ملامح من معجم “الغني الزاهر” للدكتور عبد الغني أبو العزم
يا جار الكلمات
لا خوف على خصب سهول الضاد
و القمم الشامخات
ترفع رماح العلم
و رايات الفكر خيط نور
يحرق وصايا سفير الحجز و سفر التقليد
سخي الجهد
سيد الحروف
تخجلني مساحات حقولي
إن رمقت عتبات قصورك
مهداة من الشاعر عبد اللطيف رفيلي إلى فضيلة الدكتور الجليل عبد
الغني أبو العزم و أنا بعد أن تصرفت فيها أقدمها إليه بكل محبة و تقدير
يأتي معجم “الغني الزاهر” ترجمة للوعي بأهمية مواكبة التطورات التي تخضع لها اللغة العربية. يتأسس هذا الوعي على تفعيل بعدين أساسيين في كل ممارسة معجمية علمية هادفة هما
– بعد الشمولية
– بعد الموضوعية
يتجسد بعد الشمولية في العمل وفق محورين :
– محور أفقي:
نلمسه من خلال حرص الدكتور عبد الغني أبو العزم على الاعتماد على مدونة لغوية توخت ملامسة حقول معرفية متعددة ، و هذا التوجه جعله يغرف من الموروث الثقافي العربي بجميع تفرعاته و تشعباته من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر و ينهل من الثقافة المعاصرة بكل تخصصاتها و توجهاتها، مع الاطلاع على آخر إصداراتها و مستجداتها سواء ما تعلق منها بالمعجم أو غيره من الحقول المعرفية المتعددة، هذه كلها موارد وجدت في معجم الغني الزاهر أرضية للتلاقي و الانصهار. الأمر الذي يفسر الطبيعة التعددية في وصف و تفسير و تحليل المادة المعجمية و يكشف أيضا عن طبيعته الموسوعية.
– محور عمودي:
إذا أردنا أن نقوم بجرد للمداخل المعجمية الواردة في معجم الغني الزاهر في إطار مقاربة كمية فسنجد أنه قد تضمن ما يفوق 65000 مدخلا توزع ما بين مفردات عربية قديمة و حديثة عرض من خلالها لتاريخ أكثر من 7300 مدخل معجمي، كما تضمن استشهادات من القرآن الكريم بما مجموعه 2.020 و أحاديث نبوية شريفة بما مجموعه 367 حديث و استشهادات أدبية موثقة بلغت 7354 و استشهادات توضيحية فاقت 21000، كما أنه لم يغفل الاستشهاد بالأمثال حيث أورد ما يقارب 300مثلا.
إن هذا الكم الهائل من المفردات المعجمية هو محاولة جادة لمواكبة وظيفية اللغة و حركيتها الدائمة، بناء على متون متنوعة و ما يقتضيه ذلك من ضرورة اللجوء إلى التنظيم الماكروبنيوي و الميكروبنيوي، و ما يحتمه ذلك من استحضار للروابط الناظمة للمستويين . كل ذلك من شأنه أن يظهر الوحدات المعجمية لا باعتبارها وحدات معزولة و منغلقة عن ذاتها، و إنما باعتبارها وحدات منفتحة و متلاحمة.
أما بعد الموضوعية فيتجسد في المنهجية التي اتبعها الدكتور عبد الغني أبو العزم في تحليل المدونة التي اعتمدها ، و هي منهجية توخت الدقة العلمية في التعامل مع المادة اللغوية من جهة و تبسيط هذه المادة وتقريبها إلى القارئ باللغة العربية من جهة أخرى.
نتج عن اعتماد هذين البعدين إحداث تحول هام في مسار البحث المعجمي العربي. نعني بالتحول أن الدكتور أبو العزم قد أحدث قفزة نوعية في هذا المجال. قفزة تؤسس لمدرسة معجمية خاصة لها أسسها و مقوماتها و طرقها الخاصة في التعامل مع المادة المعجمية.
و لئن كان الخليل بن أحمد الفراهيدي يعد رائد أول مدرسة معجمية في تاريخ البحث المعجمي العربي، فإن الدكتور أبو العزم يعد رائد هذه المدرسة المعجمية الحديثة التي غيرت المنظور الذي اشتغل به المعجميون العرب عبر التاريخ ، حيث وظف مجموعة من الإواليات نجمل أهمها فيما يلي:
1- ترتيب المداخل المعجمية ترتيبا ألفبائيا بإتباع طريقة نطقها. لقد درجت المعاجم العربية سواء القديمة منها أو الحديثة على إثبات الجذر اللغوي باعتباره ركيزة تقوم عليها مجموعة من المشتقات، و بالتالي لابد من معرفة جذر الكلمة لكي يمكن البحث عنها في المعجم. أما بالنسبة للغني الزاهر، فإنه قد عمد إلى ترتيب المداخل المعجمية ترتيبا ألفبائيا حسب نطقها و تعامل معها باعتبار أن لها وضعا مستقلا داخل المعجم ، فالكلمات المجردة و المزيدة كلها تقف على قدم المساواة في معجم الغني الزاهر، و كل منها يقدم في مدخل مستقل، ذلك لأن المعيار المعتمد في الترتيب هو معيار نطق الكلمة، و هو معيار يؤسس لتصور نوعي جديد في نظم المعاجم العربية.
2- ربط الألفاظ بشروط إنتاجها: و هو أمر أدى به إلى إدراج الألفاظ المستعملة و المتداولة في الحياة اليومية للغة العربية، و ما يقتضيه ذلك من اللجوء إلى إثبات التجديدات اللغوية و الاقتراضات من لغات أخرى و ما يتضمنه ذلك من إدراك لتأثير عوامل التقدم الحضاري و التقني على القدرة المعجمية و تحفيزها لها على إنتاج ألفاظ جديدة أو اقتراضها للتعبير عن دلالات لم تكن موجودة في السابق. إذا كنا نعتبر أن المعجم يعكس اللغة في مرحلة معينة و يقوم شاهدا عليها، فإنه في الآن نفسه له دور وصفي و معياري. إنه وسيط بين الضوابط التي تفرضها اللغة من جهة و إنجاز مستعملي هذه اللغة من جهة أخرى، و بالتالي إدخال المولد و معجمته لا يكون أبدا من باب الاعتباطية و إنما هو وليد ملاحظة دقيقة لتواترات الاستعمال. إن هذه التواترات هي التي تشكل الحافز لإدماج الوحدة المعجمية في المعجم و ما يعنيه ذلك من منحها وجودها الفعلي باعتبارها وحدات معجمية انتقلت من المستوى الفردي غير المستساغ إلى المستوى الجماعي في إطار عشيرة لغوية معينة ،و ما يرتبط بذلك من خاصية القبول و الاعتراف و ما يتيحه ذلك من تجديد للذاكرة اللغوية . من هنا نستنتج أن الغني الزاهر هو مرآة لعصره لكونه يجسد مرحلة من مراحل تطور اللغة العربية من جهة و يشكل مقياسا للقدرة المعجمية التي يتوفر عليها المتكلم بالعربية من جهة أخرى.:
3- الحرص على الاستشهاد بنصوص متعددة من حيث المكان و الزمان، إذ نجد شواهد من إما الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، أو الأمثال، أو الكتب الأدبية لأشهر الكتاب والأدباء، قدماء ومحدثين من المشرق و المغرب، و هذا معطى جديد جعله يدرج أعلاما لا نجد لهم أثرا في المعاجم العربية التي ألفت من قبله.
4- إدراج العديد من المصطلحات التي تهم حقول معرفية متعددة، سواء ما ارتبط منها بالعلوم الإنسانية أو التقنية أو غيرها مع تعريفها بطريقة دقيقة و مركزة.
5- إدراج العديد من الخرائط و الصور البيانية و اللوحات الفنية و غيرها ، الأمر الذي يتيح تقديم أوصاف متعددة الزوايا. و بالتالي تقريب معاني المداخل المعجمية إلى القارئ.
إن هذه الخصائص و غيرها جعلت معجم الغني الزاهر يحقق استراتيجيتن أساسيتين: تتمثل الأولى في تحقيق مبدأ الاقتصاد في الوقت و الجهد الذي يمكن أن يبذلهما القارئ و هو يبحث في المعجم، و تتمثل الثانية في تحقيق مبدأ الانسجام في عرض المادة المعجمية وفق منهجية دقيقة ركزت على محورين هامين رغم تعدد المعطيات و غناها و هما:
– إجمال السمات الصورية للمداخل المعجمية وفق خطة محكمة تنطلق من إثبات كل ما يتعلق بها، فيحدد النمط و الجذر و كل السمات البنيوية من لزوم و تعد و تذكير و تأنيث وصيغ و أوزان و غيرها.
ـ إجمال السمات الدلالية بالوقوف على معاني المداخل المعجمية الحقيقية منها و المجازية و توارداتها، و هو أمر دعا الدكتور أبو العزم إلى ربط كل معنى بسياق استعماله، و ذلك في اتجاه التأسيس لقواعد علاقية تربط بين هذه المعاني في إطار شبكة دلالية تنبني على المعاني المعجمية، و ذلك من خلال ربط المعنى بالاستعمال و من ثم ربطه بسياقات وروده ذلك لأن الوحدة المعجمية كما يشير إلى ذلك . Le pesant et Mathieu- لوبوزان و كاتيي كولا (1998 : 6)
” تأخذ هويتها انطلاقا من موقعها في النسق أي مجمل التعالقات التي تقيمها مع الوحدات المعجمية الأخرى سواء على المستويات الدلالية أو المستويات الصورية والصرفية و التداولية”. و هذا ما يتيح ضبط درجة تواترها و بالتالي وظيفيتها داخل نسق اللغة. إن حرص الدكتور أبو العزم على إيراد شواهد مختلفة للتدليل على المعاني المختلفة للوحدة المعجمية يضبطه تصور نظري يقوم على اعتبار أن الوحدة المعجمية ليست معطى قبلي ملموس و مباشر و إنما هي معطى بعدي posteriori له وضع أداتي إجرائي، و بالتالي فهي لا تأخذ هويتها إلا بربطها بمجمل توزيعاتها سواء باستحضار البعد الدياكروني أو البعد السنكروني.
