رقمنة ومعلوميات

العصر الرقمي .. بوصلة الحقيقة المنزلقة


يقول بروتون (نكتشف العدم بالقلق، فنكتشف الوجود، هذه مفارقة كبرى، فالوجود ليس وهج الكائن، بل هو الكائن، وليس كائنا بل عدم). فالوجود لا يخضع للمقولات العلمية ككل، أما الكائن فيخضع للعلم، لذلك فالوجود هو رؤية الشاعر والمتصوف، والأديب، والفيلسوف.

إذًا فإن كشف التناقض والاختلاف بين الكائن والوجود سيؤدي إلى رؤية الحد الفاصل بين الهاوية والطبيعة الإيجابية.

ففي العدم يتجاوز العقل حدوده العليا، ينفلت من عقاله، يتمرد على كل شيء، حيث نعتبر ماهية الإنسان، هي الوجود المنغلق في الزمن، الذي تقلص إلى الآنية مع تسارع الرقمنة الحاسوبية الهائلة، ووسائل الاتصال الكبرى.

فقلصت نسبية أينشتاين الزمان إلى حدوده الآنية، فكل شيء خضع لها، ولم تعد الحقائق ثابتة، فالسرعة جعلت الزمن يتباطأ ويتلاشى إلى أن يتوقف (أينشتاين)، طعنت هوية العقل وأذابته في بوتقة زمانية هلامية، وقاربت على إلغاء النفس والوجود، وحتى جوهر الأشياء. لكن الصراع سيظل قائمًا، بين الرقمنة العملاقة بمكوناتها، وبين الإنسان الوجودي الأنطولوجي.


لكن يمكن انتشال بقايا الوجود الإنساني الفعلي من براثن هذا التغريب اللاإرادي، رغم تقدم اللاإنسان الرقمي الكبير إلى داخل العدم، إلى درجة الصفر (توقف الزمن)، في تسارع هائل، من خلال الاعتماد على الفنون التي ستردع الانهيار التام، إلى حيث سكونية القيم الجمالية، كما قال نيتشة، فالموسيقى تسمو بالإنسان.

وكذلك الشعر وباقي الفنون عندما تلتحم المشاركة الشعبية بالفرح والنقاء، وتنمي الاتجاه الفني الثقافي الذي يستطيع وحده أن يجعل الحياة سعيدة.. فالإنسان المتعالي بإنسانيته الوجودية، ككائن هو الفنان العظيم الأسطوري الذي ابتكر الأساطير والفنون بأنواعها

سيجعل منابع الثقافة ستتدفق ثانية، رغم وجود هذا الكم الهائل من الجزيئات التكنولوجية التي تسبح في الفضاء الرقمي، في محاولة تجزيئ الوجود إلى جزيئات متسارعة، تجعل العقل الرقمي هو السائد، وتحويله إلى اللاإنسان الرقمي..

فكل شيء سيتحول إلى شبكة حاسوبية، حتى دماغ الإنسان سيتحول إلى وسيط للنقل دون إشعاره بذلك، وهذه أعلى درجات الاستلاب الرقمي الذي ستحول الإنسان الوجودي بكل تكويناته، إلى اللاإنسان الرقمي المهدد بالتلاشي.


أما بفقدان ذاكرته الرقمية الضخمة، أو بانهيار أنظمته العملاقة، أو بتحوله إلى وسيلة تجريدية للحساب والرقمنة، فالعقل في هذه الحالة سيصبح في حالة تواصل لا إرادي في الإرسال والاستقبال، وذلك في تسارع الغائي للزمن، في محاولة تفريغ الهوية الكائناتية، من مكوناتها الوجودية، وربما سيؤدي ذلك إلى انفجار الهوية في العقل.

كما هو تفكيك الذرة النووي الذي يطلق طاقة هائلة، وهل انهيار الذاكرة العالمية دفعة واحدة، سيؤدي إلى هذا التشظي والعودة إلى العراء البدائي؟ أم ستبقى وجودية الإنسان تحلق في فضائه، كما نتمنى ونرغب، وتنقذه في الوقت المناسب؟ أم أن الإنسان الرقمي سيعقلن وجوديته بإنسانيته المتوهجة بالفنون، وغير منغلقة على الرقمنة فقط؟ أسئلة بحاجة إلى تعميق المفاهيم والرؤى.

لكن خلال ذلك فلنكتشف مقدراتنا على التأقلم الخلاق في تجذرنا الثقافي والإبداعي الذاتي المتضمن ضمن الفرح الحياتي اليومي للثقافة والفنون.


  د. محمد ياسين صبيح – كاتب وناقد – جامعة تشرين– سوريا

الصفحة السابقة 1 2

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى