يدرس علماء الاجتماع الأحداث الاجتماعية والتفاعلات والأنماط، حيث يسعون إلى تطوير نظريات سوسيولوجية لشرح أسباب قيام المجتمعات الإنسانية ومعرفة آليات تطورها والتفاعلات القائمة بين أفرادها في واقعهم الاجتماعي، ودراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها النتاج الأولي للاجتماع الإنساني وما يتمخض عنها من مشكلات.
بذلك تعتبر النظرية في علم الاجتماع، بمثابة طريقة علمية ومنهجية لشرح الجوانب المختلفة للتفاعلات الاجتماعية ولإيجاد اقتراحات قابلة للاختبار تسمى فرضيات تسعى إلى تحليل وتفسير ونقد المجتمع.
تأخذ النظرية العلمية مكاناً متميزاً في المنهج العلمي الحديث، وفي نسق فلسفة العلم الحديثة. ففي المنهج العلمي تُعد الخطوة النهائية في إنشاء النظرية العلمية، وهي التتويج النهائي لخطوات المنهج العلمي.
وحصاد خطواته الأخيرة. فكل ما يهدف إليه المنهج العلمي نجده دوماً في النظرية العلمية، فهي التي تحشد الوقائع والمفهومات والفروض والقوانين في سياق ملتئم واحد.
ويقال عن النظرية بأنها ” ضرورة من ضرورات العلم ” لماذا ؟ لأن الحقائق التي نصل إليها عن طريق التجارب العلمية أو عن طريق الملاحظة لا يمكن أن نتركها مبعثرة غير متماسكة، بل إن الفكر الإنساني يحاول دائماً أن يجمع بينها ولم شملها في نظام واحد متناسق يربط أجراءها ويجعل منها وحدة متصلة التفكير. هذه الوحدات المتصلة من الحقائق والأقوال هي ما يسمى بالنظرية العلمية. والنظريات العلمية في تطور مستمر، فهي تنمو بنمو البشرية وترتقي بارتقائها.
ويقول الدكتور علي ليلة في كتابه بناء النظرية الاجتماعية ” يشكل ظهور النظرية في بناء العلم دالة على نضج بنائه الفكري واكتماله، وبرغم أن النظرية هو المكون الأخير الذي يكتمل به بناء العلم، إلا أنها تظل الوحدة القادرة على منح العلم هويته. وهي المفهوم الفعال القادر على توجيه إنجازات العلم وحركته في دراسة الظواهر التي تشكل مجال فاعليته وإطار بحثه وإدراكه “.
إن هدف العلم هو الوصول إلى تحقيق ثلاثة أشياء رئيسية تتعلق بمادته أو موضوعه، الوصف والتفسير والتنبؤ ( أي وصف الظاهرة وتفسيرها والتنبؤ بما يترتب عليها ) وهذه العمليات الثلاث تفسر بوضوح السبب في كون “النظرية” هي المدخل الأولي لأي علم، فعملية الوصف تعني ببساطة ملاحظة الظاهرة وتسجيل هذه الملاحظات بانتظام، ولكن هذا يتطلب أن يكون لدى الباحث أساساً نظرياً أو منطقياً يستند عليه، وهنا يأتي دور النظرية، فعملية التفسير إنما تتم على أساس نظري، وهدف النظرية هو تفسير للعلاقات المتداخلة للظاهرة والهدف من هذه العملية بالطبع هو نفس الهدف الأسمى للعلم وهو التنبؤ، أي توقع الحدث أو نتائجه المستقبلية.
تختلف النظريات السوسيولوجية في نطاقها اعتماداً على حجم القضايا التي من المفترض أن تشرحها. وتتعلق نظريات المستوى الكلي بالقضايا واسعة النطاق ومجموعات كبيرة من الناس (الماكرو سوسيولوجي)، بينما تنظر نظريات المستوى الجزئي إلى علاقات محددة للغاية بين الأفراد أو المجموعات الصغيرة (الميكرو سوسيولوجي).
بهذا تحاول النظريات الكبرى شرح العلاقات واسعة النطاق والإجابة على أسئلة أساسية مثل لماذا تتشكل المجتمعات ولماذا تتغير. أما النظريات الجزئية تحاول فهم وتأويل كيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه، بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد والجماعات. بمعنى آخر تسعى إلى فهم المعاني التي ينتجها الأفراد في تفاعلاتهم جوهر الأطروحة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي فيمكن اعتباره اتجاهاً في تأويل المعنى أساساً.
وعلى العموم، تتطور النظرية الاجتماعية باستمرار ولا ينبغي اعتبارها كاملة. حيث لا تزال النظريات الاجتماعية الكلاسيكية تعتبر مهمة وحديثة، لكن النظريات الاجتماعية الجديدة والمعاصرة تبنى على عمل أسلافها وتضيف إليها.
يسعى علم الاجتماع إلى تقديم وجهات نظر واسعة ومتعمقة تساعد على تحليل وتفسير والتنبؤ في العديد من الجوانب المختلفة للحياة الاجتماعية، تسمى بالنظريات السوسيولوجية التي تتكون من مجموعة من المقولات النظرية التي تم تجريدها من خلال دراسة الواقع الاجتماعي بهدف صياغة تعميمات والوصول إلى القوانين التي تحكم الواقع الاجتماعي، كما يسعى البحث الاجتماعي بالمقابل إلى اختبار قدرة مقولات نظرية ما في فهم وتفسير الواقع من خلال توظيف مقولاتها في استنباط التساؤلات المفسرة لمشكلة البحث.
بذلك ترتكز النظرية الاجتماعية الحديثة على فكرة عامة مؤداها أن الحياة الاجتماعية يمكن ردها إلى قوانين علمية، تسمح لنا بالتنبؤ بنتائجها متى توفرت الظروف المهنية لتحقيق مقدماتها وعواملها. كما أن النظرية الاجتماعية، لا تتكلم فقط عن العمليات والصراعات والمشكلات الاجتماعية، بل هي كذلك جزء من تلك العمليات السببية الفاعلة والمواقف التي تعمل فيها تلك الآليات السببية.
بمعنى آخر النظرية برأي عالم الاجتماع نيقولا تيماشيف تمثل : ” أعلى درجات المعرفة ” لأنها الوسيلة لإقامة المعرفـة عن العالم الاجتمـاعي عبر الجهود المتراكمة لرجال العلم الذين يتخصصون في علم بعينه تنتهي إلى صياغة مجموعة كبيرة من التعميمات التي تنتمي إلى نماذج متعددة ومختلفة ومن هنا تظهر الحاجة الى تجميع شتات النتائج المبعثرة حتى نتمكن من الوصول إليها وتوحيدها ويتحقق هذا التوحيد ببناء النظرية.
وفي علم الاجتماع يوجد ثلاث نظريات تهيمن على التفكير السوسيولوجي باعتبارها توفر تفسيرات مفيدة لدراسة الظواهر الاجتماعية والمشاكل الناتجة عن الواقع، مثل نظريات: الوظيفة البنيوية، ونظرية الصراع، والتفاعل الرمزي.
أولاً- النظرية البنائية الوظيفية: يعتبر المنهج البنائي constructivist approach عملية أساسية أولية في تحليل الظاهرة الاجتماعية تهدف إلى وصف وتصنيف الأنماط البنائية الواضحة في الظاهرة الاجتماعية، ويحاول المنظر السوسيولوجي في هذا المنهج الكشف عن الخصائص والسمات البنائية الظاهرة في التفاعلات الاجتماعية داخل النسق الاجتماعي وتحديد العلاقات والروابط القائمة داخل هذا البناء.
أما فيما يتعلق بالمنهج الوظيفيapproach functional يسعى هذا المنهج إلى دراسة كيفية قيام الأنساق الاجتماعية بأدوارها في البناء الاجتماعي بهدف تحقيق التوازن والاستقرار في إطار تحليله للنظام الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، تعتبر الأسرة ظاهرة اجتماعية ونظام اجتماعي من أهم وظائفه تحقيق التوازن والاستقرار والتكامل بين أفرادها.
كذلك نجد أن لكل النظم والظواهر الاجتماعية الأخرى وظيفة تؤدي إلى المحافظة النظام وتوازنه. وهنا يجب أن نشير إلى الوظائف تختلف بنائياً باختلاف حجم المجتمع وكثافته.
يؤكد أنصار البنائية الوظيفية التقليدية أو المعاصرة على أهمية وجود نوع من الإجماع أو الاتفاق أو الشعور العام لقيام نوع من التفاعل الاجتماعي المتماسك، وذلك حول عدد من القيم والمعتقدات العامة (الجمعية) التي يجب أن يتفق حولها أعضاء النسق الاجتماعي، بحيث يكون هناك اتفاق حول هذه القيم الجمعية Collective Values سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية أو مجموعة العادات والتقاليد والأعراف والقوانين،
ولاسيما أن هذه القيم هي التي تشكل درجة الوعي الاجتماعي والاتفاق العام الذي يحدد بدوره الإيديولوجيا الاجتماعية social Ideology التي تعزز من عمليات التماسك والتضامن الاجتماعي واتفاق الأعضاء ومكونات النسق أو التنظيم حول جميع الأهداف والغايات العامة، التي يسعى ويهدف إليها كل من النسق الأكبر بأعضائه الذين ينتمون إليه،
ولقد حرص الكثير من رواد نظرية البنائية الوظيفية على ضرورة وضع شروط ومتطلبات وحوافز وجزاءات لكي تعزز من عمليات وجود الوعي والاتفاق الجمعي كي يلعب دوراً أساسياً في عملية التماسك والتضامن الاجتماعي Social Solidarity.
ترجع تسميتها بالبنائية الوظيفية لاستخدامها مفهومي البناء Structure والوظيفة Function، وتنطلق الوظيفية من عدة قضايا مترابطة، فهي تسلم بأن المجتمع يمثل كلاً مؤلفاً من أجزاء مترابطة يؤدي كل منها وظيفة معينة من أجل خدمة أهداف الكل، ومعنى ذلك أن المجتمع ما هو إلا نسق يضم مجموعة من العناصر المتساندة التي تساهم في تحقيق تكامله واستقراره.
ترى هذه النظرية البنائية الوظيفية أن المجتمع يتكون من بنية ذات أجزاء مترابطة مصممة لتلبية الاحتياجات البيولوجية والاجتماعية للأفراد في ذلك المجتمع. نشأت الوظيفية من كتابات الفيلسوف وعالم الأحياء الإنجليزي هربرت سبنسر (1820-1903)، الذي رأى أوجه التشابه بين المجتمع والجسم البشري.
وجادل بأنه مثلما تعمل مختلف أعضاء الجسم معاً للحفاظ على عمل الجسم، تعمل مختلف أجزاء المجتمع معاً للحفاظ على أداء المجتمع. كانت أجزاء المجتمع التي أشار إليها سبنسر هي المؤسسات الاجتماعية، أو أنماط المعتقدات والسلوكيات التي تركز على تلبية الاحتياجات الاجتماعية، مثل الحكومة والتعليم والأسرة والرعاية الصحية والدين والاقتصاد.