إن تلازم الخصائص الصورية بالخصائص الدلالية و النظر إلى هذه الخصائص مجتمعة بربطها بتوارداتها الممكنة هو ما يجعل المعجم ليس فقط تجميعا للألفاظ و معانيها في إطار مدونة، و إنما هو أكثر من ذلك، إنه بحث عن طابع النسقية في المادة المعجمية. نسقية تتجاوز بالضرورة ما هو خاص بكل مدخل من المداخل المعجمية إلى استبطان نقط الاشتراك و التآلف القائمة فيما بينها.
ينضاف إلى هذا جانب التصور النظري جانب ،الحدس المعجمي الذي يشكل مقياسا لتحديد درجة و مدة استعمال الوحدة المعجمية، و بالتالي تحديد وجوب إثباتها أو إلغائها من المخزون المعجمي.
إن اعتماد هذين الجانبين جعل الدكتور أبو العزم يقدم لنا مادته المعجمية في إطار نسق معجمي متلاحم تؤثته معطيات لغوية فونولوجية و صرافية و تركيبة و دلالية و تداولية و معطيات أدبية و دينية و تاريخية و جغرافية و فنية و غيرها. الأمر الذي يمكننا من أن نشكل تصورا أوليا عن المجهود الجبار الذي بذله في معجمه “الغني الزاهر”، و الذي أتى تتويجا لمجموعة من أعماله المعجمية السابقة من نحو “المعجم المدرسي أسسه و مناهجه” الصادر سنة 1998 و ” المعجم الصغير” الصادر سنة 1993 و ” معجم تصريف الأفعال” 1997 و ” معجم المصطلحات الدينية ” الصادر سنة 2005 و ” المعجم اللغوي التاريخي الصادر سنة 2006 و غيرها.
بقي أن نقول إن التقنيات المعجمية و المنهجية الدقيقة التي اعتمدها الدكتور أبو العزم تدحض الصورة النمطية حول البحث المعجمي، و التي تتلخص في عدم وجود نظرية تؤطر الاشتغال بالمعجم، و عدم تقيده بضوابط و شروط محددة. هذه الصورة النمطية نجدها عند باحثين عرب كما نجدها عند باحثين غربيين كثيرين من أمثال Wierzbicka1985 :5) و( 1994Ted Briscoe) و غيرهما ممن يذهب إلى القول إن
الباحث المعجمي لا يحتاج إلى عدة نظرية لإنجاز المعاجم ، و الحال أنه ليس هناك عمل تطبيقي لا يؤطره بعد نظري. إن الاشتغال بوضع المعاجم لا يمكن أن يتم – كما يؤكد على Piet Swanepoel 1989 – في غياب أسس نظرية مؤطرة تمكنه من حل العديد من المشاكل المعجمية التي تصادفه. إن وصف المادة المعجمية تتحكم فيه فرضيات نظرية و مبادئ لسانية منهجية. يمكن للمعجمي ألا يصوغ هذه الفرضيات و تلك المبادئ في إطار جهاز مفاهيمي معلن عنه، لكنها تبقى مبادئ موجهة لعمله ، بل أكثر من هذا إن المعجمي يعتمد بالإضافة إلى ذلك على الحدوس اللغوية النظرية التي تجعله مؤهلا للتعامل مع الألفاظ الجديدة و قادرا على إدراجها في المعجم ، و بالتالي نقلها من مجال الاستعمال الشفوي إلى المجال المكتوب الذي له قيمته و له ثقله في الاعتراف بهذه الألفاظ و قبولها و بالتالي دمجها في النسق اللغوي.
ختاما نقول إن الغني الزاهر فتح الباب أمام تصور جديد للتعامل مع المادة المعجمية. تصور استفاد من مقاربات لسانية متعددة، ذلك لأن جمع المادة و تأليفها و تحليل المعطيات و توضيبها و ربطها بسياقات وردها تحكمه ضوابط منهجية. إن هذه الضوابط المنهجية – كما يشير إلى ذلك هوسمان و آخرون(1986 ،272) – هي خلاصة لأنشطة معرفية عديدة تتضمن الجمع و التمحيص و التقويم و الحل لإشكالات منهجية و الضبط لإجراءات ترتيب المادة و كيفية التعامل معها وفق معايير مدروسة و محددة، و بالتالي يتم القيام بعمل مزدوج صناعة المعجم من جهة و وضع أسسه النظرية و المنهجية من جهة أخرى.