاجة إلى إنشاء علم اجتماع جديد، علم اجتماع الفعل: «غدا، من المحتمل أن تظهر الحركات الاجتماعية والاتفاقيات السياسية، والحاضر لا يتميز فقط بانحلال الماضي والشعور العام بالأزمة، ولكن أيضا بالدعوة إلى الشخصية الفاعلة (subjet).


إلى ضرورة التشكيك في جميع أشكال التنظيم الاجتماعي والمطالبة بالحرية الإبداعية، وهذا الكتاب مخصص لهذه اللحظة بالذات، إنه لا يحتوي فقط على تأملات حول عودة الشخصية الفاعلة، بل يهيئ لظهورها» [10. ص .199].


المؤلف نفسه هو إنسان فاعل، بمعنى أنه إنسان فعل. إنه يؤمن بفعالية النظرية وقدرتها على التأثير على الوعي العام والعلاقات الاجتماعية، وربما بحرارة مفرطة، يدعو إلى تكوين مفهوم اجتماعي لا يغير الأفكار عن المجتمع فحسب، بل يجعله أيضا أكثر كمالا.


وفي الوقت نفسه، لا تبدو أفكار تورين يوتوبية على الإطلاق، إنه لا يبني مشاريع من أجل مستقبل رائع، ولكنه يلتقط فقط خصوصيات المجتمع الصناعي الحالي الحديث، في محاولة لتحديد الاتجاهات في تطوره.


وهذا ممكن فقط إذا كانت هناك نظرية قادرة على وصف الواقع الاجتماعي في وحدته وتنوعه، وعلم الاجتماع الكلاسيكي لا يستطيع القيام بذلك، لذا فإن المهمة الأولى هي تحليل أوجه القصور فيه. 


يرى تورين أن الخطأ الرئيس في علم الاجتماع الكلاسيكي هو التزامه بتكوين وصف منهجي للحياة الاجتماعية من خلال مفهومي “المؤسسة” (institute) و”الإنشاء الاجتماعي” (socialization)، المرتبطين معا بمفهوم الدور.


بالطبع، هذا المنهج في علم الاجتماع هو ميزة ت. بارسونز (T. Parsons)؛ لكن الآن بالضبط الشخصية التي حاولوا وصفها بمساعدة هذا النظام، والتي تم سحبها إلى ما لا نهاية من إطارها، رَفضت، كشخصية رئيسة للقيام بلعب الأدوار، التصرف وفقًا للنص المكتوب، وأفسدت الصورة المثالية تقريبا للواقع الاجتماعي.


فما الذي يبقي لعلم الاجتماع ليفعله في ظل هذه الظروف؟ إنه فقط إخراج الإنسان ومحاولة تحليله خارج النظام، ولكن هنا تنشأ المشاكل مرة أخرى، فالمجموعة الكاملة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للإنسان تندرج تحت مفهوم “النظام”.


ومثل هذا الإنسان، بالطبع، هو شخصية بالمعنى الأرفع للكلمة، ولكن لسبب ما، لا يوجد أناس مستقلون وغير مرتبطين تماما في الواقع الاجتماعي، وعندها ينشأ تطرّف آخر، إنه “وصف للنظام بدون شخصيات فاعلة”، لكن مرة أخرى: من أين يمكن الحصول على مثل هذا النظام لوصفه؟ ومرة أخرى يتلقى علم الاجتماع أسئلة لا يمكنه العثور على إجابات لها. 


بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود نظام يفترض دائما الوحدة الأولية للظواهر الموصوفة، وإذا نظرنا إلى الوراء، بأثر رجعي، فيمكننا العثور على مثل هذه الوحدة، حيث يمكننا أن نجد معنى التاريخ، ولكن كيف نبحث عن معنى الحاضر، بالنظر إلى تنوع الظواهر الثقافية والتحول المستمر للحداثة؟


في مجتمع متغير، من الضروري استبدال المفاهيم المركزية للمجتمع والتطور والدور بمفاهيم التاريخية (historicity) والحركة الاجتماعية (social mouvement) والذات الفاعلة (subjet).


لكن «العقبة الرئيسة أمام إعادة الإعمار هذه هي بلا شك حقيقة أن الشخصيات الفاعلة في المجتمع كانت قادرة في الماضي”التاريخي”.


على تنظيم مسرح اجتماعي ولعب عليه مسرحيات لها معنى وبعض الوحدة فقط إلى الحد الذي تم فيه وضع المعنى الرئيس لعلاقتها فوقها، وكان ذاك المعنى ما وراء اجتماعي (metasocial)، وقد يقول البعض مقدسا، وهذا هو نموذج المجتمع الذي بناه علم الاجتماع الكلاسيكي …» [10. ص 9].


لكن العالم  قد تمت علمنته منذ فترة طويلة، وبما أنه لم يعد ثمة مقدس، فلا يمكن أن يكون هناك أي معنى خارجي للعالم، ومن الواضح، أنه إذا لم يكن هناك معنى خارجي، فيجب البحث عنه داخل الواقع الاجتماعي نفسه، وعمل تورين مكرس للإجابة عن السؤال حول إمكانية ذلك.


لقد تغير المجتمع، ولم ينجح الفكر الاجتماعي في التغير في الوقت المناسب معه، هذه هي الفكرة الرئيسة عند عالم الاجتماع الفرنسي، فالنموذج الكلاسيكي لا يزال شائعا بقدر ما يجذب العديد من العلماء، وبالنسبة لتورين، يشير هذا إلى كسل العقل ووجود “الإغراء” في النموذج الكلاسيكي، إغراء الفهم والتنبؤ على أساس الصيغ المألوفة.


رغم أنها لم تعد تعمل؛ والأكثر إغراءً هو الفكر “ما بعد التاريخي”، مع أفكار التفكك الكامل لكل شيء، وتبرير الاختلاف، وانقطاع العلاقات، والبحث عن الفريد والنادر: «قد يكون من الأصعب مقاومة إغراء الفكر “ما بعد” التاريخي، وعندما تشعر أقدم الدول الصناعية بفقدان السرعة وفقدان هيمنتها السابقة، تشك في نفسها،


وتصبح جاذبية علم اجتماع الأزمة الدائمة، والانجذاب الذي لا يقاوم لفكرة الانحطاط (decadence)، مفهومين. إن البحث عن المتعة، ولكن أيضا عن الاختلاف، وعن الزوال السريع، وعن اللقاء بدلا من العلاقة، وفكرة المجتمع “المتساهل” البحت، تعطي التفكير والسلوك الاجتماعي في عصرنا هذا التلاعب بالألوان،


وتلك الإثارة المفروضة، التي تذكر إلى حد ما بالكرنفالات التي عادت للظهور في شتائنا بعد قرن من الغياب» [10. ص 8]؛ وكفرنسي حقيقي، لا يعرض تورين التخلي عن مثل هذه الصورة الجميلة للانحلال التفككي في المجتمع وفي العلوم الاجتماعية، وهو لا يجادل ضد نظريات “ما بعد التاريخ”، فهي بالتأكيد خالية من أية “كلاسيكية”.


عيب آخر لعلم الاجتماع هو ارتباطه بالإيديولوجيا. وبحسب تورين، فإن موضوع علم الاجتماع هو النظم السياسية والاجتماعية بنفس الوقت، وما يُنظر إليه على أنه نظام ضروري، هو في الواقع مجرد نظام إيديولوجي مقبول يلعب فيه المفهوم الاجتماعي دور القاعدة النظرية (هنا يستشهد تورين بعلم اجتماع بارسونز، الذي كان “مرآة” الولايات المتحدة، باعتباره المثال الأكثر لفتا للانتباه).


هذه هي أيديولوجية المركز، والاندماج الاجتماعي، ومماهاة المجتمع الوطني الثقافي بالحداثة، والنتيجة هي نفسها: لم يتبقَ مساحة للذوات الفاعلة الذين يحملون فقط مجموعة معينة من الصفات وفقا لمكانهم في التسلسل الهرمي الاجتماعي والدور المخصص لهم.


والتي تهم علم الاجتماع من وجهة نظر واحدة فقط: هل يساهمون في التقدم، الذي يُفهم على أنه التحسين المستمر للتنظيم الاجتماعي القائم أم لا؟ والشخصية الفاعلة، بحسب تورين، يجب أن تحتل موقعا وسيطًا بين العقل، الذي يجسده النظام الاجتماعي، والإيديولوجيا التي يجب أن تقاومها هذه الشخصية الفاعلة.


هذه هي المقاربة الماركسية للشخصية، التي يتم كبحها في هذا التفسير من قبل الحتمية الاقتصادية. لكن هناك خيار آخر، مع نفس النتيجة السلبية، يقدمه علم الاجتماع الوظيفي: «إنه يستبدل الجهات الفاعلة الجماعية بفئات أو مستويات أو طبقات أو مجموعات إحصائية أخرى يحددها مستوى المشاركة الاجتماعية» [10. ص 14]. 


لقد تم استبدال علم الاجتماع الكلاسيكي بعلم الاجتماع النقدي، والذي يسميه تورين، ليس بدون سبب، “أنيتسوسيولوجيًاً”، والذي كشف عن العنف والقمع وراء النظام، واكتشف اللاعقلانية في التحديث العقلاني، وأصبحت الفكرة الرئيسة هي فصل النظام عن الشخصية الفاعلة، وأن الفرد، على الأرجح، يحتاج إلى الحماية من النظام بدلاً من الأساليب المؤسسية للتنشئة الاجتماعية.


وأن تتعلم الشخصية، باعتبارها القيمة الرئيسة، أن تعيش بطريقة لا يعرقلها فيها النظام، الذي تمثله الدولة في المقام الأول. لم يعد مطلوبا من الفرد أن يكون لديه وعي واضح بالانتماء إلى مجموعة اجتماعية، فالمهم هو إدراك الذات والرغبة في الحفاظ على التفرد.


«أخيرا، والأهم من ذلك، تبين أنه تم الفصل بين معايير أداء المجتمع والتطور التاريخي. لم يعد يتم تعريف التغيير التاريخي على أنه تقدم أو تحديث، ولكن كمجموعة من الاستراتيجيات التي تسعى إلى الاستخدام الأمثل للموارد المحدودة والتحكم في مناطق عدم اليقين» [10. ص 15].


وتم استبدال الاجتماعية (sociality) بالسياسة، التي اتخذت أحد شكلين: الشمولية، أو القوة البيروقراطية التي تقاتل في السوق السياسية، وكل هذا يدمر علم الاجتماع الكلاسيكي، حيث يتغير موضوع تحليل الواقع الاجتماعي بشكل جذري، وكما يؤكد تورين، فإن عواقب هذا التدمير متنوعة ومعقدة.


لكنها تحمل “التيار الجديد” الضروري للعلم: «أولاً وقبل كل شيء، الغائية (finalism) التي تتصف بها الحداثة تفسح الطريق لتحليل أكثر علمية للعلاقات الاجتماعية، ومن بين أنقاض النظريتين التطورية والوظيفية، ينمو تحليل متشابك للثقافة والاقتصاد وحتى الأنظمة الاجتماعية التي تستبعد أي إشارة إلى طبيعة المجتمع أو معنى التاريخ.