طبّق إميل دوركايم (1858-1917) نظرية سبنسر لشرح كيف تتغير المجتمعات وتبقى على قيد الحياة بمرور الوقت. ويعتقد دوركايم أن المجتمع هو نظام معقد من الأجزاء المترابطة والمترابطة التي تعمل معاً للحفاظ على الاستقرار، وأن المجتمع متماسك من خلال القيم واللغات والرموز المشتركة. كان يعتقد أنه لدراسة المجتمع، يجب على عالم الاجتماع أن ينظر إلى ما وراء الأفراد إلى الحقائق الاجتماعية مثل القوانين والأخلاق والقيم والمعتقدات الدينية والعادات والأزياء والطقوس، والتي تعمل جميعها على التحكم في الحياة الاجتماعية.
حدد ألفريد رادكليف براون (1881-1955) وظيفة أي نشاط متكرر على أنه الدور الذي يلعبه في الحياة الاجتماعية ككل، وبالتالي المساهمة التي يقدمها في الاستقرار الاجتماعي والاستمرارية في مجتمع صحي تعمل جميع أجزائه معاً للحفاظ على الاستقرار، وهي حالة تسمى التوازن الديناميكي من قبل علماء الاجتماع اللاحقين مثل تاكوت بارسونز (1902-1979).
الذي يعتبر واحداً من أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ( 1939-1945) تركز اهتمام بارسونز على المجتمع بوصفه نسقاً اجتماعياً مكوناً من نظم متفاعلة ومتضمنات وأخرى متداخلة مع بعضها البعض، وفي تلك المرحلة أيضاً ظهر تأكيد بارسونز على فكرة التدعيم الذاتي والنسق المتوازن، وهو ذلك الكل المعقد الذي يشتمل على الميكانيزمات الخاصة التي تسهم بدورها في الاستقرار الداخلي للمجتمع، حيث كان بارسونز يهتم في فترة ما قبل الحرب بالقيم الأخلاقية بوصفها بواعث داخلية على الفعل الاجتماعي.
إن هذه الفترة المبكرة كانت تركز على أهمية تدعيم النسق، أما في الفترة الثانية فقد نظر إلى استقرار النسق الاجتماعي، باعتباره متوقفاً على محاولاته الخاصة التي يبذلها من أجل التكامل والتوافق، بدلاً من النظر إلى إرادة الأفراد وبواعثهم ولذلك انصب اهتمام بارسونز على أن تدعيم النسق الاجتماعي من أجل تكامله مما يجعل الأفراد متوافقين مع ميكانيزماته ونظمه، ويعودهم باستمرار على أن يدعموا النسق بما يحتاج إليه.
ويؤلف الفعل الاجتماعي بالنسبة إلى بارسونز الوحدة الأساسية للحياة الاجتماعية، ولأشكال التفاعل الاجتماعي بين الناس، والفعل الاجتماعي بالتعريف هو سلوك إرادي لدى الإنسان لتحقيق هدف محدد، وغاية بعينها، وهو يتكون من بنية تضم الفاعل بما يحمله من خصائص وسمات تميزه من غيره من الأشخاص. وموقف يحيط بالفاعل ويتبادل معه التأثير. وموجهات قيمية وأخلاقية تجعل الفاعل يميل إلى ممارسة هذا الفعل أو ذاك، والإقدام على ممارسة هذا السلوك أو غيره.
ولهذا نلاحظ أن بارسونز يدرس الفعل الإنساني بوصفه منظومة اجتماعية متكاملة، يسهم كل عنصر من عناصرها في تكوين الفعل على نحو من الأنحاء، وهي مؤلفة من أربع منظومات فرعية تتدرج من المنظومة العضوية إلى المنظومة الشخصية، فالاجتماعية فالثقافية والحضارية.
كما يعتقد دوركايم أن الأفراد قد يشكلون المجتمع، ولكن من أجل دراسة المجتمع، يتعين على علماء الاجتماع النظر إلى ما وراء الأفراد إلى الحقائق الاجتماعية. تخدم كل من هذه الحقائق الاجتماعية وظيفة واحدة أو أكثر داخل المجتمع. على سبيل المثال، قد تكون إحدى وظائف قوانين المجتمع حماية المجتمع من العنف، بينما تتمثل وظيفة أخرى في معاقبة السلوك الإجرامي، بينما تتمثل وظيفة أخرى في الحفاظ على الصحة العامة.
وفي سياق النظرية البنائية الوظيفية، أشار روبرت ميرتون (1910-2003)، وهو منظر وظيفي بنيوي مشهور، إلى أن العمليات الاجتماعية غالباً ما يكون لها وظائف عديدة. الوظائف الواضحة هي نتائج العملية الاجتماعية المطلوبة أو المتوقعة، في حين أن الوظائف الكامنة هي النتائج غير المرغوب فيها لعملية اجتماعية. تتضمن الوظيفة الواضحة للتعليم الجامعي، على سبيل المثال: اكتساب المعرفة، والتحضير لمهنة، وإيجاد وظيفة جيدة تستخدم هذا التعليم.
تشمل الوظائف الكامنة في سنوات دراستك الالتقاء بأشخاص جدد، والمشاركة في الأنشطة اللامنهجية، أو حتى العثور على الزوج أو الشريك. وظيفة أخرى كامنة للتعليم هي إنشاء تسلسل هرمي للتوظيف على أساس مستوى التعليم الذي تم تحقيقه. يمكن أن تكون الوظائف الكامنة مفيدة أو محايدة أو ضارة. تسمى العمليات الاجتماعية التي لها عواقب غير مرغوب فيها لعمل المجتمع بالاختلالات الوظيفية.
في التعليم، تشمل أمثلة الخلل الوظيفي الحصول على درجات سيئة، والتغيب عن المدرسة، والتسرب، وعدم التخرج، وعدم العثور على وظيفة مناسبة.
ختاماً، يؤكد أنصار البنائية الوظيفية التقليدية أو المعاصرة على أهمية وجود نوع من الإجماع أو الاتفاق أو الشعور العام لقيام نوع من التفاعل الاجتماعي المتماسك، وذلك حول عدد من القيم والمعتقدات العامة (الجمعية) التي يجب أن يتفق حولها أعضاء النسق الاجتماعي، بحيث يكون هناك اتفاق حول هذه القيم الجمعية Collective Values سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية أو مجموعة العادات والتقاليد والأعراف والقوانين،
ولاسيما أن هذه القيم هي التي تشكل درجة الوعي الاجتماعي والاتفاق العام الذي يحدد بدوره الإيديولوجيا الاجتماعية social Ideology التي تعزز من عمليات التماسك والتضامن الاجتماعي واتفاق الأعضاء ومكونات النسق أو التنظيم حول جميع الأهداف والغايات العامة، التي يسعى ويهدف إليها كل من النسق الأكبر بأعضائه الذين ينتمون إليه،
ولقد حرص الكثير من رواد نظرية البنائية الوظيفية على ضرورة وضع شروط ومتطلبات وحوافز وجزاءات لكي تعزز من عمليات وجود الوعي والاتفاق الجمعي كي يلعب دوراً أساسياً في عملية التماسك والتضامن الاجتماعي Social Solidarity.
- نقد نظرية البنائية الوظيفية:
إن أحد أهم الانتقادات الموجهة للنظرية البنائية الوظيفية هو أنها لا تستطيع تفسير التغيير الاجتماعي بشكل كافٍ على الرغم من أن الوظائف هي عمليات. ومن المشكلات أيضاً الطبيعة الدائرية إلى حد ما لهذه النظرية: يُفترض أن أنماط السلوك المتكرر لها وظيفة،
ومع ذلك فإننا ندرك أن لها وظيفة فقط لأنها متكررة. علاوة على ذلك، قد تستمر الاختلالات الوظيفية، على الرغم من أنها لا تؤدي وظيفة، والتي تتعارض على ما يبدو مع الفرضية الأساسية للنظرية. يعتقد العديد من علماء الاجتماع الآن أن الوظيفة لم تعد مفيدة كنظرية على المستوى الكلي، لكنها تخدم غرضاً مفيداً في بعض التحليلات متوسطة المستوى.
ويمكن لنا إجماع أهم الانتقادات التي وجهت إلى النظرية البنائية الوظيفية بما يلي:
- التصور المفرط للطبيعة الاجتماعية للكائنات الإنسانية وذلك بالإشارة إلى المماثلة العضوية فإن الأعضاء لا تفكر، في حين يمتاز الناس بالتفكير. أي أنها لم تفسح المجال للنظر في الفعل الاجتماعي المقصود. مثل بواعث الفعل الاجتماعي عند فيبر.
- المبالغة بدور الإجماع والتقليل من شأن مفهوم الصراع في قيام المجتمع بأداء وظائفه. ومعنى ذلك أن الإجماع شرط سابق على التوازن والاستقرار والتوازن.
- قد يكون أهم نقد وجه إلى نظرية البنائية الوظيفية- وخاصة بارسونز باعتباره أشهر ممثلي النظرية الوظيفية المعاصرين- هو ذلك النقد الذي وجهه عالم الاجتماع الأمريكي ” رايت ميلز” في كتابه ” الخيال السوسيولوجي “، فقد رأى ” ميلز” أن ” بارسونز” قد حول كل أبنية المجتمع إلى مجالات رمزية، وبهذه الكيفية يقدم ” بارسونز” تبريراً أخلاقياً لاستمرارية ذوي السلطة في المجتمع في التحكم فيه، ويضفي على حكمهم صفة المشروعية.
- إن تأكيد ” بارسونز” على فكرة التوازن عن طريق الخضوع للمعايير السائدة والمشتركة بين الناس، إنما هو تحذير من أي تمرد أو محاولة لتغيير الأوضاع القائمة، كما أن افتراض أن هناك قيماً ومعايير مشتركة بين جميع الأفراد لا يستند إلى أي أدلة امبيريقية.
- الفصل المضلل بين البناء والنسق أي بين أجزاء المجتمع أو مؤسساته وقيام المجتمع بوظائفه مما يؤدي إلى تعطيل حركة المجتمع ومعالجة مفهوم التغير من زاوية جزئية تهدف إلى الإبقاء على سيطرة النظام القائم.
- كما ينتقد ” بوبوف” عالم الاجتماع السوفيتي النظريات الوظيفية على أساس أنها تصور المجتمع على أنه نظام أبدي لا يعرف التطور والانتقال إلى وضع جديد كما أنه يفسر الحياة الاجتماعية بمتاهات من الجدل المدرسي الكلامي والتصورات القيمية البعيدة والمنفصلة عن الحياة الواقعية، كما ينتقد ” بارسونز” على أساس أنه يقرر أن بواعث وأهداف الأفعال الاجتماعية لا تحددها الأسباب المادية، بل تحددها سيكولوجية الأفراد بوصفهم ممثلين يقومون بأدوار محددة لهم من قبل أن تحددها القيم التي يعتبرها مطلقة وأبديه، لأن مصدرها هو مجال غير حسي أو تجريبي، أي أنه ” الله” وهنا يتفق ” بارسونز” مع كل من يبررون للسلطة حكمها في كل زمان بادعاء إنها ممثلة لإرادة الله.
وأخيراً … نستنتج مما سبق أن النظرية البنائية الوظيفية تعرضت لأوجه نقد عديدة وأهمها هو إهمالها لمشاكل التغير الاجتماعي، أو كيف ولماذا يحدث هذا التغير، وقد اتهم بارسونز بأنه تقبل الأسطورة الأمريكية التي تحث على الثبات الاجتماعي أكثر من اهتمامه بقضايا التغير الاجتماعي.
ثانياً- نظرية الصراع: تعد النظرية الصراعية من أهم النظريات المعروفة في علم الاجتماع نظراً لكون الصراع يخيم على علاقات البشر ويخيم على علاقات الجماعات والمجتمعات. ونظرية الصراع تكون شائعة بين علماء الاجتماع لأنه لا يوجد نظرية واحدة بل توجد عدة نظريات صراعية على جانب كبير من الأهمية والفاعلية. وإذا كان التركيز لدى الصراعيين على علاقات التناقض واللا مساواة والصراع، فإنهم يختلفون حول العامل الأساسي لهذه العملية، كما أنهم يختلفون في نظراتهم للنتائج التي يمكن أن تترتب على عملية الصراع.
– أهم الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها اتجاه الصراع الاجتماعي في علم الاجتماع في الجوانب والنقاط التالية:
1- يحدث الصراع الاجتماعي نتيجة غياب الانسجام والتوازن والنظام والاجماع في محيط اجتماعي معين.
2- المصالح هي عناصر هامة للحياة الاجتماعية، وخاصة المصالح الطبقية.
3- توجد وتتكون الحياة الاجتماعية من جماعات ذات مصالح مختلفة ومتناقضة ومتصارعة.
4- تولّد الحياة الاجتماعية بطبيعتها الصراع.
5- تتضمن التباينات الاجتماعية أشكالاً مختلفة من القوة.
6- الأنساق والنظم الاجتماعية ليست متحدة أو منسجمة.
7- تميل الأنساق والنظم الاجتماعية للتغير والتبدل.
8- الصراع الاجتماعي هو أداة الطبقة المستغَلة لتأكيد ذاتها وحقوقها وتحريرها من الطبقة المستغِلة.
9- يهمين من يملك القوة على تشكيل إيديولوجية المجتمع وقواعد السلوك بما يسمح لمن يملك القوة إعادة إنتاج الواقع بما يتفق مع مصالحه، وذلك من خلال سيطرتهم على الوسائل والمؤسسات المرتبطة بتشكيل الأفكار والأشخاص.
تنظر نظرية الصراع إلى المجتمع على أنه قائم على المنافسة الصراع على الموارد المحدودة. هذا المنظور هو نهج على المستوى الكلي يتم تحديده بشكل كبير مع كتابات الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس، الذي رأى المجتمع على أنه مكون من أفراد في طبقات اجتماعية مختلفة يجب أن يتنافسوا على الموارد الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية مثل: الملكية، السيادة، الغذاء، والإسكان، والعمل، والتعليم ووقت الفراغ.
تعكس المؤسسات الاجتماعية مثل الحكومة والتعليم والدين هذه المنافسة في عدم المساواة المتأصلة فيها وتساعد في الحفاظ على البنية الاجتماعية غير المتكافئة. يستطيع بعض الأفراد والمنظمات الحصول على موارد والاحتفاظ بها أكثر من غيرهم ، ويستخدم هؤلاء “الفائزون” سلطتهم ونفوذهم للحفاظ على المؤسسات الاجتماعية. ينتج عن إدامة السلطة استمرار الاضطهاد.
كما اقترح العديد من المنظّرين اختلافات حول هذا الموضوع الأساسي مثل عالم الاجتماع البولندي النمساوي لودفيج جومبلوفيتش (1838-1909)، الذي يرى بأن الصراع متأصل في المجتمعات الإنسانية منذ النشأة يتوارثه الأفراد عبر الجينات، حيث أرجع الصراع إلى العوامل التطورية، ويرى أن التطور الثقافي والاجتماعي نتاج خالص للصراع بين الجماعات الاجتماعية،
وهو يماثل الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح بين الأفراد، والصراع الجماعي في نظريته عن التطور يحل محل الصراع الفردي، فالجماعة فقط هي العنصر الهام، لأن الفرد ما هو إلا نتاج جماعي. وقد وسّع جومبلوفيتش أفكار ماركس من خلال القول بأن الحرب والغزو هما أساس الحضارات كنتيجة مباشرة للرغبة في تحسين الأحوال الاقتصادية. كما كان يعتقد أن النزاعات الثقافية والعرقية أدت إلى تحديد الدول وتعريفها من قبل مجموعة مهيمنة لديها سلطة على مجموعات أخرى من أجل السيطرة.
اتفق عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) مع ماركس لكنه اعتقد أيضاً أنه بالإضافة إلى عدم المساواة الاقتصادية، فإن عدم المساواة في السلطة السياسية والبنية الاجتماعية تسبب الصراع. وأشار فيبر إلى أن المجموعات المختلفة تأثرت بشكل مختلف على أساس التعليم والعرق والجنس، وأن ردود أفعال الناس على عدم المساواة كانت معتدلة من خلال الفروق الطبقية ومعدلات الحراك الاجتماعي، وكذلك من خلال التصورات حول شرعية من هم في السلطة.
يعتقد جورج سيميل، أحد قراء ماركس، أن الصراع يمكن أن يساعد في دمج المجتمع واستقراره. وقال إن حدة الصراع تختلف باختلاف الانخراط العاطفي للأطراف، ودرجة التضامن داخل الجماعات المتعارضة، ووضوح الأهداف وطابعها المحدود. أظهر سيميل أيضاً أن المجموعات تعمل على خلق تضامن داخلي، ومركزية السلطة، وتقليل المعارضة. وكلما كانت الرابطة أقوى، كان الخلاف أضعف. يمكن أن يؤدي حل النزاعات إلى تقليل التوتر والعداء ويمكن أن يمهد الطريق لاتفاقيات مستقبلية.
وفي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، طور الفلاسفة الألمان، المعروفون باسم مدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية كتوضيح للمبادئ الماركسية. النظرية النقدية هي توسيع لنظرية الصراع وهي أوسع من مجرد علم الاجتماع ، حيث تدمج العلوم الاجتماعية والفلسفة الأخرى. النظرية النقدية هي نظرية شاملة وتحاول معالجة القضايا البنائية التي تسبب عدم المساواة. يجب أن تشرح ما هو الخطأ في الواقع الاجتماعي الحالي، وتحديد الأشخاص الذين يمكنهم إجراء تغييرات، وتقديم أهداف عملية للتحول الاجتماعي.
وفي الآونة الأخيرة، تم تفسير عدم المساواة على أساس الجنس أو العرق بطريقة مماثلة وحددت بنية السلطة المؤسسية التي تساعد في الحفاظ على عدم المساواة بين المجموعات. وفي هذا السياق، قدمت جانيت سالتزمان شافيتز (1941-2006) نموذجاً للنظرية النسوية التي تحاول شرح القوى التي تحافظ على عدم المساواة بين الجنسين بالإضافة إلى نظرية حول كيفية تغيير مثل هذا النظام.
وبالمثل، نشأت نظرية العرق من خلال التحليل النقدي للعرقية والعنصرية من وجهة نظر قانونية، حيث تنظر نظرية العرق النقدي في عدم المساواة البنائية على أساس الامتياز الأبيض والثروة والسلطة والمكانة المرتبطة بهما.
– نقد نظرية الصراع: تماماً كما تم انتقاد الوظيفة البنائية لتركيزها كثيراً على استقرار المجتمعات، تم انتقاد نظرية الصراع لأنها تميل إلى التركيز على الصراع مع استبعاد الاعتراف بالاستقرار. العديد من البنى الاجتماعية مستقرة للغاية أو تقدمت تدريجياً بمرور الوقت بدلاً من التغيير المفاجئ كما تقترح نظرية الصراع.
كما أن نظرية الصراع بالغت في تأكيد أهمية الصراع الاجتماعي وضعف اهتمامها بشكلة النظام الاجتماعي العام والثبات داخل المجتمع، على الرغم من أن نظرية الصراع لها القدرة على التعامل مع التاريخ والتغييرات التي تحدث في المجتمع والنظم الاجتماعية، إلا أن هذه النظرية تواجهها بعض الصعوبات في التعامل مع بعض مظاهر التكامل، والاستقرار، والاتفاق الاجتماعي الذي يسود بعض المجتمعات التقليدية.
ثالثاً- نظرية التفاعل الرمزي: كما نعلم أن النظريات البنائية تهتم في تفسير العلاقة بين الذات والمجتمع من زاوية تأثير المجتمع على الذات أما أنصار نظرية التفاعل الرمزي فإنها تهتم بالدرجة الأولى بكيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه، بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد والجماعات.
بمعنى آخر تمثل المعاني التي ينتجها الأفراد في تفاعلاتهم جوهر الأطروحة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي فيمكن اعتباره اتجاهاً في تأويل المعنى أساساً.
تشير الافتراضات الرئيسية لنظرية التفاعل الرمزي إلى أن الإنسان قادر على تحسين ذاته، كما تؤكد بعض هذه الافتراضات أن الإنسان يقوم بصياغة وتشكيل الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه من خلال عملية التفاعل الاجتماعي.
ترى هذه النظرية أن الأفراد متفاعلون فيما بينهم بواسطة مجموعة من الرموز وتتوقف الحياة على مدى قدرة الناس على إنتاج الرموز واستخدامها والكيفية التي يرمزون بها إلى بعضهم البعض وإلى غيرهم من الناس أو الأشياء أو الأحداث أو الأفكار أو أي شيء في الوجود وهي ترى أن سلوك الأفراد نتاج لعلاقاته الاجتماعية،
ويرى منظرو هذه النظرية أن التشتت الاجتماعي وأن أي خلل في شخصية الفرد أو سلوكه الاجتماعي يؤدي إلى خلل في عملية التفاعل الاجتماعي، لأنها تعتقد أن الحياة الاجتماعية التي نعيشها ما هي إلا حصيلة التفاعلات التي تقوم بين البشر والمؤسسات والنظم الاجتماعية .
ينظر هذا التحليل السوسيولوجي (قصير المدى) إلى الأنساق الاجتماعية باعتبارها نتاجاً إنسانياً يتشكل عملياً بموجب تفاعلات الأفراد مع بعضهم البعض وهذه الفكرة تقف على الجانب الآخر من الوجود الاجتماعي الذي ركزت عليه المدرسة البنائية في علم الاجتماع المعاصر.
تندرج نظرية التفاعل الرمزي تحت نظريات علم الاجتماع الجزئي، حيث تركز على العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع. يُعتقد أن التواصل – تبادل المعنى من خلال اللغة والرموز – هو الطريقة التي يفهم بها الناس عوالمهم الاجتماعية. فقد لاحظ المنظرين هيرمان ورينولدز أن هذا المنظور يرى الناس على أنهم نشيطون في تشكيل العالم الاجتماعي بدلاً من مجرد التصرف بناءً عليه.
بمعنى آخر، ترى هذه النظرية أن الناس يتجهون في حياتهم من الذات إلى خارجها مؤكدين أن الأفراد هم الذين يشكلون المجتمع، من خلال التأكيد على أهمية المعاني للاتصال بما يشمله من لغة وإيماءات وإشارات، بالإضافة إلى التوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف مواقف معينة خلال عملية التفاعل الاجتماعي.
يعتبر جورج هربرت ميد ( 1863-1931) مؤسساً لنظرية التفاعل الرمزي على الرغم من أنه لم ينشر أبداً أعماله فيها. صاغ طالب ميد، هربرت بلومر (1900-1987) مصطلح “التفاعل الرمزي” وحدد هذه المقدمات الأساسية: يتفاعل البشر مع الأشياء بناءً على المعاني المنسوبة إلى تلك الأشياء، يأتي المعنى المنسوب للأشياء من تفاعلاتنا مع الآخرين والمجتمع، يتم تفسير معاني الأشياء من قبل الشخص عند التعامل مع الأشياء في ظروف معينة.
إذا كنت تحب الكتب، على سبيل المثال، فقد يقترح أحد المتفاعلين الرمزي أنك تعلمت أن الكتب جيدة أو مهمة في التفاعلات التي أجريتها مع العائلة أو الأصدقاء أو المدرسة أو دور العبادة. ربما كانت عائلتك تقضي وقتاً خاصاً للقراءة كل أسبوع، أو أن الحصول على بطاقة المكتبة الخاصة بك كان يعتبر حدثاً خاصاً، أو ارتبطت قصص ما قبل النوم بالدفء والراحة.
يبحث علماء الاجتماع الذين يطبقون مقولات التفاعل الرمزي عن أنماط التفاعل بين الأفراد. غالباً ما تتضمن دراساتهم ملاحظة التفاعلات الفردية على سبيل المثال، في حين أن منظري الصراع الذي يدرس احتجاجاً سياسياً قد يركز على التفاوت الطبقي، فإن التفاعلي الرمزي سيكون أكثر اهتماماً بكيفية تفاعل الأفراد في المجموعة المحتجة، بالإضافة إلى العلامات والرموز التي يستخدمها المتظاهرون لتوصيل رسالتهم.
أدى التركيز على أهمية الرموز في بناء المجتمع إلى قيام علماء الاجتماع مثل إرفينج جوفمان (1922-1982) بتطوير تقنية تسمى التحليل الدرامي. استخدم جوفمان المسرح كمقياس للتفاعل الاجتماعي وأدرك أن تفاعلات الناس أظهرت أنماطاً من ” النصوص ” الثقافية. ووفقاً لجوفمان يمكن تشبيه التفاعل الاجتماعي بالمسرح، والناس في الحياة اليومية بالجهات الفاعلة أي الممثلين على المسرح، كل منهم يلعب مجموعة متنوعة من الأدوار، ويتكون الجمهور من أفراد آخرين يلاحظون تمثيل الأدوار ويتفاعلون مع العروض.
ففي نظرية التفاعل الاجتماعي كما هو الحال في العروض المسرحية هناك منطقة أمامية حيث يكون الممثلون على المسرح أمام الجمهور، ووعيهم بذلك الجمهور وتوقعات الجمهور للدور الذي يجب أن يلعبوه يؤثر على سلوك الممثل، وهناك أيضاً منطقة خلفية أو خلف الكواليس حيث يمكن للأفراد الاسترخاء ومراجعة الدور أو الهوية التي يلعبونها عندما يكونون أمام الآخرين.
ومن الأمور الأساسية في نظرية إرفينج جوفمان فكرة أن الناس وهم يتفاعلون معاً في بيئات اجتماعية يشاركون دائماً في عملية إدارة الانطباع، حيث يحاول كل منهم تقديم أنفسهم والتصرف بطريقة تمنع الإحراج عن أنفسهم أو الآخرين، ويتم ذلك بشكل أساسي من قبل كل شخص يمثل جزءاً من التفاعل الذي يعمل لضمان أن يكون لدى جميع الأطراف نفس تعريف الموقف.
وهذا يعني أن الجميع يفهمون ما هو المقصود بحدوثه في هذا الموقف، وما يمكن توقعه من الأطراف المعنية الأخرى وبالتالي كيف ينبغي أن يتصرفوا هم أنفسهم .ولكن في بعض الأحيان قد يكون من غير الواضح ما هو الدور الذي قد يلعبه الشخص في موقف معين، فيجب عليه أو عليها الارتجال في دوره مع تطور الموقف.
تستخدم الدراسات التي تعتمد على المنظور التفاعلي الرمزي طرق البحث النوعي، مثل المقابلات المتعمقة أو ملاحظة المشاركين، لأنها تسعى إلى فهم العوالم الرمزية التي يعيش فيها الأشخاص موضوع البحث.
البنائية هي امتداد لنظرية التفاعل الرمزي التي تقترح أن الواقع هو ما يبنيه البشر معرفياً. نحن نطور البنى الاجتماعية بناءً على التفاعلات مع الآخرين، وتلك التركيبات التي تدوم بمرور الوقت هي تلك التي لها معاني متفق عليها على نطاق واسع أو مقبولة بشكل عام من قبل معظم المجتمع. غالباً ما يتم استخدام هذا النهج لفحص ما يتم تعريفه على أنه منحرف داخل المجتمع. لا يوجد تعريف مطلق للانحراف، وقد بنت المجتمعات المختلفة معانٍ مختلفة للانحراف، فضلاً عن ربط السلوكيات المختلفة بالانحراف.
إن أحد المواقف التي توضح هذا هو ما تعتقد أنك ستفعله إذا وجدت محفظة في الشارع. في الولايات المتحدة ، يعتبر تحويل المحفظة إلى السلطات المحلية الإجراء المناسب، وسيُنظر إلى الاحتفاظ بالمحفظة على أنه منحرف. في المقابل، تعتبر العديد من المجتمعات الشرقية أنه من الأنسب الاحتفاظ بالمحفظة والبحث عن المالك بنفسك. إن تسليمها إلى شخص آخر، حتى السلطات، سيعتبر سلوكاً منحرفاً.
– نقد نظرية التفاعل الرمزي: تعرضت نظرية التفاعل الرمزي لبعض أوجه النقد على أساس اهتمامها بدراسة الأنساق أو الوحدات الاجتماعية الصغيرة، وصعوبة التعامل مع الجوانب التنظيمية الكبيرة الحجم داخل المجتمع، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع العلاقات بين المجتمعات.
كما أن هذه النظرية لم تساهم في دراسة المجتمعات والنظم الاجتماعية الكبرى، بالإضافة إلى عدم إسهامها في فهم عملية التغير الاجتماعي على نحو النظرية البنائية الوظيفية أو نظرية الصراع. كما أنها ركزت بدراستها على الشخصية أو الذات الفردية واستبعدت ما يحدث في البناء الاجتماعي مما أدى إلى صرف أنظار الباحثين عن دراسة القضايا الأساسية للمجتمع ونقد الأوضاع القائمة.
وعلى الصعيد المنهجي، غالباً ما يتم فحص وتدقيق البحوث التي يتم إجراؤها من خلال هذا المنظور بسبب صعوبة الحفاظ على الهدف. وينتقد آخرون التركيز الضيق للغاية على التفاعل الرمزي. أما المؤيدون، يعتبرون هذا النقد من أعظم نقاط قوتها.
- النظرية الاجتماعية اليوم:
لا تزال هذه النظريات الثلاث توفر الأساس الرئيسي للنظرية الاجتماعية الحديثة والمعاصر على الرغم من تطورها. كانت الوظيفة البنائية قوة مهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الستينيات والسبعينيات، وفي ذلك الوقت، بدأ علماء الاجتماع يشعرون أن البنائية الوظيفية لم تعد قادرة على تفسر التغيرات الاجتماعية السريعة التي تحدث في الولايات المتحدة بشكل كاف آن ذاك. حيث أجبرت الحركة النسائية وحركة الحقوق المدنية الأكاديميين على تطوير مناهج لدراسة هذه الممارسات الاجتماعية الناشئة.
ثم اكتسبت نظرية الصراع مكانة بارزة، مع تركيزها على عدم المساواة الاجتماعية المؤسسية. كما حاولت النظرية النقدية والجوانب الخاصة للنظرية النسوية ونظرية العرق النقدية على إحداث تغيير اجتماعي من خلال تطبيق مبادئ علم الاجتماع.
وفيما يتعلق بنظرية التفاعل الرمزي نجد أنها اكتسبت شهرة واسعة في أعقاب عمل ميد في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كما أدت أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته في ستينيات القرن العشرين المنصرم إلى إعادة تصدر نظرية التفاعل الرمزي على الساحة الأكاديمية لعلم الاجتماع الغربي.
ومن أهم تلك الأحداث ارتباط اليسار الجديد بحركات الاحتجاج الاجتماعي وبالأخص الاحتجاجات الطلابية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية عام 1968، حيث جاءت تلك الأحداث كرد فعل على فشل النظريات البنائية الكبرى (الوضعية، الوظيفية، الماركسية) في سعيها لإيجاد حلول مناسبة للمشاكل التي تعترض المجتمعات الغربية بسبب تعدد الاتجاهات والإيديولوجيات التي تتحكم بنظرتها وفهمها وتفسيرها للواقع الاجتماعي.
بذلك تهتم هذه النظرية بشكل خاص بتحليل الأنساق الاجتماعية الصغرى (الميكرو سوسيولوجي) لتدرس الأفراد في المجتمع ومفهومهم عن المواقف الاجتماعية، والمعاني والأدوار، وأنماط التفاعل الاجتماعي فيما بينهم.
وفي ثمانينيات القرن الماضي تطورت النظرية الاجتماعية وبالأخص بعد بروز مفهوم ما بعد الحداثة، حيث أخذت النظرية السوسيولوجية تؤسس لمداخل نظرية ومنهجية جديدة في رؤيتها للواقع الاجتماعي تأكيداً على رفض المحاولات السابقة على المستوى الكلي لشرح الظواهر الاجتماعية، وفي مطلع القرن الحادي والعشرين قدمت نظريات علم الاجتماع التأويلي – بمختلف منظوراتها – نفسها على أنها الأقدر على تفسير الاجتماع الإنساني من خلال الابتعاد عن أي نظرة ترى المجتمع كياناً قائماً بذاته مستقلاً عن الأفراد المكونين له والتركيز بدلاً من ذلك تركيزاً فجاً على الأساليب التي يخلق بواسطتها البشر عالمهم الاجتماعي.
بمعنى آخر، في علم الاجتماع التأويلي يتم التنكر لكل القوى الخارجية التي يمكنها أن تمارس تأثيراً على الأفراد وتوجه سياقات المعنى في تفاعلاتهم باعتبارهم هم من يشكلون الحقيقة الاجتماعية.
- المراجع المعتمدة:
1- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978.
2- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999.
3- حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021.
4- مصطفى خلف عبد الجواد: نظرية علم الاجتماع المعاصر، دار المسيرة، عمان، ط2، 2011.
5- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.
6- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008.
7- سمير نعيم: النظرية في علم الاجتماع (دراسة نقدية)، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1985.
8- علي ليلة: النظرية الاجتماعية الحديثة ( الأنساق الكلاسيكية )، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الثالث، بدون تاريخ.
9- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.
10- محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975.
11- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد:244، أبريل/ نيسان، 1999.
12- فيليب جونز: النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، مصر العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2010.
13- علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ.