نظرية الحقول الدلالية
إذا كانت المدرسة الأمريكية التي قدمت نظرية التحليل التكويني للمعنى من أهم المدارس التي تمثل أحدث الاتجاهات في دراسة الدلالة في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنها لم تكن الوحيدة في ميدان الدراسات اللغوية، فقد كانت المدرسة الإنجليزية التي قدمت نظرية السياق، كما سبقتهما المدرسة الألمانية بنظرية المجال الدلالي التي لعبت دورا مهما في دراسة المعنى.
ويُعـدّ دى سوسير رائد هذا الاتجاه عندما لفت الانتباه إلى ما أسماه بالعلاقات الاتحادية rapports associatifs التي توجد بين عـدة وحدات كلامية، مثل كلمات: “يخشى craindre ويشكك redouter ولديه خوف avoir peur ” .
ومن ثم عُرِف المجال الدلالي بأنه مجموعة من الكلمات ترتبط دلالاتها، وتوضع تحت لفظ عام يجمعها، أو “مجموعة من الكلمات المتقاربة التي تتميز بوجود عناصر أو ملامح دلالية مشتركة” ، وقد عرّف أولمان المجال الدلالي بأنه “قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبر عن مجال معين من الخبر” وعرفه جون ليونز بأنه “مجموعة جزئية لمفردات اللغة” .
وبناء على ما سبق فإن معنى الكلمة وفقا لهذه النظرية يُحَدّد على أساس علاقتها بالكلمات الأخرى المجاورة لها، أو من خلال مجموعة الكلمات المتقاربة التي تملك علاقة تركيبية ، ومثال ذلك كلمات الألوان في العربية؛ فهي توضع تحت اللفظ العام (لـون) وتضم ألفاظا مثل: أحمر وأبيض وأزرق وأصفر وأخضر.
وتعتمد هذه النظرية على الفكرة المنطقية التي تقول بأن المعاني لا توجد منعزلة الواحد تلو الآخر في الذهن، بل لابـد لإدراكها من ارتباط كل معنى منها بمعان أخرى؛ فلفظ إنسان الذي نعده مطلقا لا يمكن أن نعقله إلا بالإضافة إلى كلمة حيوان مثلا، ولفظ رجل لا يمكن أن نعقله إلا بالإضافة إلى لفظ امرأة، ولفظ حـار لا يفهم إلا بالإضافة إلى لفظ بارد؛ فلابـد من بحث الكلمة مع أقرب الكلمات إليها في إطار مجموعة واحدة، وعلى سبيل المثال فإن الكلمات التي تمثل التقديرات الجامعية (ممتاز، جيد جدا، جيد، مقبول، ضعيف، ضعيف جدا) لا يمكن فهم إحداها إلا في ظلال الكلمات التي قبلها أو بعدها .
فهدف التحليل في ضوء هذه النظرية الدلالية هو جمع كل الكلمات التي تخص مجالا معينا والكشف عن صلاتها، كل منها بغيرها، وصلاتها جميعا باللفظ العام مثل اتحاد الكلمات التي تشير إلى الحيوانات النافعة animaux domestiques واتحاد الكلمات التي تدل على السكن habitation ، واتحاد الكلمات الاقتصادية économiquement ، واتحاد الكلمات الاجتماعية socialement وغير ذلك .
وقد بات لهذه النظرية قسط كبير من دراسات اللغويين؛ لأهمية دورها في دراسة المعنى؛ حيث تلعب دورا كبيرا في الدرس اللغوي من أجل إعادة بناء نظام هياكل أكثر شمولا للغة، وتمكّننا من الوقوف على البنية الدلالية لكل لغة والتي تختلف من لغة لأخرى؛ وفقا لثقافة الجماعة اللغوية.
ويرى أصحاب هذه النظرية أنه من الضروري بيان أنواع العلاقات داخل كل حقل دلالي، ولا تخرج هذه العلاقات في أي مجال عن: “الترادف، الاشتمال، التضاد، التنافر، علاقة الكل بالجزء” .
وإذا كان العلماء العرب القدماء قد تنبهوا إلى نظرية السياق فإنهم أيضا تنبهوا إلى نظرية المجال الدلالي، وسبقوا بها الأوربيين بعدة قرون، وإن لم يعطوها اسمها المعاصر.
ولعل الرسائل اللغوية التي قاموا بتصنيفها تعد نماذج تطبيقية لنظرية الحقول الدلالية والنواة الأولى لمعاجم المعاني، وقد اقتصر بعضها على حقل دلالي واحد مثل: (خلق الإنسان، الإبـل، الخيل، الشاء، النبات، المطر)، واشتمل بعضها على أكثر من حقل دلالي مثل: غريب المصنّف لأبي عبيد؛ الذي يعد أول معجم دلالي تعرفه العربية؛ فهو مرتب بحسب المعاني أو المفاهيم، وكتاب المنجّد لكُراع النمل؛ إذ اشتمل على ستة حقول دلالية تناولت أعضاء جسم الإنسان، وكلمات الحيوان وكلمات الطيور، وكلمات السلاح وأنواعها، وكلمات السماء وما فيها، وكلمات الأرض وما عليها.
ومن المصنفات العربية التي تُعـدّ نموذجا تطبيقيا لنظرية الحقول الدلالية: مبادئ اللغة للإسكافي، وفقه اللغة للثعالبي، والمخصص لابن سيده، وحدائق الأدب للفاكهي .
من فضلكم، لمن المقال ؟