نقد

النقد العربي: مفهومه وتطوره

ما حقيقة المفاهيم النقدية ؟

– يرتبط النقد الأدبي بالأدب ارتباطا وثيقا ، فإذا كان موضوع الأدب هو تصوير الحياة وكوامن النفس الإنسانية وخلجاتها ، ومحاكاة الطبيعة ووسيلته في ذلك التعبير الإنساني الجميل ، فإن موضوع النقد هو الأدب ذاته.
فالنقد هو الأساس الذي يقوم عليه العمل الأدبي ، لأن قواعد النقد مستقاة من الأدب ، فهو الذي يعمل على تطوره ونجاحه.

*أولا : ما مفهوم النقد ؟
– الجواب :
1) مفهوم النقد في اللغة..
جاء في لسان العرب : خلاف النسيئة ، والنقد والتنقاد : تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها ، أنشد سيبويه :
تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ
نفي الدّنانير تنقاد الصياريفِ
ونقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجتُ منها الزيف. 1
وفي حديث الدرداء أنه قال إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك ؛ معنى نقدتهم أي عبتهم واغتبتهم ، 2
وفي معجم مقاييس اللغة ، نقد الدراهم : وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك 3 فالنقد إذن عملية تمييز الصحيح من الزائف.
2) النقد اصطلاحا..
ويعرفه النقاد المحدثون بأنه :” تقويم الشيء ، والحكم عليه بالحسن أو القبح.” 4
وهو في نظر المختصين في الفن تقدير القطعة الفنية ومعرفة قيمتها ودرجتها في الفن ، فالنقد لا يخرج عن معنى ” تمييز الآثار الأدبية وتقديرها ، وبيان ما يداخلها من قوة أو ضعف ، ومن جمال أو قبح أو من امتياز أو تخلف “. 5
ومن أوائل النصوص النقدية التي تعرضت لكلمة النقد ، كتاب ابن سلام الجمحي ، حيث رأى أن الشعر صناعة وعلم يحتاج إلى المثاقفة والمعاينة حين يقول :
“وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم ، كسائر أصناف العلم والصناعات : منها ما تثقفه العين ، ومنها ما تثقفه الأذن ، ومنها ما تثقفه اليد ، ومنها ما يثقفه اللسان ،….ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم ، لا تُعرف جودتهما بلونٍ ولا مسٍّ ولا طراز ولا وسمٍ ولا صفة ، ويعرفه الناقد عند المعاينة ، فيعرف بهرجَها وزائفها وستّوقها ومُفْرَغها …” 6
وقد نجد أيضا كلمة نقد بمعنى التمييز في كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر حيث قال :” ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا…” 7
ونستنتج مما سبق أن النقد في معناه الاصطلاحي لا يخرج عن معنى التمييز للشعر ، جيده من رديئه ، وتقدير الأعمال الأدبية تقديرا صحيحا وبيان قيمتها والحكم عليها.
*ثانيا : ما هي أوليّة النقد وتطوره ..؟
المقصود بالأوليّة : البدايات الأولى التي تولّد منها النقد فقد ارتبطت نشأة النقد بنشأة الشعر لما لهما من علاقة وطيدة ، فإذا كانت بدايات الشعر غير واضحة لعدم دقة تحديد أول شعر قيل في العصر الجاهلي فكذلك كانت بدايات النقد غائبة ، لكن الذي يؤكد وجود النقد إلى جانب الشعر يرافقه في كل مراحله هو هذا النضج الفني الذي نراه في أشعار أوائل شعراء عصر ما قبل الإسلام الذي وصل إلينا تام الأوزان والقوافي في عدد من الدواوين المحققة كديوان امرئ القيس وطرفة بن العبد، وزهير…وغيرهم.
لم يكن الشعر الجاهلي كما وصلنا في صورته النهائية ناضجا ،إنما مرّ بمراحل وضروب طويلة من التهذيب حتى بلغ ذلك المستوى من الإتقان الذي أصبح عليه في أواخر العصر الجاهلي.
وهذا يستوجب وجود شيء عظيم إلى جانب الشعر أخذ بيده وهو النقد.
يؤكد أحمد أمين تطور الشعر: ” ولا شك أنه مرت به أدوار طويلة قبل أن يستوي : من إقواء وبساطة معان وخطأ في التفاعيل ، ونحو ذلك ثم زال ذلك كله على مرِّ الزمان ، ونقد النقاد ” 8
ثالثا : ما مراحل تطور النقد الأدبي..؟
قطع النقد الأدبي مرحلتين أساسيتين وهما :
1) مرحلة النقد المروي
2) مرحلة النقد المكتوب
1) مرحلة النقد المروي :
استمرت هذه المرحلة من العصر الجاهلي حتى أواخر القرن الثاني الهجري ، وكان لهذا النقد سماته وطابعه الخاص .
أ)النقد في العصر الجاهلي :
نتلمس حقيقة النقد في هذا العصر في طبيعة الأحكام النقدية ، التي تدور كلها حول الشعر، فهي أحكام فطرية بسيطة تعتمد على الانطباع الفطري والتأثر الذاتي ، وهذا طبيعي لأن هذه الأحكام مرتبطة بنشأة النقد .
– ماهي صور النقد في العصر الجاهلي ؟
الجواب : ما تعلق بنقد الألفاظ:
لم يكن الشاعر الجاهلي بمنأى عن الوقوع في مثل هذا الخطأ ، فقد وجّه طرفة بن العبد للمسيّب بن علس في قوله :
وقد أتناسى الهمّ عند ادّكاره
بناج عليه الصّيعرية مكدمِ
فقال طرفة : استنوق الجمل 9
والصّيعرية سمة للنوق لا للجمل ، أنكر الناقد (طرفة) على الشاعر كلمة الصّيعرية لأنها من سمات الناقة لا الجمل ، وهذا يدل على بصر الناقد بمعاني الألفاظ ، فالنقد في هذا العصر يستمد سلطانه من المواضعة ، ولذا يستوجب على الشاعر الاحتراس من الخلط بين الأوصاف.
نقد موجه إلى العروض (الموسيقى):
اهتم النقد في العصر الجاهلي بالجانب الموسيقي ومنه ظاهرة الإقواء
الإقواء ومعناه..
ما جاء من المرفوع في الشعر والمخفوض على قافية واحدة كقول النابغة: عجلان ذا زاد وغير مزودِ
ثم قال : وبذلك خبّرنا الغُراب الأسودُ 10
وغيّر النابغة عروضه ( وبذاك تنعاب الغراب الأسودِ)، وهذا النموذج يدل على رقابة النقد التي تستمد أصولها من الحدود الشعرية التي تفرض على الشعر، فهذا اللون من النقد الحضري الذي أباحته طبيعة الحياة وأسلوبها جعلهم يدركون الفروقات الدقيقة بين الهيئات الصوتية ، لرقة حسهم وقوة إدراكهم .
– نقد موجه إلى الصورة الشعرية :
احتكم امرؤ القيس وعلقمة الفحل إلى أم جندب فقالت لهما قولا شعرا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة ، وعلى روي واحد . فقال امرؤ القيس : ” الطويل ” 11
خليليّ مرّا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذّبِ
وقال علقمة : ” الطويل “
ذهبتَ من الهجران في غير مذهبِ ولم يكُ حقا طول هذا التجنبِ
فقالت لإمرئ القيس : علقمة أشعر منك .قال : وكيف ؟ قالت : لأنك قلت :
فللسوط ألهوب وللساق درّة وللزجر منه وقع أخرج* مهذب*
فجهدت فرسك بسوطك في زجرك ومريته* فأتعبته بساقك . وقال علقمة :
فأدركهنَّ ثانيا من عنانه يمرُّ كمرِّ الرائح المتحلِّب*
فأدرك فرسه ثانيا من عنانه لم يضربه ولم يتعبه.
يراعي النقد في هذا النموذج مدى قدرة الشاعر في آداء الصورة الشعرية .
لقد اشترطت أم جندب وحدة القافية والروي ووحدة الموضوع ، كما عللت موقفها النقدي ، فالناقد ينظر إلى الصورة النمطية التي ارتسمت في المخيال الجمعي ، فبقدر محافظة الشاعرعليها بقدر ما ينال إعجاب الناقد. إن أم جندب بإحساسها النقدي ترى أن صورة علقمة أوضح وأجمل من الصورة التي رسمها امرؤ القيس لفرسه فنقدها جزئي مبني على التعليل.
الموازنة بين الشعراء :
فكما فاضلوا بين القصائد ، فكذلك فاضلوا بين الشعراء .
تحاكم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، وعبدة بن الطبيب ، والمخبَّل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر أيهم أشعر ؟
فقال للزبرقان : أما أنت فشعرك كلحم أسخن لا هو أُنْضِجَ فأُكِلَ ولا ترك نيئا فينتفع به . وأما أنت يا عمرو ، فإن شعرك كبرود حبر، يتلألأ فيها البصر ، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر .
وأما أنت يا مخبّل فإن شعرك قصّر عن شعرهم ، وارتفع عن شعر غيرهم .
وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر . 12
يقوم هذا النقد على فهم الناقد لشعر الشعراء وتذوقه له دون تحليل أو تعليل فهو يقدم انطباعا عاما حوله.


  • المراجع :

1 محمد بن مكرم بن علي جمال الدين ابن منظور ، لسان العرب ، مج3، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان، 2002، ص521.
2 المرجع نفسه ، ص521
3 أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين ، معجم مقاييس اللغة ، مج5، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون ، دار الجيل ، بيروت ، ط1، 1991، ص467
4 أحمد أمين ، النقد الأدبي ، دار الكتاب العربي ، بيروت-لبنان ، ط4، 1967، ص17
5 محمد طه الحاجري ، في تاريخ النقد والمذاهب الأدبية ، العصر الجاهلي والقرن الأول الإسلامي ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، بيروت ، دط، 1982، ص5
6 محمد بن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء ، السِّفر الأول ، تحقيق محمد محمود شاكر، دار المدني ، جدة ، ص5
7 قدامة بن جعفر أبو الفرج ، نقد الشعر ، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ، دار الكتب العلمية ، دت ، ص61
8 أحمد أمين ، النقد الأدبي ، ص446
9 أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني ، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ، تحقيق محمد حسين شمس الدين ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، ط1 ، 1995، ص94-95، و ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، ج1، ص166
10 المرزباني ، الموشح ، ص29، والشعر والشعراء، ج1، ص92و145 ، والصناعتين ، ص41،غيّر النابغة قوله : وبذاك تنعاب الغرابُ الأسودُ.
أمن آل ميّة رائح أو مغتد عجلان ذا زاد وغير مزوّد
زعم البوارح أن رحلتنا غدا وبذاك خبّرنا الغراب الأسودُ
11 المرزباني، الموشح ، ص 39، والشعر والشعراء ،ج1، ص193، وأبو هلال العسكري ، الصناعتين ، ص66
* الأخرج : ذكر النعام ، والخرج: بياض في سواد وبه سمي.
* المهذب : المسرع في الطيران و العدو.
*مريت الفرس: إذا استخرجت ما عنده من الجري بصوت أو غيره.
* المتحلب : الذي يسيل سيلانا .
12 المرزباني ، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ، ص 93.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى