الدراسات الأدبية

بيبليوغرافيا الرواية التاريخية

 

لو اقترحنا على باحث إنجاز أطروحة حول الرواية التاريخية العربية ماذا يمكننا أن نتوقع منه في غياب بيبليوغرافيا هذه الرواية؟ لا شك في أن من لديه خبرة في المجال سيجد نفسه أمام ردود أفعال من الطالب، وأسئلة تدور في ذهنه: ما هو المتن الذي سأشتغل عليه؟ وما هو المنهج الذي يمكنني أن أتبعه؟ سؤالان كنت دائما أرفضهما من الطالب الذي يريد الاشتغال معي، لأنهما ببساطة يدلان على أن الطالب ليس في مستوى إعداد أطروحة، وعليه أن يعود إلى تكوين الماستر ليعد نفسه ليكون باحثا جديرا بهذه الصفة. لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، فأنت قد تواجه طالبا يريد التسجيل معك، ويطلب منك الموضوع والمتن والمنهج، ولم يبق له سوى أن يطلب منك كتابة البحث.

بعد أن هنأت ذات سنة طلبة اجتازوا اختبار الماستر، قلت لهم إنني لم أشارك قط في مباراة قبول، لأنني أرى أن طرق الانتقاء غير سليمة. فالنقاط المرتفعة، والميزات المشرفة ليست دالة دائما على مستوى الطالب. كما أن مباراة الانتقاء الكتابي والشفاهي غير دقيقة. ولو أنني كنت ضمن لجنة الانتقاء لطرحت على الطالب سؤالا واحدا: ما هو موضوع أطروحة الدكتوراه الذي تفكر فيه؟ علقت طالبة نبيهة: إذن يا أستاذ سوف لا تختار أحدا؟ فكان جوابي متصلا بما قلته عن رفض المشاركة في تمثيل مسرحية اسمها البحث العلمي، ولكنني لا أرفض ممارسة دوري في التدريس بهدف تناول مسائل المتن والمنهج، والسؤال المعرفي والارتقاء بالطالب إلى مستوى الشعور بأنه طالب باحث، وسيظل أبدا ذلك الطالب مهما أنجز من أعمال، وارتقى من درجات في سلم التراتبية الأكاديمية.

هب أن طالبا جادا جاء يسأل عن موضوع للبحث. واقترحنا عليه الرواية والتاريخ أو الرواية التاريخية العربية. ما هي المشاكل الأولية التي ستعترضه إذا لم يكن لديه اطلاع واسع على الرواية، لسبب أو لآخر؟ فمهما استفرغ هذا الباحث من وقت للاطلاع على الروايات، فلن يحيط علما بكل النصوص التي تصدر في الوطن العربي. ولن يكون قادرا على معرفة الخريطة النصية التي تجعله يختار المتن المناسب، الذي يمكن أن يطور السؤال المعرفي المفترض. إكراهات وعراقيل كثيرة ستعترضه، ومهما كانت نجابته، لن يقدم سوى نسخة من الأطاريح الضعيفة التي تناقش في الوطن العربي.

هل يمكننا اعتبار رواية تتحدث عن الربيع العربي في بلد عربي ما رواية تاريخية «معاصرة»؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها على الباحث العربي لإنجاز أطروحة أو دراسة ما حول الرواية التاريخية أو غيرها من الأنواع الروائية.

لو أن هذا الباحث العربي سجل هذا الموضوع في جامعة غربية، وذهب إلى مكتبة (الفناك مثلا)، لذهب مباشرة إلى الرواق الخاص بالرواية، حيث سيجده موزعا حسب الأنواع الروائية، وضمنها سيعثر على جناح خاص بالرواية التاريخية. وله أن يختار من النصوص ما يشاء: فالعتبات المتصلة بالروايات يمكن أن تتحدد له من خلالها الحقب التاريخية المركز عليها، أو الشخصيات التاريخية التي تدور حولها، أو ما شابه هذا من المحاور التي تدور في فلكها، كأن ينطلق من السنوات التي كتبت فيها ليبحث تزمينا في تطور هذا النوع التاريخي، أي من زمن نشأتها إلى الوقت الحالي، بل يمكنه أن ينطلق من روائي واحد أصدر خلال عقد أو أكثر مجموعة من الروايات المنضوية تحت هذا النوع، أو يعقد مقارنة بينه وبين آخر من بلد غربي آخر، يلتقي معه في تناول حقبة أو شخصية تاريخيتين، أو ما شابه.

لكن هذا الباحث نفسه، في بيئته العربية، يمكن إذا كان يعرف جيدا واقع الرواية العربية ونقدها سيرفض هذا الموضوع، ويقول ببساطة ليست عندنا رواية تاريخية، فكتابنا يكتبون رواية بلا نوع؟ ونقادنا ينفون وجودها، لأنها انتهت منذ زمان في أدبنا. وإذا قبل الموضوع سيفكر في جرجي زيدان، وإذا ما تجاوزه إلى غيره وقف عند حدود أواسط القرن العشرين. إلى جانب مشكلة النوع التي ستعترضه سيجد نفسه أمام غياب بيبليوغرافيات خاصة بالأنواع الروائية.

فإذا كانت بيبلوغرافيا الرواية العربية ناقصة ولا تغطي كل البلاد العربية، ولا ترهّن سنويا باستمرار، سوف لا يجدها تدله على تصنيفها حسب الأنواع، وعليه أن يعمل على تبين ذلك من خلال بعض المؤشرات مثل «الحاكم بأمر الله»، أو «العلامة»، أو «ثلاثية غرناطة»، أو ما شابه هذا من العناوين. أما أغلفة الروايات، وهي من العتبات الدالة، فقلما توحي إلى العوالم التاريخية التي تدور في نطاقها. علاوة على هذا النوع من المشاكل البسيطة، التي تصبح كبيرة في غياب البيبليوغرافيا واستحالة ضبط النوع، وتدقيق العناوين والعتبات، تعترضه مسألة الزمن؟ فمتى يمكن أن ندرج رواية ما في نطاق التاريخ، ونحن نرى المؤرخين كما يتحدثون عن التاريخ القديم، يتناولون التاريخ المعاصر.

فهل يمكننا اعتبار رواية تتحدث عن الربيع العربي في بلد عربي ما رواية تاريخية «معاصرة»؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها على الباحث العربي لإنجاز أطروحة أو دراسة ما حول الرواية التاريخية أو غيرها من الأنواع الروائية. وبسبب التراكم الذي تعرفه الرواية العربية لا بد من الاهتمام بأبحاث علمية تتصل بما قبل الدراسة، وعلى رأسها البيبلوغرافيا الدقيقة والموسعة والمُرهّنة.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى