العصر الرقمي .. بوصلة الحقيقة المنزلقة
حقق العصر الرقمي قفزة هائلة في الفضاء المعرفي، مما أدى إلى تشتت كبير للمكونات الحياتية الوجودية، وأصبح الإنسان العصري تابعًا لهذه الطفرة التكنولوجية، التي بدأت بالأصل كحالة فلسفية تحاول اللحاق بسيطرة القوة الضاغطة على الاستقرار الحياتي، من خلال تقديم التفسيرات المنطقية الرياضية والفلسفية لكل الظواهر الحياتية والطبيعية.
وذلك على يد العلماء اليونان كوارثين لثقافات بلاد الرافدين ومصر الفرعونية، في بحثهم عن الحقيقة واكتشاف الكون، وذلك من خلال بحثهم في العلوم الرياضية والفيزيائية، كفيثاغورث وإقليدس وغيرهم، وتابعت على يد بعض العلماء العرب، الخوارزمي وابن الهيثم وغيرهم، وكان ذلك وسيلة لاكتشاف حقيقة غائبة وليس للعب بالأرقام، ولاكتشاف مكونات معرفية أيضًا تكشف اللثام عن جزء من الحقيقة.
أصبحت الآن تسعى لإلغاء العقل الإنساني من خلال محاولة جره إلى فضاء التبعية الرقمية القسري، بإدخال تقنياتها وانتاجاتها في حياته بشكل لا يمكنه من أن يفكر بدونها. مما قد يؤدي إلى اندثار الإنسان التقليدي الذي كان يفكر ويبحث عن حقائقه في تأمله، ووحدته وقراءاته، بل أصبح يسعى نحو المعلومة السريعة، الخبر السريع والاستمتاع السريع.
فإشكالية الفرد العصري الغارق في تبعات التكنولوجيا، هي امتلاكه المزعوم للوجود بالمعنى المعرفي للكينونة، والذي سيصبح عبارة عن مقولة من مقولات التكنولوجيا، بحيث يتخطى وجوده إلى مرحلة اللاإنسان (الإنسان الرقمي) على حد تعبير الدكتور سامي أدهم، الكائن المحاصر بالتكنولوجيا (الحاسوب الرقمي الهائل)، الذي يقع تحت تأثيرها الثقيل، ويبتعد عن مكونات الوجود من القيم الإنسانية لضرورات العصرنة التكنولوجية (عدالة، صدق، أخلاق، حرية، الخ…).
فالقيمة العليا التي أراد تكريسها إنسان العصر المعرفي الأول، هي البحث عن القيم التي قد تظهر جزء من الحقيقة الكونية، من خلال التفاعلات المنطقية كما فعل (أفلاطون، أرسطو، نيوتن، كانط، ابن رشد، هيجل…).
فالوجودية هي حراك زمني داخل الكائن، تسانده ولا تقصيه، وتستبعد الرقمية الجافة، في تزامنها مع الكائن، أو كما يقول نيتشة (هي تزمّن وحيوية وقدرة بالإرادة وبالغرائز الانسانية)، إذًا هناك فجوة عميقة بين الانسان واللاإنسانوي (نيتشة)، وبين اللاإنسان الرقمي المعاصر، هي فجوة اختلافية، قد تقرر مسار البوصلة الحقيقية لكينونته، وبالتالي الحضارة الحديثة.
فاللاإنسان الرقمي سيصبح خاضعًا لطغيان الرقمنة في كل مناحي الحياة وفي كل مكان، ومستقبلاً حتى في مرضه وعلاجه عن بعد، ولن يبقى مجالاً للتفكير والرؤى الثقافية العميقة، وسيكون جسده المادي بما فيه عقله، تحت سيطرة الطفرة التكنولوجية، ترشده، تحل كل مشاكله، ترفّهه وتغريه اقتصاديًا ربما، هذه الفجوة التي بدأت بالتوسع بين الإنسان واللاإنسان الاغترابي، إن وصلت إلى مرحلة اللاعودة، ستسبب الانفجار الكبير المدوي والعودة إلى الصفر إلى الحالة العرائية البدئية..
لذلك على الإنسان البحث عن وجودية فعلية، ليس من خلال ارتكاب نفس الخطأ، أو استعادة النظريات الفكرية الجاهزة، بل العودة إلى عرائه، واختراق حواجز العدم التكنولوجية، والتعايش مع قيمها بطريقة لا سادية، لنعيد تشكيل مكونات الأفكار الإنسانية، كما فعل الإنسان الأول باختراع أساطيره. فالقوانين والعلاقات الرياضية، لم تكن هي المقصودة بذاتها، عندما حاول فيثاغورث وإقليدس وغيرهم إيجادها، بل كانت جوهر الحقيقة الكامنة وراء المنطق الرياضي التجريدي.
الأدهى من ذلك عندما نصل إلى حالة الانهيار الديجيتالي الكلي، نتيجة انهيار الأنظمة الرقمية مثلاً، وخاصة فقدان المخزون الهائل للذواكر الإلكترونية رغم الجهد الكبير الذي تبذله الدول والشركات للحفاظ على المعلومات في أماكن سرية كثيرة من خلال مراكز البيانات الضخمة.
وذلك في حالات عدة أولها انعدام التوافقيات البرمجية والوسائط الرقمية الحديثة مع أجهزة ووسائط التخزين القديمة، أو في حالة انهيار الأنظمة الرقمية، لأسباب متعددة، (زلازل، حروب، قرصنة وهجومات أمنية معقدة وإرهاب).والتي قد تؤدي يومًا ما إلى عدم إمكانية استخدام هذه الوسائط التخزينية، وبالتالي فقدان المخزون الهائل للذاكرة البشرية والمعرفية، في هذه الحالة سنصبح بلا ذاكرة، ونفقد الرؤية المستقبلية.
ويأتي العدم. الذي هو نقيض الوجود المرتبط بنا، بذاكرتنا الحية واحتياجاتنا الإنسانية، والتحول إلى الأنسنة الرقمية (يعني التقرب من العدم)..
فاللاإنسان الرقمي (الذي يعتمد على التكنولوجيا كليًا، سيصبح في دائرة الغياب القسري.. لن يعرف اتجاهه)، وستتعطل بوصلته (سيطرة الرقمنة أو انهيارها)، وهذا سيخلق الكوارث التي بحجم زلزال مدمر، فماذا سنفعل بالقوة التدميرية التي قد لا نستطيع السيطرة عليها؟ هذه حقيقة منزلقة من الوجود الإنساني إلى اللاإنساني العدمي.
فالذاكرة الإنسانية عبر التاريخ انهارت عدة مرات، إما بزوال الإمبراطوريات الكبيرة (البابلية والأشورية والفينيقية واليونانية)، ولفترات طويلة، أو بتدمير المكتبات الكبرى العالمية (مكتبة الاسكندرية، مكتبة بغداد وغيرها…)، وهذا كان انهيارًا بربريًا بفعل قصدي سلطوي أو قوة خارجية، تبعه انحطاطًا فكريًا. أما الانهيار العصري الرقمي (إنهيار الذاكرة الرقمية.
إنهيار الأنظمة الرقمية، أو تسيد اللاإنسان الرقمي)، سيكون لا إرادي، خطأ غير مقصود ربما (أو مقصود)، فالحروب القادمة ستركز على انهيار التكنولوجيا للطرف الآخر. وسيكون اللاإنسان الرقمي أول الضحايا، لاعتماده الكلي على التكنولوجيا، وسيفقد وجوده ويتجه إلى هاوية العدم..
فالاستلاب الرقمي يقود إلى تحطيم المقدرة الإبداعية وإنسانية الوجود، بحيث نقترب من الآلة الصماء، التي تبقى أفكارها باردة، جامدة. كما الاستلاب الروحي القطيعي، الذي يقود إلى كوارث الغائية بشكل لا إرادي لتغييب العقل والابتعاد نحو الميتافيزيقيا.
فالإنسان هذا الكائن الذي يبحث عن غيابه دائمًا، سيحتاج إلى أن يجد وجوديته وإنسانيته، كي لا يصبح في قلب العاصفة، الوجودية التي يستطيع ايجادها بعودته إلى عرائه، من خلال إيجاد تيماته الأخلاقية، التي سُلبت، ومن خلال عدم أخذه الوصفات الجاهزة (يمين يسار، شرق، غرب)، إنما يبتكر اتجاهه.
هكذا نجد أن التغريب الرقمي، الذي يمحي الفكرة ليضع مكانها رقم، لا يميز بين جنس وآخر، أو عرق وآخر، فالاستلاب الرقمي العابر للقارات هو سيطرة على طريقة التفكير، وعلى حرية الاستخدام الحياتي للأشياء.
ذهب الصفاء العرائي الساكن المليء بالدهشة والمتعة والخوف، والفرحة الطبيعية، في ظل تسلط التكنولوجيا الفائقة، وأصبحت ذاكرتنا آلية مرتبطة بالفضاء الإشعاعي الهائل ببياناته الخارقة للكمية والنوعية، لكنها بائسة باردة، لا تقدم الفرح والدهشة والحب، إنما تقدس الأعمال والانغلاق والذاتية المفرطة. كما فعلت سابقًا طبقة الكهنة ورجال الدين في أوروبا العصور الوسطى، عندما خضع الإنسان للكنيسة مكبلاً، بقيدهم الميتافيزيقي غير المنفتح.
تابع قراءة المقال . . .