لم يعد “المجتمع” موضوعا لعلم الاجتماع، هذا الموضوع أصبحه السلوك والعلاقات الاجتماعية» [10. ص 16]. “المجتمع” مفهوم لا معنى له ومتناقض، وبالتالي، يصبح علم المجتمع كذلك، ثم من الممكن اعتبار علم الاجتماع طريقة تاريخية لفهم المجتمع في المجتمع الرأسمالي، فيما يؤدي تحوّل المجتمع إلى تغيير طريقة فهمه، وهكذا تنشأ “الأنتسوسيولوجيا”.


في الوقت نفسه، وكما يبدو أنه ينبغي أن يحدث، لا يقوم تورين على الإطلاق بالكرازة بالفردانية والتحرر الكامل للإنسان من المجتمع، وعلى الرغم من الانفعالية الواضحة لتصريحاته، فإن الإنشاءات لا تفقد منطقها، والأهم من ذلك أنها لا تتعارض مع العقل السليم؛ والمطالبة بالحرية الكاملة للإنسان في المجتمع تعني محاربة طواحين الهواء.


فالإنسان مرتبط بالبيئة الاجتماعية، والاستقلال المطلق مستحيل بالنسبة له، ولا يمكنه أن يوجد، لأنه لا يمكنه أن يوجد، ولذا  فالأمر لا يستحق الإصرار على تدمير أي مبدأ من مبادئ وحدة الحياة الاجتماعية، وإنما هناك حاجة ببساطة إلى “فكرة جديدة للحياة الاجتماعية..”.


ووفقا لهذه الفكرة، فمن الضروري أن يتم في مفهوم المجتمع تحديد المكونات التي كانت دائما تشكل سماته المتكاملة، والثقافة بينها هي في المقام الأول؛ وهكذا، سيظهر موضوع جديد للعلاقات الاجتماعية، وهو، بمصطلحات تورين،  الحركات الاجتماعية،


وفكرة تورين هذه يصفها ف. كوركيوف (Philip Corcuf)، مؤلف العمل المثير “السوسيولوجيات الجديدة” (les nouvelles sociologies)، بهذه الطريقة: «إن علم اجتماع الفعل الذي طوره آلان تورين منذ أوائل الستينيات ليس علم اجتماع للفعل المحلي الذي يُنظر إليه من خلال سلسلة من الأفعال والتفاعلات، ولكنه مقاربة للإطار التاريخي العام للفعل» [4. ص 145]. 


هذا هي المقاربة التي يمليها المجتمع المدني الناشئ، الذي يفهمه تورين على أنه مجتمع يشارك فيه عدد كبير من الناس في الحياة الاجتماعية، ويصر على أن علم الاجتماع الكلاسيكي يطابق مفهومي المجتمع المدني والدولة (بالمعنى الدقيق للكلمة، هو بالطبع مخطئ، ولكن هنا من الضروري الأخذ في الاعتبار كيف يفسر المؤلف كل من هذه المفاهيم)..


يقترح تورين التخلي عن التعارض المعتاد بين نظريات ماركس وفيبر والجمع بين أفكار السيطرة (ماركس) والقيم (فيبر)، فـ «علم اجتماع الفعل يرفض ذلك التفسير للشخصية الفاعلة عبر الإشارة إلى مكانها في النظام، وعلى العكس من ذلك،


فهو يرى في أي موقف نتيجة للعلاقات بين الشخصيات الفاعلة الذين لديهم توجهات ثقافية معينة ويشاركون في النزاعات الاجتماعية، وإذا كان يعلق أهمية حاسمة على مفهوم الحركة الاجتماعية، فليس لأن ذلك يمثل إجابة على موقف معين، بل لأنه يدعو إلى التشكيك في علاقات السيطرة التي تسمح للشخصية الفاعلة – ويمكن تسميتها الطبقة الحاكمة- بالتحكم  بالموارد الثقافية الرئيسية المتاحة» [10.


ص 21]. هذا ما يحصل عليه تورين من “تهجين” ماركس وفيبر (ومن غير المرجح أن أيا من هذين الكلاسيكيين المحترمين كان سيحب مثل هذا التفسير).


ومع ذلك، يوجد الآن الشيء الرئيس لعلم اجتماع الفعل، الذي حلم به تورين، والذي يقدر على “توضيح” “غموض” الفكر الاجتماعي، الذي بات برأيه ملحوظا في الآونة الأخيرة. و هكذا يمكن الانتقال من مناهضة علم الاجتماع (antisociology) إلى علم اجتماع الفعل.


إن المفهوم الأساسي لنظرية تورين هو، بالطبع، فئة “الفعل الاجتماعي”، فـ »بدلاً من البحث عن ضمانات، أي مبادئ إضفاء الشرعية على الفعل البشري في علاقة الأشياء خارج العالم البشري، كالنعمة الإلهية، ومطالب العقل أو معنى التاريخ.


فالمجتمع الذي وصل إلى أعلى مستوى من التاريخية يحدد الإنسان فقط من حيث الأفعال والعلاقات« [10. ص 19]، والفعل لا يحتاج إلى تعريفات خارجية، تماما كما أنه ليست هناك حاجة إلى معايير محددة بدئيا للفعل في المجتمع.


بطبيعة الحال، فإن فعلية (actionism) تورين ليست بأي حال من الأحوال المحاولة الأولى لبناء علم اجتماع للفعل، دعونا نتذكر، على سبيل المثال، فيبر؛ ومع ذلك، ففي تفسير الأخير، كانت مهمة علم الاجتماع هي تحديد المعنى الذاتي للفعل، في حين أن تورين لا يهتم بوعي الفاعل، ولكن بمجمل العلاقات الاجتماعية التي يشارك فيها، إضافة إلى ذلك.


فهذا ليس نهجا ماركسيا، والاختلاف هنا في وجهة النظر، ماركس يحكم من وجهة نظر الطبقة، تورين من وجهة نظر الفرد، وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم “الفعل” لا يشير فقط إلى الذات الفردية، ولكن أيضا إلى المجموعات الاجتماعية من مختلف المستويات.


وهذا هو نشاط “الذات التاريخية”؛ ونظرا لأن تورين حدد لنفسه مهمة شرح تطور المجتمع كنتيجة للعلاقة بين الفعل وأنظمة القيم المعيارية، فإن الثقافة تصبح العامل الرئيس الذي يؤثر على الفعل، وموضوع التحليل ليس طريقة عمل الأنظمة الاجتماعية، ولكن “تشكيل الفعل التاريخي”، أي الطريقة التي يصنع بها الناس التاريخ.


وبالتالي، فالمجتمع هو عبارة عن مجموعة من أنظمة الفعل، وتورين يميز ثلاثة أنظمة للفعل: التاريخية، والنظام المؤسسي والنظام التنظيمي؛ يتسبب النظام المؤسسي في حدوث تغييرات في المجتمع؛ يحدد نوع المأسسة (institutionalization) نوع التحولات التي تحدث في المجتمع، فيما يضمن النظام التنظيمي توازن المجتمع، ويساهم في الحفاظ على سلامته.


تحدد التاريخية التوجهات الاجتماعية والثقافية للمجتمع، وهي الأهم بالنسبة لتورين، لأن هذا تحديدا هو الذي يجعل من الممكن التخلص من الاختزالية التي ابتلي بها علم الاجتماع (أي اختزال المجتمع إلى أنواع أقل تعقيدا): «التاريخية ليست فكرة ولا حالة مادية، إنها جوهر الفعل الاجتماعي»[20. ص 27].


التاريخية هي فعل يمنع إعادة إنتاج النظام الحالي، إنها مفتاح تطور المجتمع، لأنها هي نفسها تضع المبادئ التوجيهية لهذا التطور، والصراعات التي تحدث في المجتمع هي صراعات للسيطرة على التاريخية، حيث يتم التحكم دائما من قبل الطبقة الحاكمة، بينما يسعى الآخرون إلى التحكم.


درجة التاريخية تختلف في المجتمعات المختلفة، فإذا كان المجتمع يتغير فقط على مستوى الاستهلاك، أي أنه يستخدم جميع الموارد المتاحة على نطاق واسع ويوجهها للحصول على الحد الأقصى من الإنتاج، فيمكن تعريفه على أنه زراعي.


نوع آخر من المجتمع هو التجاري، وهنا يحدث التغيير الذاتي على مستوى الاستهلاك، ويؤدي تنظيم التجارة وتقنينها إلى التخصص والتمايز، ومع ذلك، في مثل هذا المجتمع، دائما ما تكون التقاليد الشركاتية والمهنية قوية جدا، وهذه المحافظة تضع حدودا معينة للتنمية.


عندما تخترق التاريخية المجالات في ما وراء الاستهلاك والتوزيع، وتصل إلى الإنتاج، يظهر مجتمع صناعي، ويتم توجيه جميع الموارد الآن إلى تنظيم الإنتاج، لكن تورين يؤكد أن الأمر لا يتعلق بالاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، بل فقط في تنظيم أفضل لعملية العمل.


لذلك يجب أن يكون هناك مجتمع ما بعد صناعي تتجه فيه الاستثمارات إلى إنتاج وسائل الإنتاج، وهذا ينطبق على الإنتاج ككل، حيث يؤثر هذا الإجراء على مجالين رئيسين: العلوم والتكنولوجيا، وإدارة الإنتاج، التي تستخدم الآن أنظمة معقدة للمعلومات والاتصالات.


من مخطط تطور المجتمعات الذي قدمه تورين، يتضح أن التطور الاجتماعي لا يشكل خطا مستمرا واحدا موجها نحو “مستقبل مشرق”، وليس من قبيل المصادفة أنه كلف نفسه بمهمة إنشاء علم اجتماع يتخلص من نظرية التطور والغائية.


لذلك، فكل نظام جديد للفعل التاريخي يتوافق مع أنماط مختلفة نوعياً من الإدراك، وأنواع التراكم، والنماذج الثقافية. ومع ذلك، في مجتمع وصل إلى مستوى معين من التاريخية، تستمر مستوياته الدنيا، المميزة للمرحلة السابقة، بالوجود.


وهذه هي المقاربة التي تتوافق مع مناهضة التطورية (anti-evolutionism) من قبل تورين؛ وبشكل عام، لا يمكن للتنمية أن تستمر بشكل متسق وتدريجي بدون قفزات ثورية، وعلاوة على ذلك، تبقى النزاعات في المجتمع دائمة، فقط خصائصها والمشاركون فيها يتغيرون، وتورين يعتبر الصراع مصدرا أزليا للتطور.


دعونا نلاحظ لحظة محددة ليست قليلة الأهمية عند تورين، فهو يعتقد أن مفهوم “ما بعد الصناعي” (post-industrial) لا يتناسب تماما مع نوع المجتمع، وهذا ما لاحظه في فرنسا في ستينيات القرن العشرين.


تركز هذه التسمية على تقنية معينة، على الرغم من أنها ليست واضحة جدا، (وبالمناسبة، كان العديد من الباحثين الاجتماعيين، مثل دانييل بيل “Daniel Bell”، راضين جدا عن هذا المصطلح). لكن بغضّ النظر عن الأهمية التاريخية للتكنولوجيا.


فإنها لا تستحق منحها مثل هذه الامتيازات العظيمة، كما يقول تورين، ومن المعقول بدرجة أكبر تسمية النوع الجديد من المجتمع على أنه “مبرمج”، وهذا يشير إلى قدرته على إنشاء نماذج لإدارة الإنتاج والتنظيم والتوزيع والاستهلاك.


لم يكن نشوء المجتمع ما بعد الصناعي ناتجا عن تأثير خارجي، وهذا لا يشبه حتى قوانين التاريخ. يمكن أن ينشأ هذا النوع من التنظيم الاجتماعي فقط بسبب تأثير المجتمع على نفسه: فعل على مستوى عالٍ من التاريخية، التي طورها المجتمع، على المجتمع.


وهذا ما تؤكده الخصائص الرئيسية للمجتمع المبرمج. المجتمع ما بعد الصناعي، بحسب تورين، هو مجتمع للمعلومات والاتصال، ومن الواضح أن من يمتلك المعلومات يمتلك العالم، ويتحكم بقدر ما يشارك الأفراد اليوم في فرق مُدارة ليس فقط في الإنتاج، كما هو الحال في المجتمع الصناعي، ولكن أيضا في جميع مجالات الحياة. 


وعلى عكس العديد من منظري المجتمع ما بعد الصناعي، لا يميل تورين إلى رؤية كارثة في التغييرات الجارية، وهو يعتقد أن المجتمع المبرمج لا يعني على الإطلاق توحيد معايير ومقاييس الحياة، بل على العكس من ذلك، فهو يوفر مزيدا من المعلومات لعدد أكبر من الناس.


وبالتالي يمنح حرية الاختيار، ويتعلق الاختيار بكل شيء: سلع وخدمات، وسياسة، وتعليم، وفن، ولا يمكن لوم وسائل الإعلام على إتاحة مثل هذا التنوع. 


في مجتمع مبرمج، يفقد الاقتصاد مكانته الخاصة كمحدد لأي ظاهرة اجتماعية. الآن هو نفسه بشكل عام يعتمد بشكل كبير على المعرفة والتعليم والمعلومات والثقافة، كما ويتغير أيضا الهيكل الاجتماعي للمجتمع، الذي لم يعد يتحدد بمجموع العلاقات الاقتصادية (وجود أو غياب الملكية وفقا لماركس).


ولكن بالعوامل الاجتماعية. إن السؤال عن البنية الاجتماعية دائما ما يكون هو مشكلة اختيار معيار للتقسيم الطبقي، ومن مفهوم المجتمع المبرمج يتضح أن مثل هذا المعيار لا يمكن أن يكون إلا التعليم والوصول إلى مصادر المعلومات.


وعندها تكون الطبقة الحاكمة هي المجموعات الاجتماعية التي تتمتع بأفضل تعليم وأكبر قدر من المعرفة. في مصطلحات تورين، هذا هو مبدأ الجدارة. من بين هؤلاء، تحقق الأكثرية مكانة رائدة في المجتمع بفضل قدراتها ومواهبها الشخصية، لكن هذه المجموعة النخبوية هي ذات طابع مغلق، ولذا فهي تحاول إبعاد الغرباء.  


يحتاج التكنوقراط (حكم الكفاءة) إلى منظمة بيروقراطية، لذا فإن المجموعة التالية من حيث التأثير ودرجة توافر المعلومات هي البيروقراطيون أو المديرون المحترفون، وبالإضافة إلى ذلك، يوجد في المجتمع المبرمج مجموعة كبيرة إلى حد ما، ولكنها مجزأة، من الموظفين التقنيين أو موظفي الخدمة.


وهؤلاء جميعا تعارضهم الطبقة العاملة، أي أولئك الذين يعملون مباشرة في الإنتاج؛ ومع ذلك، وعلى الرغم من كل تطرفه و”يساريته”، لا يَعتبر تورين أن الطبقة العاملة قادرة على إحداث تحولات ثورية، خاصة وبالأخص أن النزاعات في المجتمع الحديث لا تنشأ حول إعادة توزيع الملكية.


ولكن حول امتلاك التاريخية، أي القدرة على الشروع في تغييرات اجتماعية. إن الصراع بين المعرفة والمهنية (أي الجدارة) وبين البيروقراطية، غير القادرة على الإبداع الفكري، ولكن التي تنظم آلية التحكم بالمجتمع، هو الصراع الرئيس في عصرنا.


وهكذا فإن مفهوم أ.تورين يحتوي على الموضوعات الرئيسة التالية: 

– تحليل أوجه القصور في النظرية الاجتماعية الكلاسيكية التي أدت إلى ظهور “الأنتيسوسيولوجيا”.


– النص على ضرورة إعادة الذات الفاعلة (subject) إلى مجال المعرفة السوسيولوجية.


– لا يمكن لعلم الاجتماع المناسب للوضع الاجتماعي والثقافي المعاصر إلا أن يكون علم اجتماع فعل.


– منذ الستينيات في القرن العشرين، سجل الباحثون ظهور نوع جديد من المجتمع. هذا مجتمع ما بعد صناعي (مبرمج)، حيث تحتل فيه المعلومات (أي القدرة على امتلاك المعرفة) مكانة رائدة.


  • المراجع:

1- إ. أ. غروموف & أ. يو. ماتكيفيتش & ڤ. أ. سيمونوف، السوسيولوجيا النظرية الغربية، بطرسبورغ،1996.

2- تاريخ علم الاجتماع النظري في أربع مجلدات، المجلد الرابع، بطرسبورغ، 2000.

3- أي. أ. كابيتونوف، سوسيولوجيا القرن العشرين، روستوف-نا-دونو، 1996.

4- ف. كوركيوف، السوسيولوجيا الجديدة، موسكو & بطرسبورغ، 2002.

5- ڤ. إي. غورباتوف، السوسيولوجيا الغربية الحديثة، روستوف-نا-دونو، 2001.

6- ل. يو. مشيرياكوفا، الخطاب الاجتماعي الحديث: ما بعد الحداثة في سياق النظريات الاجتماعية غير الكلاسيكية، موسكو، 2005.

7- مقالات عن تاريخ علم الاجتماع النظري في القرن العشرين، موسكو، 1994. 

8- ت. بارسونز، حول بنية العمل الاجتماعي، موسكو، 2000.

9- علم الاجتماع على عتبة القرن العشرين: اتجاهات البحث الرئيسة، موسكو، 1999.

10- أ. تورين، عودة الإنسان الفاعل- مقال عن علم الاجتماع، موسكو، 1998.

11- أ.  تورين، الموضوع الديمقراطي في المجتمع الحديث // علم الاجتماع على عتبة القرن الحادي والعشرون: الاتجاهات الرئيسية للبحث، موسكو، 1999.

12- أ. تورين، من التبادل إلى الاتصال: ولادة مجتمع مبرمج // موجة تكنوقراطية جديدة في الغرب، موسكو، 1986.

13- أ. تورين، هل نستطيع العيش معا؟ // موجة ما بعد الصناعة الجديدة في الغرب: مقتطفات، موسكو، 1999.

14- پ. ڤ. فيديرينكو علم الاجتماع الكلاسيكي والنظرية الحديثة // الفكر الفلسفي والاجتماعي، عدد 1-2، 1995. 

15- هولتزمان ل. كيف تصنع نشاط ما بعد الحداثة // أسئلة الفلسفة، عدد 12، 2006

16- يو. ڤ. ياكوفيتس. تشكيل نموذج ما بعد الصناعة // أسئلة الفلسفة، عدد 1، 1997. 

17- جهود وآفاق التحديث في الأزمة، باريس 1998.

18- أ. تورين، المجتمع ما بعد الصناعي، باريس 1969.

19- أ. تورين، من أجل السوسيولوجيا، باريس، 1969.

20- أ. تورين، إنتاج المجتمع، باريس، 1973.


  • الكاتبة:

ليوبوف يوريفنا برونزينو (Lyubov Yurievna Bronzino) (مواليد 1972)، دكتورة في علم الاجتماع، أستاذ مشارك في قسم علم الاجتماع بجامعة الصداقة بين الشعوب في روسيا.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى