جذور الاختلاف بين الجنسين.. هل تغير شيء ؟
اشتغلت العديد من الدراسات في العلوم الاجتماعية والانسانية على مقاربة النوع. من بين العلوم الاجتماعية التي عنيت بدراسة النوع الاجتماع، علم الاجتماع. إذ جعل مجموعة من علماء الاجتماع في العقود المنفرطة من اهتماماتهم مقاربة النوع الاجتماعي، التي أثير حول مفهومها جدل واسع.
ويفيد اصطلاح مفهوم النوع الاجتماعي، ما مفهومه، تلك « التقسيمات والمفاهيم الموازية للأنوثة والذكورة والناشئة نتيجة عوامل اجتماعية وثقافية تختلف باختلاف الشعوب»()، وفي سياق المفهوم لابد من التمييز بين مقاربة الجنس والنوع، فالأول يشير إلى الخصائص الفيزيقية للجسد، بينما في الثاني يبحث في أشكال السلوكات المكتسبة اجتماعيا().
يرى أنتوني غدنز، أن علماء الاجتماع حسب تفسيراتهم للاختلافات وأوجه عدم المساواة بين الجنسين انقسموا إلى “ثلاثة اتجاهات متعارضة”، يرى الاتجاه الأول أن السبب في الاختلاف بين الجنسين وعدم المساواة يتجلى في الخصائص البيولوجيا؛ بينما الاتجاه الثاني يرى المشكل يكمن في عملية التنشئة؛ في حين يرى الاتجاه الثالث، أن الاشكال ناجم عن التصورات الاجتماعية(). لكن، النظريات النسوية، التي هي « مجموعة متنوعة من النظريات الاجتماعية التي يوحدها الالتزام بأهداف حركة المرأة والتحرر من الأبنية والممارسات الاجتماعية التي يهيمن عليها الرجل»()، ترى “الرجل” هو مشكل “المرأة”. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هناك من يجيب على سؤال: ما مصدر مشكلة المرأة؟ يرجعه إلى وظائف الأمومة؛ بينما عزى آخرون الأمر إلى العادات والتقاليد.
وتجاوزا للأشكال المتعلق بمصدر مشكلة المرأة، هناك من يقول برأي مفاده، « أن أنظمة اجتماعية معينة خلال مرحلة معينة من التاريخ هي التي خلقت الوضع الدوني للمرأة وكرست اضطهادها ، لا من قبل الرجل كرجل بل من قبل المجتمع الذي لعب فيه الرجل الدور الأساسي في الانتاج والسلطة السياسية» ().
على واقع تأصيل جذور مشكلة المرأة، حاولت العديد من الدراسات البحث في غمار هذا المبحث المهم من مباحث العلوم الاجتماعية، وكما أشرنا سلفا، جذب هذا الموضوع العديد من الباحثين، من أشهر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو(1930-2002)، صاحب مؤلف « La domination masculine »، الذي ترجمته المنظمة العربية تحت اسم “الهيمنة الذكورية”()، هذا نموذج من نماذج عديدة من الباحثين الذي اهتموا بقضية النوع الاجتماعي.
من بين ألمع الدراسات التي تعد مرجعا مهما، في دراسة مقاربة النوع الاجتماع من حيث جذور إشكالية التمييز بين الجنسين، الدراسة التي قامت بها العالمة الفرنسية فرانسواز اريتييه(1933-2017) .
تعد اريتييه من بين رائدات علم الاجتماع، التي قامت بالعديد من الدراسات، التي ترجمت للغات عدة. ومن الجدير بالذكر عنها، أنها كانت أستاذة مرموقة في الكوليج ذي فرانس، حيث خلفت كلود ليفي ستراوس في مقعده هناك. من بين أهم الدراسات التي أنجزتها فرانسواز اريتييه، دراسة “فكرة الاختلاف بين الجنسيين”، التي تصنف من بين أهم الدراسات التي تناولت مقاربة النوع الاجتماعي. والتي يضمها كتابها الموسوم ب” Masculin/ Féminin”() هذا العمل الذي أنجزته العالمة في تسعينيات القرن لماضي.
ففي هذا العمل المهم_ ذكورة و أنوثة: فكرة الاختلاف _، تناولت العالمة جذور قضية اختلاف بين الجنسين، من خلال العودة للكتاب، الذي يقارب 300 صفحة، مقسم على اثنى عشر فصلا، ومقدمة وخاتمة، عالجت خلالها الباحثة جدور قضية الاخلاف بين الجنسيين، مستندة في متنها على العديد من المصادر والمراجع التاريخية والفكرية والسوسيوانثربولوجيا، التي دلفت لموضع الجنسيين والتمثلات حولها.
لم تقتصر الباحثة على استدعاء أقول والتصورات حول “المرأة” و”الرجل” بل أحالت لمجموعة من الرسومات، ذات رموز ودلالات، لحضارات غابرة، استندت إليها العالمة، كمعطى تاريخي حافل بالدلالات في فكرة اختلاف. هاته الرسومات المنحوتة أو المرسومة على بعض الصخور، اعتمدت من طرف العديد من المهتمين، كشاهد على جدور التمييز والتفريق بين الذكورة والأنوثة. والرجوع إلى تلك الرسومات، ودلالتها، هي في حقيقة الأمر، تشف عن تمثلات اجتماعية لمجموعات وجماعات بشرية قديمة، كانت وقتئذ تشكل ما يمكن أن يطلق عليه التمثلات الاجتماعي، حول الذكورة والأنوثة.
من بين الرسومات المشار إليها، الرسم ذا المنظر الجانبي لنصف رجل ذا مقطع طولي؛ وهذه الشكل موجودة عند بعض الحضارات السابقة، ربط هذا الشكل بشكل المرأة و الرجل الأول ()!
من بين التصورات التي وقفت عليها العالمة، التصور الاغريقي و الهندي حول الشكل الاحادي() الملمع إليه سابقا؛ وفي ذلك تشير، في البدء كان الانسان مستديرا له ظهر و أربعة جوانب و كأنه دائرة، وكانت له أربعة أيادي وسيقان، ووجهان متشابهان؛ حيث كان يسير متدحرجا، ومن خصائصه المميزة أنه كان قوي…فبعد أن تهجم على الآلهة يقول أفلاطون… فلم يجد “زيوس” حلا سوى أن يشطر الأنسان المستدير القوي إلى نصفين …وان عاد لهجومه سيتم شطره لنصف… !هذا تصور أفلاطون عبرت عنه الباحثة بالتصور الاغريقي. أما في التصور الهندي القديمة حول اسطورة النصف الأحادي، يعزو هذا التصور أن النصف الأيمن يخص الرجل بينما النصف الأيسر يخص الأنثى … !
ترى العالمة، أنه هناك دلالة على وجود شكل نصف انسان في العديد من الأماكن المتباعدة جغرافيا، إذ هنالك أشكل ضمن أخرى ابتكرها العقل ليقدم من خلالها تمثيل الأسطورة لجسد الانسان وقوته وقدرته…والاشكال والرموز الأسطورية تتعلق بنصف ذكوري().
على ضوء ما استحضرته اريتييه حول أسطورة النصف الأحادي، والتصورات حوله، وما تنطوي عليه من جذور فكرة الاختلاف، طرحت العالمة سؤالا يتعلق بمن يحدد النوع؟ وجوابا على هذا السؤال استحضرت العالمة جواب أرسطو(أرسطوطاليس) (384-322 ق.م)، الذي يجسد التصور الاغريقي، فحسب أرسطو:
- الذكر هو من لديه القدرة على انضاج الدم وتحويله بقوة الحرارة إلى نطف، الانثى مجرد وعاء …حرارة الذكورة تفوق حرارة الأنثى…أن انجاب الذكور والاناث يعود بالأساس إلى القدرة الذكورية.. وأول الشذوذ عند أرسطو عن القاعدة هو أن يسفر الحمل عن أنثى وليس ذكر! ().
هي جملة التصورات القديمة، التي أحالت إليها العالمة لكي تفكك فكرة الاختلاف بين الجنسين. وعلى اثر فكرة الاختلاف التي حفرت الباحثة في دهاليزها، خلصت أن المرأة منذ القديم، نسج حولها مجموعة من الخطابات من بينها:
- الخطاب الأكثر سلبة اتجاه المرأة: الذي يرى أن المرأة كائن « لا يتحلى بالعقل أو المنطق..نقص في العقلية النقدية..فضولية غير متحفظة..ثرثارة تفشي الأسرار..نمطية تفتقد روح الابداع..الخوف والجبن في طبعها..عبدة لجسدها أحاسيسها..منافقة..دائمة التغيير..غير محل ثقة..خائنة بطبعها..ماكرة فاسدة تملأ الغيرة قلبها..لا تستطيع تكوين زمالات مع مثيلاتها»().
- بينما الخطاب أقل سلبية اتجاه المرأة، يرى أن المرأة: « ضعيفة بطبعها.. تفتقد للإمكانيات التي تجعلها تخوض المغامرات الفكرية أو الجسدية..رقيقة وحساسة تجنح للسلام و الاستقرار والراحة والداعة في المنزل..تهرب من المسئولية..غير قادرة على اتخاذ القرارات..ساذجة..تعتمد على الحدس..فيها حنان وحياء..تحتاج للخضوع للرجل وتوجهه وتحكمه فيها..»()
وترى اريتييه أنه حتى الخطاب الطبي العلمي يغلف الخطابات والمعتقدات الشعبية لما يخدم الخطاب الاديولوجي الخالص اتجاه النوع..ولا يستند على أي حقيقة بيولوجيا بقدر ما ترتبط بالقيم(…) تقول فرانسواز.
من بين الخلاصات التي خلصت إليها اريتييه أن « هذا الخطاب الطبي والفلسفي، الذي يعطي شكلا علميا لمعتقدات شعبية، يشبه الأسطورة من حيث هو خطاب اديولوجي خالص. ولا ترتكز أي من هذه التداعيات على حقيقة بيولوجيا بقدر ما ترتبط بالقيم الايجابية والسلبية المستمدة منذ البداية من الألفاظ ذاتها. وهي مثل الأسطورة . مهمتها إيجاد تبرير لمختلف النظم في العالم ومن بينها النظام الإجتماعي»().
هذا من حيث الخطاب، أم من حيث قضية الاختلاف بين الجنسين، وعلى ضوء مآلات له المجتمعات الحديثة، فتخلص العالمة، وترى لا جديد تحت الشمس، ما عانته المرأة في الماضي يتم اليوم صياغته بشكل آخر ؛ و”العنصر المفرق بين الأجناس، هو عنصر عالمي؛ العقل، والاسطورة، الاديولوجيا هي المسئولة في كل المجتمعات…عن ترسيخ فكرة الفارق بين الأجناس أنه طبيعي.
هذه كانت لمحة مقتضبة عن بعض مضامين التي حملها مؤلف ذكورة وأنوثة، حول فكرة الاختلاف بين الجنسين، التي هي فكرة متجذرة في الوعي الاجتماعي.
()مي الدباغ، وأسماء رمضان، النوع الاجتماعي: نحو تأصيل المفهوم في الوطن العربي واستخدامه في صوغ سياسات عامة فعالة، إضافات العددان 23-24( 2013)، ص 120-121.(نقلا عن MARY ANNE)
()أنتوني غدنز ، علم الاجتماع (مع مداخلات عربية)، ترجمة فايز الصياغ، ط1،(بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005)، ص747.
()جون سكوت، علم الاجتماع: المفاهيم الأساسية، ترجمة محمد عثمان، ط1(لبنان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009)، ص 419.
() خضر زكريا، « ملاحظات حول واقع المرأة العربية ودورها في التنمية»، مجلة شؤون عربي، العدد 31 ( 1993)، ص 55.
()بيير بورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعفراني، ط1(لبنان، المنظمة العربية للترجمة، 2009).
() فرانسواز اريتييه، ذكورة و أنوثة: فكرة الاختلاف، ترجمة كاميليا صبحي،(مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003).
() فرانسواز اريتييه ، ذكورة و أنوثة: فكرة الاختلاف، ترجمة كاميليا صبحي،(مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003)، ص 159.