عرّار .. شاعر المُهمشين
مصطفى وهبي صالح التل شاعر أردني يعتبر أشهر شعراء الأردن على الإطلاق، وواحد من أبرز شعراء الشعر العربي المعاصر، لقب بشاعر الأردن، وعرار الذي كانت حياته نموذجًا عجيبًا للتمرد، والثورة، والانطلاق، والتحدي، وكان شعره مثل حياته تمردًا وثورةً وانطلاقًا. في شعره جودة ورصانة، ومناهضة للظلم ومقارعة للاستعمار.
- حياته
ولد مصطفى وهبي التل (عرار) في مدينة إربد في 25/5/1899، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها. سافر إلى دمشق عام 1912، وواصل تعليمه في مكتب عنبر (مدرسة). وخلال دراسته شارك زملاءه في الحركات التي كانوا يقومون بها ضد الأتراك، فنفي إثر إحدى هذه الحركات إلى بيروت، ولكنه ما لبث أن عاد إلى دمشق مرة أخرى.
في صيف عام 1916 عاد مصطفى إلى إربد لقضاء العطلة الصيفية، وفي أثناء تلك الفترة نشبت بينه وبين والده خلافات حادة، ما جعل والده يحجم عن إعادته إلى مدرسة عنبر في دمشق، وأبقاه في إربد ليعمل في مدرسة خاصة كان قد افتتحها والده آنذاك وسماها “المدرسة الصالحية العثمانية”.
بقي مصطفى في إربد. وعمل في مدرسة والده مضطرًا، واستمرت خلافاتهما واشتدت، فقرر أن يترك إربد، فغادرها في 20/6/1917 بصحبة صديقه محمد صبحي أبو غنيمة قاصدين اسطنبول، ولكنهما لم يبلغاها، إذ استقر المقام بمصطفى في “عربكير” حيث كان عمه علي نيازي قائم مقام فيها.
في “عربكير ” عمل مصطفى وكيل معلم ثان لمحلة “اسكيشهر”، إذ عين في هذه الوظيفة بتاريخ 3/10/1918، واستقال منها في 9/3/1919.
قضى مصطفى صيف عام 1919 في إربد، واستطاع – بمساعدة بعض زملائه – إقناع والده بضرورة إرجاعه إلى مدرسة عنبر بدمشق. فسافر إليها في مطلع العام الدراسي 1919-1920. ولكن عودته صادفت قيام حركات طلابية شارك فيها، بل كان مع بعض أصدقائه على رأسها، ما جعل السلطات تقرر نفيه إلى حلب، وسمحت له بإكمال دراسته فيها، فسافر إليها في شباط 1920.
ومكث فيها حتى الشهر السادس من عام 1920. حين غادرها بعد أن حصل على الشهادة الثانوية من المدرسة السلطانية. وفي أثناء دراسته تعلم اللغة – التركية، وهي اللغة الرسمية وقتذاك، كما عرف الفارسية، وفي أواخر العشرينيات درس القانون معتمدًا على نفسه، وتقدم للإجازة العلمية الذي كانت تجريه وزارة العدلية آنذاك فحصل عليها، وحصل على إجازة المحاماة في 3 شباط 1930.
عمل مصطفى في الفترة (22/4/1922-1931) معلمًا في مدرسة الكرك، وفي مناطق متفرقة من شرقي الأردن، وحاكمًا إداريًا لثلاث نواحي شرقي الأردن، وهي وادي السير، والزرقاء، والشوبك.
وعمل خلال الأعوام 1931-1942 معلماً في إربد ثم في سلك القضاء ابتداء من 1/1/1933، فتسلم مجموعة من الوظائف هي: مأمور إجراءات، عمان، ورئيس كتاب محكمة الاستئناف، ومدّعي عام السلط، ومساعد النائب العام.
ثم عاد إلى وزارة المعارف فتسلم وظيفة المفتش الأول فيها. وحين تركها عُيّن رئيس تشريفات في الديوان العالي، فمتصرفا للواء البلقاء (السلط)، ومكث في منصبه هذا أقل من أربعة أشهر، إذ عُزل، واقتيد إلى سجن المحطة في عمان حيث قضى نحو سبعين يومًا.
بعد خروجه من السجن في نهاية عام 1942 مارس مهنة المحاماة في عمان حيث افتتح مكتبًا خاصًا به.
- شاعر الأردن
أطلق النقاد على مصطفى وهبي التل (عرار) شاعر الأردن؛ بسبب ما حازه من ريادة شعرية أسست للقصيدة التقليدية الجزلة الرصينة، ولما تنطوي موضوعاتها من انحياز للناس البسطاء والفلاحين، وتقف ضد الظلم، وبسبب ما تتمتع به من بساطة واستعارة للمفردات اليومية المتداولة بين الناس، ولما للشاعر من تأثير في القصيدة العربية في استعاراته من قاموس اللهجة الدارجة، وتضمينه للأمثال الشعبية في شعره، وهو القائل متعاطفا مع الحصادين:
هب الهوا يا ياسين
يا عذاب الدراسين
هب الهوا يا حنيني
صار الظعن ظعنين
كان الشاعر عرار جريئًا متمردًا، يهتم بالمهمشين، وتحديدًا “النوَر” (الغجر)، بوصفهم يمثلون فضاء الحرية ومنظومة للقيم المتخيلة التي تحقق العدالة الطبيعية، ولم يتوقف تأثيره على مريديه في نسج القصيدة؛ بل امتد إلى تشكيل تيار تجسد في إعلاء قيم الصعاليك النبيلة في الدفاع عن المظلومين.
والشاعر عرار يعد من أوائل الشعراء المجدّدين في الساحة المحلية؛ ذلك أنه نقل القصيدة من الموضوعات التقليدية إلى موضوعات متمردة تعتبر جديدة على المجتمع الأردني القبلي والمحافظ، ورغم قربه من الأمير الملك عبد الله مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية، فإنه بقي منحازا للفقراء، وهو القائل:
أوَما تراني قد شبعت…
على حساب الأكثريّة
وأكلتُ بسكوتا وهذا الشعب لا يجد القليّة.. (القلية.. القمح الذي يحمص على النار)
ولبست، إذ قومي عُراة،
غيرَ ما نسجت يديّه.
كان الشاعر مصطفى وهبي التل أول من حذر في شعره من خطر الأخطبوط الصهيوني الذي سيمتد على خريطة الوطن العربي، وهو ما يؤكد بعد نظره، وكان مؤمنا أن ينبوع الثقافة العربية الذي ترجمه من خلال الكتابة في الصحف والدوريات العربية وقتذاك يمثل قلعة الدفاع عن الحضارة العربية.
اهتم عرار بالقضايا الأدبية واللغوية والفكرية من خلال الحوار على صفحات الجرائد والمجلات مع عدد من الكتّاب العرب في ذلك الحين، وكان له صلات واسعة مع كثير من الشعراء المعاصرين له أمثال: إبراهيم ناجي، أحمد الصافي النجفي، إبراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، الشيخ فؤاد الخطيب، كما كانت صلته وثيقة ببلاط الملك عبدالله الأول ابن الحسين، حيث كانت تجتمع نخبة من الشعراء والأدباء، وتدور بينهم مساجلات ومعارضات شعرية.
تنوع إنتاجه بين الشعر والتاريخ والدراسة اللغوية والقضايا الفكرية والترجمة، مثل “ديوان عشيات وادي اليابس”، و”بالرفاه والبنين”، و”الأئمة من قريش”، و”مقالات في اللغة والأدب”، و”أوراق عرار السياسية”.
- عرار والحداثة الشعرية
في الحداثة الشعرية، إذ كتب عام 1942م مهما كما أن لشاعر الأردن (عرار) جانبا قصائد في الشعر (الحر)، أي من الناحية التاريخية الزمانية قبل نازك الملائكة بخمس سنوات، حيث تجلى ذلك في ثالث قصائد يحملن العناوين التالية: (أعن الهوى) و(متى) و(يا حلوة النظرات)، حيث يقول في قصيدة (متى):
متى يا حلوة النظرات والبسمات والإيماء والخطر
متى أملي على الألم والحدثان والدهر
أحاديث الهوى العذري
متى؟
من لي بأن أدري
- * *
متى يا حلوة النظرة
يكف زماننا عنا؟
ولد في عمره مره
أذاه ونكتفي شره متى؟
من لي بأن أدري
متى يا ليتني أدري
إن عرار شأنه شأن شعراء الوطن العربي الذين كانت لهم تجارب في هذا المضمار، والحق أن الشعراء بدؤوا منذ العشرينيات يحاولون أن يحدثوا تغيرات في شكل الشعر العربي، لكن هذه التجارب لم يكن لها أن تنجح إلا في نهاية الأربعينيات، حيث كان للشاعر السوري خليل شيبوب تجربة شعرية على النظم الحر بقصيدة عنوانها (الشراع)، نشرت في أبولو سنة 1932، وقصيدة أخرى بعنوان: (الحديقة والقصر البالي) نشرت في مجمع البحور سنة 1943، وتجربة علي أحمد باكثير أيضًا قام بترجمة روميو وجولييت إلى عدة أوزان، وتجربة الشاعر اللبناني نيقولا فياض 1942، وتجربة الشاعر اللبناني فؤاد الخشن من بحر الرمل في مجلة الأديب البيروتية سنة 1946، بالإضافة إلى قصيدة (بقايا صور) للشاعر المصري محمد مصطفى بدوي، وكذلك لويس عوض، بتجربة واعية أيضًا في الشعر الحر في كتابه بلوتو لاند، وقصائد أخرى، من شعره الخاص (1947).
ويبقى أن نقول «إن حركة الشعر الحر ستظل مدينة لنازك؛ ألنها كانت هي أول من حاول إعطائها تفسيرًا نقديًا، وأول من وإن كانت قد عادت فأظهرت فيما بعد تحفظات شديدة حول مستقبل هذه الحركة».
يعد عرار مؤسسًا لحركة الشعر الأردني الحديث، وله السبق في تقديم نماذج شعرية تمثل بدايات الشعر الحر في العالم العربي.
لغة عرار بسيطة تمثل لغة الناس (في الأردن) فال يحتاجوا إلى جهد في فهم مدلولاتها ورموزها الفنية ولهذا حفظ الناس الكثير من أشعاره وتغنوا بها.
استطاع عرار بناء الرمز في قصائده، وقد أحسن استخدامها من وجهة النظر الأدبية والنقدية، وحاول كثير من الشعراء تقليد عرار في أشعاره ورموزه الفنية، فصوته ماثل في كثير من النصوص الشعرية.
- عرار ورباعيات الخيّام
عكف عرار منذ طفولته على رباعيات الخيّام بالفارسية والعربية، وقد ساعده في ذلك معرفته بقواعد الفارسية، فتأثر بفلسفة الخيّام في الجنة والنار والعقاب والثواب، وتمثله وتمثّل آرائه بالشراب والأصدقاء والوجود، ووجد في ميول الخيّام شبعًا لميول مكبوتة في شعره، فأرسل شعره على كتفيه تأسيًا بالخيّام وراح يعاقر الخمر، ثم ترجم رباعياته نثرًا ونشرها في عام 1925 فصولًا في مجلة “مينرفا البيروتية” لصاحبتها الأديبة السيدة “ماري يني عطا الله”، ثم ما لبثت أن تحولت ترجماته لموضوع سجال بينه وبين الكاتب اللبناني أمين نخلة، لأن ترجمة الأخير 11 رباعية لم تنل إعجاب عرار، ليصحّحها عبر ترجمته بعضها.
منذ تلك اللحظة، بدأ اهتمام عرار يتضاعف بالشاعر الفارسي، فنشر أكثر من مختارات مترجمة له، حتى اكتشف المقرّبون مخطوطًا لعرار يضمّ 155 رباعية من ترجماته، ورغم عدم إلمامه الكافي باللغة الأصل، إلا أنه يُحسب له ذلك الاهتمام ضمن الترجمات العربيات المبكرة للرباعيات، وأنها كانت عن الفارسية (مع الاستعانة بالتركية) ولم تكن عن لغات وسيطة كما فعل وديع البستاني وعيسى إسكندر معلوف وغيرهم.
ويذكر الباحث يعقوب العودات صاحب لقب (البدوي الملثّم) في كتابه (عرار: شاعر الأردن) الصادر عن دار القلم ببيروت عام 1958، بأن “بداية تعلّق عرار بالخيّام كانت عندما عثر عرار على نسخة من (رباعيات الخيّام) من تعريب المرحوم (وديع البستاني) في حانوت تاجر بإربد يدعى (محمد ذو الغنى)، كان صاحبه ذا صوت رخيم، ومغرمًا بالأدب، فاختلطت على رفوف حانوته السكاكر والمعلبات ببعض الكتب ودواوين الشّعر.. مثل تغريبة بني هلال، وألف ليلة وليلة، ونسخة رباعيات الخيّام التي استعارها مصطفى من التاجر، وانزوى بها عن الأعين ليقرأ ويتأمّل.. ويتشرب من فكر الخيّام ومن أشعار أيقظت فيه حسّه الرهيف، وموهبته الدفينة، ووضعته أمام الخيّام وجهًا لوجه، فسوّلت له نفسه ما سوّلت..”.
- مؤلفاته:
جمع عرار شعره في ديوان اسمه “عشيات وادي يابس” ونُشر الديوان بعد موته بـ 4 سنوات، وصدرت بعد ذلك أكثر من نسخة احتوت على أبيات كثيرة لم ترد في النسخة الأولى، ومنها هجاؤه للحُكم ومعارضات شعرية كثيرة بينه وبين الأمير الأردني عبد الله الأول بن الحسين.
بالرفاه والبنين/ بالاشتراك مع خليل نصر، دراسات، مطبعة الأردن، عمّان، 1934.
الأئمة من قريش، دراسات، د.ن، عمان، 1938.
أوراق عرار السياسية – وثائق مصطفى وهبي التل، (جمعها: محمد كعوش)، د.ن، عمان، 1980.
رباعيّات عمر الخيّام (ترجمة)، عمان، 1973. تحقيق د. يوسف بكار، مكتبة الرائد العلمية، عمان، 1990.
- وفاته:
في صباح يوم الثلاثاء 24/5/1949 توفي مصطفى في المستشفى الحكومي بعمّان، ونقل جثمانه إلى إربد مسقط رأسه، حيث دفن في تل إربد كما جاء في وصيته، وتم تحويل بيته إلى منتدى ثقافي ومتحف، وتحقق ما كان يحلم وهو يوسد رأسه ترابها أن تكون إربد “عاصمة الثقافة العربية”، وكان الشاعر نعى نفسه شعرًا:
يــا أردنـيـــات إن أوديــت مـغــتـربــــا
فـانـسـجـنـهـا بـأبـي أنـتـنّ أكــفـــانـــي
وقلن للصّحب: واروا بعض أعظـمه
في تلّ إربد أو في سـفــح شيحــــان
قالوا: قضى ومضى وهبي لطيـتــه
تـغـمــدت روحـه رحـمـات رحـمـان
عــسـى وعـــلّ بـــه يومــًا مكـحـلة
تـمـــرّ تــتـلـو عـلـيـه حـزب قــرآن
- عرار رمز الثقافة العربية
اختارت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار) رمزًا عربيًا للثقافة لعام 2022. بالتزامن مع اختيار مسقط رأس الشاعر، مدينة إربد، عاصمة للثقافة العربية.