أدب الطفلأدب وفنونمجاميع قصصية تجريبية

بدرية

لم يُكسِبْها اسمها من الصفة؛ سوى نظارة وجهِها الممزوج بالإجهاد الذي دأبتْ عليه منذ أن تخطّت بقدمَيْها عتَبَة ذلك البيت؛ الذي اكتسبَ رونقَه ونِظامَه مِن نَصَبِ وتَعَبِ تلك الفتاة الضَّامِرة العضلاتِ؛ النحيفة السواعدِ؛ القصيرة القدّ.


لم يتسنَّ لِبَدرية الجلوسُ على مقعدِ الفصل رفقة أقرانِها، ولا سَنَحَتْ لها الفرصة بالرّكض في جَنبات ساحة المدرسة، وترديد أشعار الطفولة وأناشيد الأمِّ وتمجيـــــــــــد الوطن.


لم تحضَ بمحفظة وردية، تُكدِّس فيها كُتُباً ودفاترَ، ومِقلمة توزّعتْ في ثناياها جيوبٌ رُسِمتْ عليها شخصياتٌ كرتونية مشهورة وذائعة الصيت.


ليس لها أن تنتظرَ أستاذاً يدلفُ إلى الفصل ويبدأ الدرس. ليس لها أن تتشوَّقَ إلى عطلة الأحد، وتُجدولَ ساعات يومهِ بين الراحة وتحضير واجبها المدرسي. ليس لها أن تستقصي عن عطلة الربيع متى أوانُها، وفي أيِّ الشهورِ هي؟!.


ليس لها أن تفرح بالنتيجة يوم أن تَزُفَّ خبرَ نجاحِها إلى والديْها، ليس لها أن تختار كعكة النجاح ولا زي الحفلة، ولا ألوان بالونات الزينة وألوانِ الشموع.


كل هذا بالنسبة لها؛ ترَفٌ وبَدْخٌ، وعليها ألا تلتفتَ إليه أبدا، فوَرَاءَها أسرةٌ أفرادُها بعددِ فِراخِ الطيْر، كلُّهم يَشرئبُّون بأعناقهِم ويفتحون أفواههُم في انتظار ما يجودُ به عليهم راتب (بدرية) الهزيل.


كأيِّ خادمةٍ هي؛ في بيتٍ من بيوتِ أولئك الذين يستثمرون أبناءَهم في العِلْم والتَّحصيل؛ ويُرسلونَهم إلى أفضل المدارس؛ ويجلبون لهم أحسنَ الأساتذة والمعلمين، في المقابل؛ يَستغلُّونَ فَقْرَ وعَوَز غيرِهم من الأُسَر؛ ويستقدمون أطفالَهُم لخدمتِهم والسَّهَرِ على راحتهِم.


ملخصُ حياةِ بدرية، لا يتعدى تلك الجُدران الأربعة التي تُشَكِّل المطبخ، شأنُها محصورٌ في كلِّ ما يحتاجُ أن يُغسَل أو يُطهى أو يُكنسَ أو يُكوى أو يُرتَّب.


قاموسُها اللغويُّ صار خِصبا بكل المصطلحات التي لا تَبتعدُ بها كثيراً عن عالمِها الجديد، ومعلوماتُها محصورةٌ في نطاقِــه.
لن يلومَها أحدٌ عن الطفولة التي ضيَّعتْها، أو التي أُجْبِرتْ على التفريط فيها، ولن يُوبّخها أحدٌ إذا لم تُحسن حِفظ قصيدة أو شَكْلَ فَقرةٍ من نص، لن يلومَها أحد إذا اعتذرتْ عن قراءَة رسالة أو كتابة عنوان.


ولكنها لن تُسامَحَ أبدا إذا أفرطتْ في رشِّ رَذاذِ الملح على الطعام، أو إن هي أحرقتْ رغيفا سَهْواً، أو حتى طالبتْ بشطرٍ من المال الذي تَجنيهِ من وراء هذا العمل المُمِضِّ والمُضَني. فأبوها يَعُدُّ الأيامَ عدًّا، وكلُّهُ شوقٌ أن ينقضيَ الشهرُ ليَستخلص أجرة ابنتِه الهزيلة، ويطير بها إلى البادية.


حتى عالمُها الخاصُّ لمْ تَعد تملكُه، فليس عندها ما يَستحقُّ أن تَنسِبَهُ إلى نفسِها وتستمتعَ بملكيتِهِ. حتى الثيابُ التي على هيكلها النحيفِ؛ أسمالٌ باليةٌ استغنى عنها أطفال الأسرة التي تَشتغِلُ عندهم؛ والتي لا تتوانى في خدمتِهم.


عالمُها الخاصُّ خليطٌ من كياناتٍ شتى، تحاول أن تجد لنفسِها موقعا ما، ولو رَمزيا في هذا الخِضَمّ الذي يتبارى فيه الناس بين فقير يسعى للغنى، وغني يسعى للسلطة والسيطرة، ومُجتهدٍ يسعى للنجاح، وناجح يسعى للتميز، ومتوارٍ يسعى للظهور..،


في أيٍّ من هذه الطوائفِ تجدُ ذاتَها المفقودة !!؟، ربما يَلزمُها أن تندرجَ ضمن هؤلاء كطائفةٍ جديدة، طائفةِ المفقودِ الذي يبحثُ عن ذاته وعن كينونتِه.


ينالُها من الإجهاد ما لا تستطيعُ معه أن تُفكِّرَ في عالمِها المجردِ كيف تتمناه أن يكون، فذاكرتُها مليئةٌ بقائمة من الأوامرِ العاجِلة، التي يجب أن تُنجَزَ قبل أن يَنضُجَ العَشاء.


تأوي إلى غرفتِها المتواضعة؛ تماماً كتواضعِ هيأتِها، تضع رأسَها على الوسادة الصغيرة، فتأتيها أسرابٌ من الصور والأفكار التي يَنسُجُها خيالُها، وقِصصًا ومواضيعَ تُؤنسُها في انتظارِ أن يَحِلَّ عليها سُلطانُ النوم.


تَتذكَّرُ أمَّها وحَضْنَةَ الوداعِ ودُموعَ الفِراقِ يومَ أن انطلقت بها الحافلة صوبَ المدينة، تتذكَّرُ جفاءَ الأبِ ووداعَهُ الباهت والجاف، لعلّه كان مُحِقًّا في وداعِه، فتصرُّفُه ذاك؛ أصدقُ تعبيرٍ على ماهي فيه من الشقاء والبؤس، فهيَ لم تُسافر لتدرس ولا لتعمل، إنما لتَخدِم عائلةً مثل التي خلّفتْ وراءَها، إلا أن هذه تَملِكُ وتلكَ لا تَملِك.


تتذكّرُ إخوتَها الصغارَ، وهم يتقافزون حول حقيبتِها حين عودتِها إليهم أياما قليلة؛ مرة في السنة، ستمضي عليها السُّنُونُ سريعا، ثم تطوي حِقبةَ طفولتِها، وتضعُها في رفِّ الذكرياتِ صفحة بيضاء.


أطلقتِ العنانَ لفكرِها وخيالِها الذي يَطرُق كلَّ مكانٍ لها معهُ ذكرى جميلة، وكلَّ زمانٍ منحَها مِن لحظاتِه رشفةً من سعادةٍ ناقصة أو أمان موهوم.


جَسَدُها مازال هناك، محبوساً بين تلك الجدرانِ الصماء، محكوماً عليه بالشقاء، وكلما انتبهتْ تألَّمتْ لكوْنِها ما تزال هناك في بيتِ الشقاء ذاك، فتُمْعِنُ في السَّرحان حيث عالمُها الافتراضي.


يُكسِّرُ السُّكونَ طرَقاتٌ على بابِ غرفتِها؛ لتستدعِيَ وعْيَها سريعا، تَتبعثرُ عناصِرُ عالمِها المُجَرَّد. تَفتحُ عيْنيْها وتُبادرُ بالاستواءِ جالسةً على سريرِها، إنها سيدة البيت، جاءتْ تستأذِنُها لِعَرْضِ قائمةِ الأوامرِ لتُباشِرَها مع خيوطِ الصَّباحِ الأولــــى.


تُحرِّكُ بدريةُ رأسَها بالإيجابِ، ثم تُسْلِمُ رأسها لوسادتِها الواطِئةِ الصغيرة؛ في محاولةٍ منها لاستدعاءِ عالمِها المجرد من جديد، فلا ترى أمامَها إلاَّ تلك الأوامرَ تتشكَّلُ وُحُوشًا تُطارِدُها، وكوابيسَ تُفزِعُها وهي تركض هاربة، فلا تترُكُها إلاَّ مع رَنَّـةِ المُنَبِّـــــــــــــــــــــــــــــــــــه في الصباح الباكر..


صباحٌ باكرٌ جداً…
صباحٌ باكرٌ جداً…
صباحٌ باردٌ وباردٌ جداً…,

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى