شعر الهايكو من الإبداع إلى التأصيل
- الملخص:
إنّ شعر الهايكو تعدى الحدود الجغرافية اليابانية لتهب رياحه حاملة معها حبوب الطلع، فوجد له مساحة واسعة في الذائقة العربية والغربية على حد سواء؛ فقصيدة الهايكو بفلسفتها العميقة، وكثافته المتوهجة ومشهديته المجسدة لعمق رؤيوي في توليفة لغوية مكثفة بسيطة، غيّرت أفق توقع المتلقي العربيّ والعالمي؛ مجسدة ومضة سريعة في استنطاق الطبيعة.
- مقدمة:
شعر الهايكو، أو كما يسميه آخرون شعر الهانيكو، أو هائيكو يعد أحد أبرز أنواع الشعر الياباني، الّذي ظهر في سياق خاص، وتبلور عبر مسار زمني ممتد، إذ يقوم هذا الشعر «على لغة شعرية تقوم على عدة خصائص جعلتها سمات فنيّة متعارف عليها عند شعراء الهايكو، التّي تأتي في مقدمتها، الإيجاز، وبساطة الألفاظ التّي غالبًا ما تنحو إلى السهل الممتنع، وصياغة المعاني في تراكيب تتخذ من الخيال والإيحاءات وتكثيف اللّغة أولى.(1)» يختزن الشعر في لغته صور ورؤى تخترق حجب الأزمان والمكان وكأنّه يطل على الحقائق من مكان عال. فالشعر حالة من التّفرد التي تتلاقح فيها الكلمات مع الرؤى الشعرية في دلالة الكائن والممكن؛ فهو إمكان لغوي تنسلخ فيها الذات في عنفوان أبدي. فالهايكو فلسفة عميقة تتستر وراء النص، فالجمال هو ذلك لا شيء الكامن في كل شيء. وهو فن من فنون الشعر اليابانيّ ظهر في القرن السابع عشر بفضل الشاعر “ماتسو باشو matsubasho 1690 -1644، يحاول فيه الشاعر تجسيد آفاق وآمال ودلالات عميقة من خلال بيت شعريّ واحد مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا.
في مطلع القرن الواحد والعشرين ظهرت في الفضاء الأنجلو-أمريكي المدرسة الصورية المتأثرة بالهايكو اليابانيّ، وأثار هذا الفنّ بفلسفته المتجسدة من الأساليب البلاغيّة المنمّقة شعراء السريالية، هذه الكتابة الشعريّة الجديدة أثبتت حضورها في الساحة الشعرية الغربية على اختلاف تجلياتها. ولقد وصلت رياح الهايكو إلى المشهد العربيّ عن طريق الترجمة.«لا توجد قصيدة هايكو ببنية غير واضحة أو مهجنة. كل قصائد هايكو تتوزع على بنيتين رئيستين لا ثالث لهما:…تنسيق أوتوليف بين صورتين، موضوعين، مفهومين أو أكثر، فيها وحدة ملموسة دون توفر علاقة منطقية تحكم هذه الوحدة، كل هايكو لا يعتمد التوليف مؤسس على قاعدة الصورة أو الموضوع أو الفكرة الواحدة. من هنا تأتي صعوبة الكتابة فيها والتي تكمن في احتمالية إلحاق الضرر بنضارة الصور والتي تتمظهر غالبًا لدى المتمرسين بتحويل النص إلى مجرد مجاز عادي وصياغة تقريرية تفتقد للكثافة وتتسم بالسطحية»(2)، نص الهايكو-كأي نص أدبي-كائن حي، يستثقل الأفعال وحروف العطف ويرفض حديث الشاعر عن ذاته.
- أولاً: مفهوم الهايكو:
الهايكو شعر ياباني ضارب جذوره في التاريخ الحضاري الياباني، «وهو يتألف من مقطعين: الأول “هاي” ومن معانيه الأوليّة التي وضع لأجلها المتعة والإمتاع، الضحك والإضحاك، أن تغير مظهرك الخارجي وتسلي الآخرين، التمثيل؛ الثاني “كو” ومعناه لفظة أو كلمة أو عبارة. وإذا ترجمنا حرفيًا «عبارة أو كلمة ممتعة، مسلّية، مضحكة». ثم إذا أخذنا تطور دلالة اللفظة التاريخيّ، وانحرافاتها هنا وهناك، والحالات التي سلكها سنصل إلى ما يمكن أن نسميه حس الطرافة بشكل جدي، المزاجية الظريفة، العبثيـة المسـلية»(3) فيرى “نورالدين ضرار” أنّ «الهايكو نصّ مضغوط قد يبدو للوهلة الأولى، في تحققه على الورق، مجرد بذرة حبر باهتة أو زخة مطر شفيفة… لكنّه سرعان ما يتفتق بفعل القراءة المتأنية المتأملة عن كون شعري لا متناه في مشهديته…تمامًا كتشكلات دوائر مائية متماوجة عن رمي حصاة على صفحة بركة جنائنية هادئة عميقة»(4) لتجسد رؤية مشهدية.
تتشكل قصيدة الهايكو من ثلاثة أسطر، يشكل مجموعها الصوتيّ سبعة عشر مقطعًا صوتيًا موزعة بهذا الترتيب: 5/7/5، ويلتزم كل من السطر الأول والثاني الشرطة (-) والفاصلة (،) اللتين تفصلان بين السطر الأول والثاني، وبين الثاني والثالث، هذا هو الشكل الذي استقرت عليه قصيدة الهايكو.
- ثانيًا: الهايكو العربي:
الهايكو العربي أقرب ما يكون إلى روح الشّعر العربيّ لأنه يقوم على وحدة البيت في نفسين وهذا من خصائص الشعر العربي وهو مشهدي، فهو يصطبغ بالشعريات العربية؛ لينفتح على مدار آخر أقرب إلى فلسفة الشرق في مضمونه وفي روحانياته. ولذلك انفتح الشعر العربي على الهايكو منذ ستينيات القرن الماضي مع “عزالدين مناصرة “إلى أن نصل إلى “عبدالكريم الخطيبي”، “محمد بنيس” له تجاربه في شعر الهايكو. وبعد الربيع العربيّ أصبح هناك إقبال واسع لشعر الهايكو.
من هنا نستشف أن قصيدة الهايكو تقدم نقدًا ومراجعة للحداثة الشعرية العربية بتأسيسها للمختلف والمغاير على مستوى الإيجاز اللغوي وطريقة تشكيل اللغة، فطريقة تأثيث القصيدة في التشكيل الهايكوي جديد على التشكيل العربي رغم أنه يتقاطع مع بعض الأشكال العربية التقليدية؛ كالبيت اليتيم، والمقطّعة، والتوقيعة التي لم تندرج تحت تسمية قصيدة لأنها دون سبعة أبيات، بيد أنه من مقدور الشعر العربي أن يختزل مكابدة الأسئلة الوجودية ضمن إطار تشكيلي يشتغل على اللغة الموجزة وكذلك الإيحاء وهما ميزتان أساسيتان في قصيدة الهايكو. فهذه الأخيرة ليست تحررًا من نمطية الشعر العربيّ، بل هو إضافة للشعر العربي.
تقوم قصيدة الهايكو على مرجعية فلسفية تتعلق بالزن البوذية* والتي تتعلق بالتأمل والتفكر في عجائب الطبيعة، والوقوف عند المشهدية الطبيعية والظواهر المادية لجعلها إشارات لدلالة أكبر إنها فلسفة الشرق القديمة كالبوذية والكونفوشيوسية.(5)
لقد وجد الشعراء في البناء الفني للهايكو الرؤيوية والتشكيلية و فرادة نوعية في الكتابة المحتفية بالعيني، واليومي، والملموس، واعتماده على المغاير واللامعقول بالابتعاد عن اللغة المكثفة بدلالاتها؛ وهذا رغبة منهم في تأسيس شكل جديد في الكتابة الشعرية موغل في الإيجاز «فغياب الدلالة أو المعنى في شعر الحداثة العربية المعاصرة واحد من أهم مظاهر الإبهام الدلالي فيه، ندرك هذا من نصوصه الشعرية التي تتحرك عباراتها وجملها ومفرداتها في مناطق تبدو مقفرة دلاليًا بسبب غياب البؤرة الدلالية الشاملة التي تغذي النص دلاليًا من ناحية، وتعين على تحديد مرجعياته الواقعية من ناحية أخرى»(6) ويتمرأى لنا أن قصيدة الومضة العربية تأثرت بجملة من العوامل الآتية من الآخر(الغرب) عن طريق الترجمة، فأصبح الشعراء المعاصرون يبدعون على منوالها وما يجمع قصيدة الهايكو بقصيدة الومضة في عصرنا الحالي هو الإدهاش والمشهدية التي تحملها قصيدة الهايكو فهي «لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفز المخيلة على البحث عن دلالاتها، وتعبر عن المألوف عبر»(7) مشهدية طبيعية إنسانية ورؤيوية تخاطب الإنسان في كل مكان، فيكّسب الذائقة الشّعرية العربيّة والغربيّة بعدًا جماليًا جديدًا، تجعل المتلقي العربيّ والعالميّ على حد سواء ينبهر بالتأثيث المشهدي لبنى نصية موغلة في فلسفة تأملية، فتغير أفق توقع المتلقي. قصيدة الهايكو هي انزياح لغوي غير معهود يجسد فيه المبدع صورًا ودلالات تثير ذائقة المتلقي في بساطة تنمّ عن وعي فكري تحمل فكرة عميقة، فقصيدة الهايكو فلسفة خارج النّصّ «إنّ الكلام على الكلام صعب» فجمال قصيدة الهايكو هو ذلك لا شيء الكامن في كل شيء.
يعد “محمود عبدالرجيم الرجبي” أول مؤسسي الهايكو العربي، فقد وضع أسسًا لشعر الهايكو تتناسب واللغة العربية، فلقد ربط بين شعر الهايكو وخصائص الشعرية العربية، كما شذّب قصائده على وزن بعض البحور الشّعرية، فلم يكن شاعرنا مبدعًا فقط ، بل قدم تعريفات وتوضيحات حول الهايكو العربي والياباني، فعكف على تأليف كتب إلكترونية في هذا المجال كان لها الصدى في انتشار واسع لشعر الهايكو العربي، فألّف دواوين شعرية في الهايكو، والتانكا، والسنريو، وهايكو الست كلمات، والهايبون، بالإضافة إلى دراسات تحليلية لقراءات في شعر الهايكو، وأبدع وصمم غلافات مجلات الهايكو بنفسه. وساهم بشكل كبير في انتشار الهايكو العربي على الساحة العالمية من خلال إصدار مجلة حول الهايكو العربي باللغة الإنجليزية، ولاغرو فلقد احتل الهايكو العربي مكانة متميزة في الساحة الأدبية العالمية.
- ثالثًا: خصائص الكتابة الهايكوية:
- أ- شعرية العنونة:
إنّ العنوان هو الباب الأول الذي يلجه المتلقي ويؤدي دورًا فعّالاً في تماسك النّصّ ومنحه هويته التداولية من خلال التسمية.
العنوان له أهمية قصوى في شعر الهايكو لأن من قواعد هذا الأخير، أن يقتصر ديوان الهايكو على عنوان واحد، هو عنوان الديوان نفسه، فوظيفة العنوان، تكمن في استيعاب وملامسة دلالات القصائد كلها فالعنوان موجه للقرّاء يحولها هؤلاء إلى مفتاح قرائي،(8) لاستنطاق النص والولوج إلى خباياه وأغواره الدلالية.
وتتعدد العناوين بحسب ما يقتضيه النص الأدبيّ، فنجد العنوان المفرد والجملة والمعرّف والنكرة، فالعنوان بقدر ما يثير حفيظة القارئ يعطيه دلالات وإشارات، باعتباره العلامة اللغوية الأولى للنص فإن الشاعر يسعى إلى اعتماد عنونة متخمة بالإيحاء من شأنها أن تمدنا بزاد يمكّننا من تفكيك النص واستبطان دلالاته.(9) فالاهتمام بالعنونة يمنح النص هويته التداولية، كونه رسالة مشفرة للقارئ/المتلقي ليكشف جزيئات النص البنيوية؛ فتعينه على ملء الفراغات والبياضات التي تختفي بين طيات النّصّ.
إنّ الشّاعر “عاشور فني” في ديوانه “هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي” عمد على تشذيب قصائده متمردًا على اشتراطات الهايكو مبقيًا على بعض المفردات التي تصنع شعرية القصيدة، حيث يضع عنوانًا لكل قصيدة، تظهر رؤية فنية وبعدا فلسفيا في فكرة عميقة:
أسراب
«الزرازيــــــر تمـرح
تحـــت الغمـــــام
في أرجوان المســـــاء
………………………..
في المساء
ما الذي حرّك أشجار المساء؟
هبـــت الريــــــح
وهبـت كل أسبـــاب البكاء
……………………..
السمان
منذ أن طارت أواخر يونيـــو
لم تجـد خضــــرة تحضنها
…………………………..
كتابة
تمر السحـــابة عاليــة
وظلها يمشـــي بطيئــا
على الــــورقة البيضاء
……………………….
العصفورة
فاجأهــــــا الشـــرك
مازال ريشـــــها يتساقط
منذ ثلاثيــــــن سنــة»(10)
يصور الشاعر مشاهد طبيعية ثم إظهار المفارقة التي تنطوي عليها، وهي مشاهد مألوفة لدى القارئ، إلا أن من سمات الهايكو تأثيث صوره حتى تغدو جديدة لدى المتلقي وذلك من خلال تفاعلها فيما بينها. هذا التصوير القائم على التّشخيص، و إلحاق ما ليس بعاقل، بالكائنات العاقلة الهدف منه أنسنة الطبيعة من حيث أنها بؤرة من بؤر تجليات علاقة الإنسان بالعالم الخارجي.
- ب- شعرية اللغة:
لغة الهايكو تتشكل بسيطة واضحة بعيدة كل البعد عن الخيال، فكاتب الهايكو «عليه أن يفرغ ذهنه تمامًا من كل أنواع الخيالات والخواطر، وأن يراقب العالم متمثلاً في اللحظة الراهنة فقط. وأن يكون منتبها ومستعدًا للتسجيل، فقط التسجيل، بمنتهى الهدوء والحيادية. الهايكو هنا مجرد التقاط وتسجيل لحدث بسيط جدًا، ولكنه استثنائي جدا لأنه يحفي وراء تلك الفكرة المركزة التي تمثل (الاستتارة)»(11)، فطريقة كتابة الهايكو تشبه إلى حد بعيد التأمل الذي يسلكه الراهب البوذي للوصول إلى الحقيقة المطلقة والتحرر الكلي من سلطة الخيال. إن هذا المسلك اللغويّ، لا يعني أن الهايكو لا يلامس العمق الوجدانيّ للإنسان، بل على العكس تمامًا يريد أن يقارب عن طريق بساطة اللغة، كل ما له علاقة بالإنسان من خلال أنسنة أشياء الطبيعة. فكأننا أمام قصائد تمهيدية لقصائد نهائية ستكتمل في أذهان القرّاء. فاللغة مكتنزة تريد أن تقول المعنى أكثر من اللفظ معتمدة إشارات بعيدة. فنلمح إيجازًا لغويًا واقتصاده، وذلك يوجب على الشاعر حسن اختيار الدقيق للمفردات، وكلّ حرف والانتباه لمحوري الاختيار والتأليف. فالقصيدة الهايكوية تستثقل الأفعال؛ لأن الأفعال الكثيرة تشتت التركيز على النقطة المحورية التي يراد إبرازها.
- ج- الصورة الشعرية:
المهم في الهايكو هو الصورة الشعرية والبصريّة التي يكوّنها المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، فلكي نوظفها في الهايكو نحتاج براعة كي لا يتحول الهايكو إلى ومضة شعرية أو أبيجراما(12)*، ففي الهايكو نركز على الصورة البصرية أي التّصوير المشهديّ الآني فكأننا نلتقط صورة فوتوغرافية، وربطها ببعد تأملي عن طريق دمج أكثر من صورة لإنتاج صورة أخرى ذات بعد فلسفي تأملي يخفي الكثير بين طياته. فالصورة الشعرية تحمل لنا الدهشة وكذلك الصورة البصرية، ولكن الأقوى في ذلك هو المفارقة. فالشاعر اللاتيني “هوراس” يقول: “إن الشعر هو التصوير”، ويقول الرسام الشهير “بيكاسو” “إن الرسم هو الشعر وهو دائما يكتب على شكل قصيدة ذات قافية تشكيلية”، وكأنهما ينحتان هوية وذات قصيدة الهايكو بمشهديتها ورؤاها وصورها الزاخرة بصور بصرية من الطبيعة.
الهايكو صورة بصرية، تتلاعب بين المعلوم والمجهول، بين ما هو حقيقي والوهم، فلا ضير في استخدام الشاعر الهايكوي المجاز دون أن يطمس مشهدية الصورة الهايكوية ويساهم في تفجير الدهشة. فالشاعر العربيّ مسكون باللعب الشعريّ الموغل في المجاز والاستعارات، ولذلك لا بد أن يتسرب ذلك إلى قصيدة الهايكو العربيّ، وذلك لأن طبيعة اللغة العربية بكينونتها وعمقها تحمل مفرداتها شحنات مجازية تشبعت بها منذ قرون، وتنزاح هذه المفردات لتمنح جماليات القصيدة الهايكوية.
إن الهايكو «ينأى عن المحسنات اللفظية وأشكال المجاز الواضعة»(13) فالشعر عالم تخييلي ينبني على الصورة الشعرية من استعارات وعدول، ففي نص “عاشور فني” الذي عنونه بـ”زهرة خبيزى” نجده يبث جملة من الاستعارات داخل نصه؛ حيث يقول:
زهرة خبيزى
«وحيدة
فاجأها همس الربيع
فأطلقت ألوانها على الجميع»(14)
ففي هذا النّصّ الذي يصف فيه الشّاعر مشهدًا طبيعيًا، يتأثث على استعارة مكثفة بالمجاز بدءًا من السطر الثاني وجملة (فاجأها همس الربيع) فإضافة الهمس الذي هو صفة للإنسان أو العاشق إلى الربيع عدول وانزياح بلاغي يجعلنا نتصور الربيع في هيئة عاشق يهمس، وذلك يقتضي أن تكون لزهرة خبيزى أذنا تسمع بها همس الربيع وهسهساته، فعنصر المفاجأة والدهشة هو حضور الربيع ليغير حركية الزمن وحدة زهرة الخبيزة، وأن الربيع قد جاء قبل أوانه، ويكمل مقطعه باستعارة أخرى (فأطلقت ألوانها على الجميع) وهنا حذف المشبه به (البندقية) فهي استعارة مكنية وأبقى على لازمة من لوازمها وهي أطلقت، ولكن هنا مفارقة لغوية واضحة فالبندقية التي ترمز إلى الموت لا تتوافق مع الزهرة ورقتها وجمالها التي هي رمز للصحة والعطاء والحياة والاخضرار والإنبات.
يتمرأى لنا تأويل الألوان بالأطياف الملونة التي نتجت عن الاختلاف والتعددية لتخلق فسيفساء جميلة للزهرة في جانبها الصحي والجمالي، وهي أيضًا إطلاق للإقصائية والأحقاد.
- د- الإيقاع:
ينبني الهايكو اليابانيّ في تشكيل إيقاع على سبعة عشر مقطعًا صوتيًا على الأسطر الثلاثة ولقد تم التطرق إلى ذلك، غير أننا سنجد له تجاوزًا في الهايكو العربي؛ لأن قصائد الهايكو الجزائرية تركز على تصوير المشاهد الطبيعية وإظهار ما يكتنفها من مفارقة. هذه القضية توضحها قصائد الشاعر الجزائريّ “الأخضر بركة” في ديوانه “حجر يسقط الآن في الماء”:
1
«مثل قطرة الندى
تنعكس فيها السماء والأرض
يولد الهايكو»
2
«يغطس في البحيرة
ولا يبتل،
ذلك القمر» (15).
قد جاء توزيعها الصوتي المقطعي على النحو الآتي:
مثـل قطرة الندى
/0 / /0 / / 0/ /0
مق1مق2مق3 مق4مق5مق6 مق7
تنعكـس فيـها السماء و الأرض
/0 / / / /0 /0 / / 0 / / 0 / 0/0
مق1 مق2 مق3 مق4 مق5 مق6 مق7 مق8 مق9 مق10 مق11 مق12
يـولد الهايكو
/0 / / 0 /0 / / /0
مق1 مق2 مق3 مق4 مق5 مق6 مق7مق8 مق9
نلمح اختلاف تشكيل الإيقاع في قصيدة الهايكو العربية. إن شعرية الهايكو هي في قصر نفسه مع كل سطر، إذ يأتي السطر وقد تعادلت معه جملة الصوامت والصوائت التي تصنع موسيقاه، أي أن الهايكو يركز على الموسيقى الداخلية التي تتأثث بها بنية القصيدة، فالشاعر في قصيدة الهايكو يشكل مشهدًا لغويًا لتتحول إلى حالة إيقاعية عفوية.
هنالك أساليب شعرية ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالهايكو ومنها:
- أ- السنريو:
«قصيدة السنريو، التي يرتبط اسمها بالشاعر الياباني سنريو كاراي1790-1718، تشترك مع قصيدة الهايكو في كافة الخصائص باستثناء الموضوع؛ إذ إنها تستبدل الطبيعة بالإنسان [فتجسد في كثير من الأحيان جوانب ضعف الإنسان أو السخرية] بعكس الهايكو الذي هو أكثر جدية في الحديث عن الطبيعة»(16)، كما نجد شاعر الهايكو ينقل الصورة المجسدة من الواقع كما هي لحظة وقوعها بأدق التفاصيل، بينما شاعر السنريو يقوم بفضح المسكوت عنه، ويقوم بالاعتراف بالأشياء التي لا نود البوح بها.
- ب- الهايبون:haibun
نوع أدبي يابانيّ في الأصل ترجم إلى عدة لغات، يجمع بين النص النثري وشعر الهايكو، فهو يتألف من جزأين الأول نثري والثاني قصيدة الهايكو التي تنبي على الأول، فالثانية تشرح الجزء النثري وتقدّم تفسيرًا له أو تأويلاً(17).
ومجمل القول في فلسفة المقاربة السابقة نسجله في النتائج الآتية:
• قلة الشعراء المبدعين لهذا النوع الشّعريّ وسط مدّ كاسح لممارسيّ هذه الكتابة.
• يجب العمل على تشكيل حركة هايكوية في العالم العربيّ تكون جديرة بالمتابعة والإنصات أسوة بما يحدث في العالم الغربيّ.
• إنّ قصيدة الهايكو تتخفف من حذلقات البلاغة وكثافة بهارجها اللغوية جانحة إلى لغة شفافة حيادية لا تهتم إطلاقًا بجمالية الألفاظ، فالشاعر يرسم بالكلمات لوحات انطباعية.
• لا مناص اليوم من صوغ شعرية جديدة إنسانية قادرة على خلق وعي رؤيوي لإنقاذ الإنسان داخل الإنسان.
• استطاع الهايكو أن يتجاوز حدود اليابان ويقتحم عوالم كثيرة في الأدب والثقافات وأن يجذب إليه الشعراء من كل صوب وحدب على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم.
• إنّ شعر الهايكو وجد له مساحة واسعة في الوجدان العربيّ، فبات يشكل ظاهرة لا يستهان بها، ظهرت في كثرة المجلات والنوادي، حيث وجد المتلقي العربيّ في مشهديته متنفسًا للتعبير عن حالته من خلال الطبيعة.
الهوامش:
1 – محمد المروزقي:”الهايكو” القصيدة الأقصر في العالم… والأكثر شهرة، جريدة الرياض، ع/ 16456السنة: (الأربعاء 5 ذو القعدة 1439هـ – 18 يوليو 2018م)
http://adhwaamesr.blogspot.com/2018/07/blog-post_543.html
2 – أسامة أسعد: بنية الهايكو، مجلة نبض الهايكو، مجلة إلكترونية شهرية تصدر عن منتدى نبض الهايكو، العدد الأول : http//fr.calameo.com/read/0055334761aed1020bo97
3 – محمد عضيمة، وكوتا كاريا: كتاب الهايكو الياباني، دار التكوين، دمشق، 2016، ص:17.
4 – نورالدين ضرار: نفحات من الهايكو اليابانيّ، منشورات نويغا، الرباط، ط1، ص:07.
5 – بشرى البستاني: الهايكو بين البنية والرؤى، دراسة أدبية في مجال الشعر، مجلة رسائل الشعر العربيّ، ع3،2005، ص:54.
* الزن البوذية: طائفة من المهايا البوذية اليابانية، تفرعت عنه فرقة (تشان) البوذية الصينية ويطلق أيضًا على مذهب هذه الطائفة ويشت هرون بكثرة تداولهم للأقوال المأثورة.
6 – عبدالرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة، العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عالم المعرفة، كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،ع279 ، 2000، ص: 183.
7 – بشرى البستاني: المرجع السابق، ص:58.
8 – ينظر: محمد صابر عبيد: لذة القراءة، حساسية النص الشعري، مجدلاوي للنشر، عمان، الأردن، ط1، 2008، ص:113 .
9 – ينظر: محمد مفتاح: دينامية النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، دت، ص:72.
10 – عاشور فني: من مقدمة ديوان: هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي (هايكو)، دار القصبة للنشر، الجزائر، (د.ط)،2007 ، ص:24-25.
11 – محمد نسيم: الهايكو(كائن بلا رأس!!)، مجلة الهايكو العربي، دار كتابات جديدة للنشر الإلكتروني، ع6، السنة الثانية 2017، ص:34.
* الأبيجراما: كلمة مأخوذة من الكلمة اليونانية (Epigramme) أي النقش، وهي مركبة في اللغة اليونانية القديمة من كلمتين (Epos) و(Graphein) ومعناها الكتابة على شيء ما. ينظر: أوفيليا فايز رياض، علاء صابر: الأب السكندري، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، مصر ،ط1،2007، ص:193.وترجع بدايات ظهور فن الأبيجراما إلى القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، إذ كان هذا الفن يكتب منقوشًا على الهدايا التي يهديها الناس للحكام تقربًا إليهم. ينظر: أحمد الصغير المراغي: بناء قصيدة الأبيجراما في الشعر العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر،2012، ص:17.
12 – عاشور فني: هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي، ص:10.
13 – م ن، ص:15
14 – الأخضر بركة: حجر يسقط الآن في الماء، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط 1،2016، ص:11.
15 – م ن، ص ن.
16 – هدى الحاجي: بين ضفتين، دار العين للنشر، القاهرة، 2017، ص:69.
17 – محمود الرجبي: أزيلي مكياج الحزن، دار كتابات جديدة للنشر الإلكتروني،2015، ص:3.
قائمة المصادر والمراجع:
أولاً: الكتب العربية:
1 – أوفيليا فايز رياض،علاء صابر: الأب السكندري، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، مصر، ط1،2007.
2 – أحمد الصغير المراغي: بناء قصيدة الأبيجراما في الشعر العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 2012.
3 – الأخضر بركة: حجر يسقط الآن في الماء، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط 1،2016.
4 -عاشور فني: هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي (هايكو)، دار القصبة للنشر، الجزائر، (د.ط)،2007.
5 – عبدالرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة، العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عالم المعرفة، كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 279، 2000.
6 – محمد صابر عبيد: لذة القراءة، حساسية النص الشعري، مجدلاوي للنشر، عمان، الأردن، ط1، 2008.
7 – محمد مفتاح: دينامية النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، (د.ت).
8 – محمد عضيمة، وكوتا كاريا: كتاب الهايكو الياباني، دار التكوين، دمشق، 2016.
9 – نورالدين ضرار: نفحات من الهايكو اليابانيّ، منشورات نويغا، الرباط، ط1،(د.ت)
10 – هدى الحاجي: بين ضفتين، دار العين للنشر، القاهرة، 2017.
ثانيًا: المجلات والجرائد:
11 – أسامة أسعد: بنية الهايكو، مجلة نبض الهايكو، مجلة إلكترونية شهرية تصدر عن منتدى نبض الهايكو،ع1: http//fr.calameo.com/read/0055334761aed1020bo97
12 – بشرى البستاني: الهايكو بين البنية والرؤى، دراسة أدبية في مجال الشعر، مجلة رسائل الشعر العربيّ، ع 3،2005.
13 – محمد المروزقي: “الهايكو” القصيدة الأقصر في العالم… والأكثر شهرة، جريدة الرياض، ع ، 16456السنة: (الأربعاء 5 ذو القعدة 1439هـ – 18 يوليو 2018م)
http://adhwaamesr.blogspot.com/2018/07/blog-post_543.html
14 – محمد نسيم: الهايكو (كائن بلا رأس!!)، مجلة الهايكو العربي، دار كتابات جديدة للنشر الإلكتروني، ع6، السنة الثانية 2017.
15 – محمود الرجبي: أزيلي مكياج الحزن، دار كتابات جديدة للنشر الإلكتروني، 2015.
د. فاطيمة زهرة سماعيل – الجزائر