الخطاب الفقهي عند ابن رشد .. بين التحصيل والتأصيل
- 1 – مراتب المتلقي في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
لعل أول ما يلفت النظر في كتاب بداية المجتهد هو تقاطب الزوج: “البداية – النهاية” والزوج: “المجتهد – المقتصد”. وإذا كانت بداية المجتهد هي نهاية المقتصد فإن هذا يعني أن الخطاب سيتوجه إلى:
ـ المقتصد باعتباره فوق المقلد ودون المجتهد.
ـ والمجتهد باعتباره في أول خطوات الصناعة الفقهية وهذا المنحى سيتخلل كتاب بداية المجتهد. مما يعني أن المقلد سيكون غائبا، إذ المنهج العام للكتاب يقوم على النظر في أدلة المذاهب والمقلد ليس من هذا الشأن.
إن ابن رشد يريد بتوجيه كتابه إلى “المقتصد-والمجتهد” وإقصاء المقلد إعادة الخطاب الفقهي إلى مستوى الإبداع والنظر الصناعي الفقهي بعد أن فشا التقليد[1].
2 – مفهوم الخلاف في كتاب بداية المجتهد:
يتضح للناظر في كتاب بداية المجتهد أن الخلاف يرد على مستويين:
الأول: الاختلاف في مقابل الإجماع.
الثاني: الاختلاف في مقابل الاتفاق مما ليس فيه إجماع، وكلا المستويين قد يردان بمعنيين اثنين:
الأول – مضيق ويقصد به الخلاف بين المذاهب الإسلامية.
الثاني – موسع ويدخل فيه الخلاف بين أصحاب المذهب الواحد.
3 – علاقة المنهج بالاجتهاد في فقه ابن رشد:
يحاول ابن رشد في كتابه بداية المجتهد إعادة بناء الخطاب الفقهي وترتيبه، وذلك بالنظر في الأصول التي بنيت عليها الأحكام داخل المذاهب الفقهية. يقول ابن رشد: إن “قصدنا كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف بين فقهاء الأمصار.
فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول وفي المسكوت عنها النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة من النوازل، أعني في المسألة الواحدة بعينها ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف.
وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى، فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فتوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه،
وبحسب الحق الذي يؤدي إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها.
وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة فإنه جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس في مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى.
بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه بداية المجتهد وكفاية المقتصد”[2].
فهذا النص يبين مشروع ابن رشد في إعادة منهج التلقي للفقه وتجاوز مرحلة التقليد التي استحكمت في الناس، ويمكن إبراز أهم القضايا التي يتضمنها النص فيما يلي:
أ ـ النظر في أصول الأسباب التي أوجبت الخلاف بين الفقهاء، أي تجاوز التقليد، ومن ثم فليس هذا الكتاب “كتاب فروع وإنما هو كتاب أصول”[3]. فالغاية من تأليف بداية المجتهد هي إعادة النظر في المنهج الفقهي الذي غلب عليه التفريع بفعل التقليد وغاب عنه “تحصيل الأصول”[4].
ب ـ تركيز الاهتمام على “المسائل الضابطة للشريعة، لا إحصاء الفروع، لأن ذلك غير منحصر”[5] وذلك حتى تكون هذه الضوابط “كالقانون في نفس الفقه”[6] من جهة، “والقانون للمجتهد النظار”[7] من جهة أخرى في إطار “… رد الفروع إلى الأصول”[8].
فالكتاب في مقاصده يتوخى النظر في المناهج الفقهية وذلك من أجل تشكيل العقل الفقهي، والارتقاء به إلى مستوى “النظر الصناعي”[9] لأن تحصيل الأصول يعطي الفقيه القدرة على الاجتهاد في النوازل المسكوت عنها، بخلاف الاقتصاد على حفظ الفروع فإنه لا يمنح صاحبه رتبة الاجتهاد،
وفي هذا الإطار ينتقد ابن رشد منهج أصحاب الفروع من فقهاء عصره، ويقارن بين المنهج الذي يدعو إليه ومنهجهم ويبين فضل طريقته وميزتها في تشكيل العقل الفقهي. يقول ابن رشد” “إن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه،
ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا يحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر وهؤلاء عرض لهم شبية ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة، لا الذي يقدر على عملها،
وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت”[10].
إن ابن رشد يحدد موقفه من الأساليب المتبعة في تلقين المعرفة الفقهية، فهو يعتبرها عقيمة لا تؤدي إلى خلق النظر الصناعي الذي ينبغي أن يتحلى به الفقيه لاستثمار الخطاب الشرعي، وتنزيل الفقه بالواقع العملي بحيث يصبح الفقيه قادرا على النوازل التي يواجهها.
ج ـ الدعوة إلى إعادة تنظيم المعرفة الفقهية، وتجديد منهج الكتابة والتصنيف. وذلك حتى يسهل على طالب المعرفة الفقهية التمرن والتدريب على ترتيب الأفكار وربط الفروع بالأصول.
يقول ابن رشد: “فإذا أريد أن يكون القول في هذه صناعي وجاريا على نظام فيجب أن يقال أولا فيما تشترك فيه هذه كلها ثم يقال فيما يخص واحدة منها أو يقال في واحدة واحدة منها وهو الأسهل”[11]. ورغم شعوره بأن هذه الطريقة فيها تكرار إلا أنه يبرر اتباعها بسلوك الفقهاء لها[12].
د ـ اعتبار الفقه صناعة من الصناعات وكل صناعة لابد أن تكون مضبوطة المنهج[13]، ومن هنا سيخرج من الفقه ما ليس منه، وهو ما حفلت به كتب المتأخرين. ففي مسألة اختلاف الفقهاء هل من شروط وجوب الوضوء الإسلام أم لا، يقول “وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي”[14].
وفي مسألة اشتراط الفور من حيث نزع الخف يقول “.. فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل”[15].
وفي مسألة لبن الميتة يقول “ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم، ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول”[16].
ولا يكتفي ابن رشد بإخراج ما ليس من الفقه، بل إنه يدعو إلى إعادة ترتيب الكتابة الفقهية وفق منهج علمي مضبوط وفي ذلك يقول: “وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك ابن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا إذا كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه”[17].
ومما يلاحظ أن ابن رشد يشير في كثير من الأبواب الفقهية إلى الخلل المنهجي في كتب الفقه، مما يستدعي إعادة إدراج المسائل في أبوابها بشكل منهجي، فهو يقول: “والقول في القسامة هو داخل فيما تثبت به الدماء، وهو في الحقيقية جزء من كتاب الأقضية، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم،
وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية رأوا أن الأولى أن يذكر من ذلك الجنس، وأما القضاء الذي يعمر أكثر من جنس واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية، وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب”[18].
وفي هذا الإطار يتناول ابن رشد الدرس الفقهي بمنهج علمي مضبوط، فهو يرى أن كل عبادة تشتمل على أجناس ثلاثة:
الجنس الأول: ويشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات والتي يجب معرفتها.
الجنس الثاني: ويشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى الأركان، وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة.
الجنس الثالث: ويشتمل على الأشياء التي تجري من العبادة مجرى الأمور اللاحقة، وهي أحكام الأفعال[19].
هـ – الاهتمام بالدراية: تبرز أهمية الدراية في الدرس الفقهي عند ابن رشد من خلال دعوته للمجتهد أن يحصل القدر الضروري من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه، وهو في إشارته هذه يكتفي بالإجمال دون تفصيل،
ونحن نعلم أن هناك شروطا أساسية يحتاج إليها المجتهد وتتعلق بعلوم الرواية كمعرفته بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث ومعرفته بأسباب الضعف المعروفة في علم الحديث وعلمه بالناسخ والمنسوخ ومواضع الإجماع ومواضع الخلاف.
ورغم وجود هذه التطبيقات في كتاب بداية المجتهد إلا أن هذا يدفعنا للتساؤل عن الأسباب التي جعلت ابن رشد يقتصر على التنصيص على علمي اللغة والأصول دون غيرهما من الشروط المعرفية التي يتطلبها المجتهد.
إن الأسباب التي استند إليها ابن رشد في اقتصاره على ضرورة تحصيل المجتهد لعلمي اللغة والأصول تتلخص فيما يلي:
1 – سبب منهجي: ذلك أن كتاب بداية المجتهد غايته أن يمد المجتهد بمنهج يستطيع من خلاله أن يفهم الخطاب الشرعي ويتعقل مضامينه، وأن يستثمر أحكامه، وأقرب العلوم وألحقها بمجال الاجتهاد علمي اللغة والأصول.
2 – سبب تربوي: ويتلخص في كون كتاب بداية المجتهد مختصر وطبيعة المختصر تقتضي أن لا يدرج فيه إلا ما يتعلق بالدراية والفهم دون ما يمت بصلة إلى الحفظ والرواية، ذلك أن ابن رشد حاول أن يحافظ قدر الإمكان على هذا المنحى في كتابه إلا أنه كان يخرج عنه قليلا،
فرغم عدم إدراجه لبعض أسباب الخلاف في مقدمته النظرية –كالأسباب المتعلقة بالحديث النبوي- إلا أننا نجده يذكر هذه الأسباب على مستوى التطبيق في دراسة الفقهية، ويحيل في النقل على الاستذكار لابن عبد البر.
ولعل السبب في سلوك ابن رشد هذا المنحى هو نزعته إلى الفصل بين العلوم وتجريدها من الهوامش المعرفية التي تعلقت بها، وتقرير تباين العلوم فيها بينها بتباين طبائع موضوعتها[20].
وليس أدل على هذا من أن الكتب الفقهية التي كانت في عهد ابن رشد كانت تتداخل فيها معارف التراث من فقه وأصول وكلام..
الغائب في فقه ابن رشد:
يلاحظ أن ابن رشد في كتابه بداية المجتهد قد أغفل جانبا مهما من التراث الإسلامي ويتعلق بالفتاوي، فقد عرف بالفتوى وخصوصا أنه مارس القضاء، فما هي الأسباب التي أدت إلى غياب أجوبته في هذا المصنف؟
إن غياب هذا الجانب من كتاب ابن رشد ينسجم مع منهجه وتوجهه العام في تصنيف هذا المختصر، إذ غرضه الأول هو إثبات المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا وذلك حتى يتخذها المجتهد أصولا وقواعد لما عسى أن يرد عليه من المسائل المسكوت عنها في الشرع[21]. فالأولوية ستعطى للمنطوق به في الشرع.
وهناك جانب ثاني ويتعلق بالرقابة الاجتماعية أو بسلطة الفقهاء حيث فشا التقليد، مما جعل بعض الفقهاء يحجمون عن إبداء آراءهم واجتهاداتهم خشية تشنيع الفقهاء عليهم، ومما يؤكد هذا ما حكاه عن جده قال: “وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي رحمه الله، فأفتى أهل زمانه الرواية المشهورة وهو أن لا ينتظر الصغير، فأفتى رحمه الله بانتظاره على القياس، فشنع أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس”[22].
ولعل هذه الشدة والصرامة من طرف فقهاء العصر هي التي جعلت ابن رشد يغفل هذا الجانب من الفقه، وإن كانت له آراء واختيارات إلا أنها تندرج في إطار الترجيح، ومما يصور هذه الرقابة ما يشير إليه ابن رشد في معرض كلامه عن اختلاف العلماء في نجاسة ما خرج من الحيوان،
فهو يقول: “ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور، وإن كانت مسألة فيها خلاف لقيل إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر، وكذلك المسك، وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر”[23].
- النسق الفقهي في بداية المجتهد:
إن الناظر في كتاب بداية المجتهد يلاحظ أن النسق المعرفي الفقهي يتميز بمجموعة من الخصائص تتحدد في إطارها علاقة الأثر بالنظر.
ويمكن فهم العلاقة بين الأثر والنظر أو المنقول والمعقول من خلال النظر في مناهج العلماء في تفسير النصوص، وطرق الاستدلال عندهم لفهم الخطاب الشرعي.
أولا – مناهج النظر في علاقة المنقول بالمعقول.
إن تتبع أبواب ومسائل كتابة بداية المجتهد، واستقراء المناهج المطبقة في استنباط الأحكام، يطلعنا على المذاهب المتبعة في دراسة الخلاف، وهذه المذاهب يمكن تقسيمها إلى خمسة مذاهب.
1 – مذهب الجمع بين الأدلة حيث يتم إعمال الأدلة دون إهمال أحدها، ومبنى هذا المذهب على أن الجمع أولى ما أمكن، لأن الشارع صلى الله عليه وسلم بعث لرفع الاختلاف[24].
2 – مذهب الترجيح: وفيه يتم اختيار دليل معين وترجيحه على باقي الأدلة وفق ضوابط معينة.
3 – مذهب البناء: وهو مذهب يذهب إلى الجمع بين الأدلة ولا يرى أن هناك تعارضا، والفرق بين هذا المذهب ومذهب الجمع أن مذهب الجمع يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر، أما مذهب البناء فلا يرى أن هناك تعارضا فيجمع بين الدليلين[25].
4 – مذهب الإسقاط والرجوع إلى البراءة الأصلية عند التعارض إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ[26].
5 – مذهب النسخ ويعتبره ابن رشد مذهبا مقابلا لمذهب الترجيح، والفرق بينه وبين مذهب الترجيح أن مذهب النسخ يتم إلغاء الحكم فيه رغم ثبوته باعتباره التعارض بين الفعل المتقدم والمتأخر، في حين مذهب الترجيح يعتمد ضوابط أخرى كالطعن في رواية الحديث المرجوح[27].
هذه هي المناهج المذكورة في كتاب بداية المجتهد، وقد حاولنا تجريدها من إطارها المذهبي، وذلك بغية الوقوف على الآليات التي تستخدم في فقه الخلاف، فقد تتداخل هذه المناهج في المدرسة الواحدة أو المذهب الفقهي الواحد.
ثانيا – بنية النسق الفقهي في بداية المجتهد:
اعتمد ابن رشد في تركيب خطابه الفقهي على مجموعة من الثنائيات شكلت أساسا متينا في بناء لغته الفقهية، كما شكلت قطبا معرفيا لتحليل ودراسة بنية النسق الفقهي أفقيا وعموديا.
ولعل أكثر الألفاظ دورانا في هذا النسق هي:
المنقول: المعقول
المسموع: المسكوت عنه
المنطوق: المسكوت عنه
الأصول: الفروع
المتقدمين: المتأخرين
القول: العمل (الفعل)
الأثر: النظر
القطع: الظن
اليقين: الاحتمال
معقول المعنى: غير معقول المعنى[28]
المصلحي: العبادي
التجربة العادة: العبادي.
وهذه الثنائيات يمكن تقسيمها باعتبارات متعددة:
1 – باعتبار نسبتها إلى الشارع: فهي مسموع ومنقول ومنطوق به، أما باعتبار عدم نص الشارع عليها فهي مسكوت عنه.
2 – باعتبار قوة الاستدلال فيها: فهي تنقسم إلى قسمين: قسم يحمل طابع القطع واليقين، وقسم يقع في دائرة الظن والاحتمال.
3 – باعتبار الناظرين في الأدلة: فهناك المتقدمين والمتأخرين، ولكل فئة خصائص معينة في الفعل الاجتهادي.
4 – باعتبار إدراك علة التشريع: فهناك الحكم المعقول المعنى والحكم غير المعقول المعنى أو العبادي والمصلحي.
5 – باعتبار خضوعها للتجربة أو عدمه، وفي هذا الإطار تراعى الأحكام المتعلقة بهذه القضايا لاختلاف التجربة أو العادة..
أما القواعد الكبرى التي تحكم هذا النسق فتتكون من الأصول التالية:
أ ـ الأثر: بالإضافة إلى شروط الصحة التي يتطلب في هذا المجال، فإن هناك قواعد تحكم سلامة الاستدلال في هذا المجال التداولي عند ابن رشد وأهم القواعد:
أ-1-اتساق الشاهد أو كفايته في موطن الحكم، فكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به، فالاحتجاج به ضعيف[29].
أ-2-تغليب السماع على القياس، وفي هذا المجال لا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس[30].
أ-3-اعتبار أن الجمع أولى من الترجيح، ويترتب عن هذه القاعدة أن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التغيير منها على التعارض[31].
ب ـ النظر: ويتكون من جملة القواعد الأصولية التي تستخدم في تفسير النصوص، ويدخل فيها القياس.
ج ـ الأصول: وهي عبارة عن المسائل الضابطة للأبواب الفقهية، فهي نتيجة من نتائج النظر والاستقراء في الأبواب الفقهية لاستخراج القوانين التي تحكم كل باب بحيث يصبح كل باب فقهي وحدة منسجمة تحكمها ضوابط معينة وتتميز بخصائص تميزها عن باقي الأبواب كقوله في حكم الصيد ومحله، إن الأصل في هذا الباب هو أن الحيوان الإنسي لا يؤكل إلا بالذبح أو النحر، وأن الوحش يؤكل بالعقر[32].
وتمتاز الأصول بخاصيتين اثنين:
الأولى يقينيتها، في مقطوع بها[33].
الثانية: إنها تعتبر من المرجحات وتظهر فائدتها في الترجيح في ثلاثة مسائل:
ج-1-ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول[34].
ج-2-إذا وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصول لأن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المختلفة لها[35].
ج-3-يرجح عند التعارض الأثر الذي تشهد له الأصول على الذي لا تشهد له الأصول[36].
وأما أسباب الضعف في الاستدلال وعدم اتساق النسق فإنه يكون نتيجة لسببين اثنين:
الأول: تغليب القياس على الأثر[37].
الثاني: الخروج عن الأصول[38].
مكانة الجامع في فقه ابن رشد، أي علاقة بين الفقه والأخلاق؟
يعتبر كتاب الجامع من الكتب التي ألحقت بكتب الفقه، والسبب في إلحاقها بآخر كتب الفقه يرجع إلى:
اعتبار منهجي: ويتعلق بصعوبة تصنيفها واختلاف موضوعاتها، إذ هي في أغلبها قضايا متباعدة لا يجمعها ضابط، وتشتمل على موضوعات متعددة[39].
وإذا كان الفقهاء قد أدرجوا في هذا الكتاب كل ما يرونه مناسبا بين موسع ومضيق دون أن يحاولوا أن يربطوا بينه وبين الأبواب الفقهية السابقة فإن ابن رشد سيحاول صياغة هذا الكتاب وذلك بإظهار الربط المنطقي بينه وبين باقي الأبواب الفقهية الأخرى.
يؤكد ابن رشد في البداية أن ما ذكر في كتابه يختص بالجانب العلمي وهو الذي يقضي به الحكام، أما ما يذكره الفقهاء في كتبهم الجوامع فهو مما لا يقضى به لأنه داخل في المندوب إليه[40]، كما يشير إلى غياب القانون الذي يجمع شتات الموضوعات المذكورة في كتب الجوامع للفقهاء. يقول ابن رشد: “وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة”[41].
ومن هذا المنطق سيعيد ابن رشد الربط المنطقي بين هذا المبحث المستقل وبين باقي المباحث الفقهية، ولتحقيق هذه الغاية سيركز على فكرة الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة وفضيلة العدل والشجاعة (الرئاسة) وفضيلة السخاء. وهذه الأصول معروفة في الفكر اليوناني فهل هي محاولة من فقيهنا لإظهار ما بين الفقه والحكمة من الاتصال؟
إن ابن رشد لا يقف عند هذه الأجناس الأربعة بل يدرج معها العبادة التي يعتبرها “كالشروط في تثبيت هذه الفضائل”[42]. وذلك باعتبار أن المجال التداولي يرتبط بعلم إسلامي. وحتى يؤكد على الطابع الأخلاقي لكتب الجوامع يشير ابن رشد إلى أن الغاية من تعلم السنن العملية “هو الفضائل النفسانية”[43]. ثم يصنفها إلى خمسة أقسام:
1 – العبادات ويسميها السنن الكرامية وضابطها يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره.
2 – فضيلة العفة ويدخل فيه السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح.
3 – فضيلة العدل ويدخل فيها العدل في الأموال والأبدان، وقد أدرج فيها ابن رشد القصاص والحروب، والعقوبات، “لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل”[44].
4 – فضيلة السخاء وقد أدخل فيها ابن رشد الزكاة، والاشتراك في الأموال والصدقات.
5 – فضيلة الشجاعة (أو الرئاسة) ويعتبرها من السنن الواردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية ويدخل فيها المحبة والتعاون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[45].
إن ابن رشد بمحاولته الربط بين الكتاب الجامع ذي الطابع الأخلاقي وبين الأبواب الفقهية الأخرى يريد التأكيد على وحدة الخطاب الفقهي وانسجامه وعدم انفصال الأخلاق عن الفقه…
إن الطابع المنهجي لكتاب بداية المجتهد على رد الأصول المنتشرة تحصيلا وتأصيلا وبيانا من خلال رؤية واضحة لطبيعة الخطاب الفقهي ومقتضياته.
[1] – لا نريد هنا أن نذكر السياق الذي ظهر فيه كتاب ابن رشد، ودور الدولة الموحدية في الدعوة إلى الرجوع إلى الأصول ونبذ فقه الفروع.
[2] – بداية المجتهد لابن رشد، ج2، ص290/291، طبعة دار الفكر.
[3] – بداية المجتهد، ح2، ص105.
[4] – بداية المجتهد، ح2، ص152.
[5] – نفس المرجع، ص152
[6] – نفس المرجع، ج2، ص111.
[7] – نفس المرجع، ج2، ص116.
[8] – نفس المرجع، ج2، ص111.
[9] – نفس المرجع، ج2، ص93.
[10] – نفس المرجع، ج2، ص147.
[11] – نفس المرجع، ج1، ص87.
[12] – نفس المرجع، نفس الصفحة.
[13] – تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، ص128، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994.
[14] – بداية المجتهد، ج1، ص5.
[15] – نفس المرجع، ج1، ص16.
[16] – نفس المرجع، ج2، ص272.
[17] – نفس المرجع، ج2، ص332.
[18] – نفس المرجع، ج2، ص324.
[19] – نفس المرجع، ج1، ص232-233.
[20] – تجديد المنهج، طه عبد الرحمان، ص132.
[21] – بداية المجتهد، ج1، ص1.
[22] – بداية المجتهد، ج2، ص301.
[23] – بداية المجتهد، ج1، ص58.
[24] – بداية المجتهد، ج1، ص188.
[25] – بداية المجتهد، ج1، ص44.
[26] – بداية المجتهد، ج1، ص212.
[27] – بداية المجتهد، ج1، ص28. ر ح1، ص110.
[28] – يقول ابن رشد: “والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيا ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس” بداية المجتهد، ج1، ص11.
ويقول أيضا “…إن الأحكام المعقولة المعاني في الشرع أكثرها هي من باب محاسن الأخلاق أو من باب المصالح، وهذه في الأكثر هي مندوب إليها” بداية المجتهد، ج1، ص54.
[29] – بداية المجتهد، ج1، ص314.
[30] بداية المجتهد، ج..، ص..
[31] – بداية المجتهد، ج..، ص..
[32] – بداية المجتهد، ج1، ص314.
[33] – بداية المجتهد، ج2، ص216.
[34] – بداية المجتهد، ج1، ص223.
[35] – بداية المجتهد، ج2، ص230.
[36] – بداية المجتهد، ج2، ص194.
[37] – بداية المجتهد، ج2، ص169.
[38] – انظر مثلا، ج1، ص255.
[39] – قال ابن العربي في التفسير: “هذا الكتاب اخترعه مالك في التصنيف لفائدتين إحداهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابا ورتبها أنواعا، الثاني أنه لما لحظ الشريعة وأنواعها ورآها منقسمة إلى أمر ونهي وإلى عبادة ومعاملة وإلى جنايات وعادات نظمها أسلاكا وربط كل نوع بجنسه وشذت عنه من الشريعة معان مفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد لأنها متغايرة المعاني ولا أمكن أن يجعل لكل واحد منها بابا لصغرها ولا أراد هو أن يطيل القول فيما يمكن إطالة القول فيها فجمعها أشتاتا وسمى نظامها كتاب الجامع فطرق للمؤلفين ما لم يكونوا قبل ذلك به عالمين في هذه الأبواب كلها”، تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك للسيوطي، ج2، ص82، دار الفكر.
[40] – بداية المجتهد، ج2، ص356.
[41] – بداية المجتهد، ج2، ص355.
[42] – بداية المجتهد، ج2، ص356.
[43] – بداية المجتهد، ج2، ص256.
[44] – بداية المجتهد، ج2، ص256.
[45] – بداية المجتهد، ج2، ص356.