معجم

وأخيرا مُعجم تاريخي للغة العربية

 

تحتاج المطامح الكبرى إلى مبادرة طيبة، ودعمٍ كريم. ومتى اقترنا باختيار نخبة كفؤة، وإرادة صادقة كان ذلك إيذانا بتحويل حلم المطامح الكبرى إلى واقع وحقيقة. من السهولة بمكان توفير الدعم الكريم إلى جانب المبادرة الطيبة لكن غياب كفاءة النخبة وصدق الإرادة، يعملان على إعاقة إكساب المبادرة مفعولها، وهدر المال العمومي في ما لا يفيد. لقد كرس للمخطط الاستعجالي للنهوض بالتعليم المغربي ما بين 2009 و2012 كرم فوق حاتمي (44 مليار درهم)، لكن النتيجة لم تكن لها أية علاقة بالمبادرة. بددت الأموال، وفوتت على المغرب فرصة ذهبية لتجديد منظومته التربوية المتهالكة وتطويرها. ويمكننا أن نعدد الأمثلة من مختلف أطراف الوطن العربي.

تم يوم 10 كانون الأول (ديسمبر) 2018 إطلاق البوابة الإلكترونية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية الذي أشرف عليه المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، وصاحبه مؤتمر علمي تحت عنوان: “المعاجم التاريخية للغات: مقارنات ومقاربات”. حضر اللقاء إلى جانب المساهمين في الإعداد العلمي جمهور غفير من الأكاديميين والمثقفين والمعنيين بشأن اللغة العربية وآدابها، من العرب والأجانب. كان ذلك حدثا حقيقيا لا يمكن إلا أن يبتهج له كل مهتم بالعربية، لغة وثقافة، من العرب وغيرهم من عشاق هذه اللغة التاريخية والحية. لقد ظل حلم تحقيق هذا المنجز العلمي يراود الكثيرين من عشاق العربية والمشتغلين بها من المستشرقين والعرب منذ بدايات القرن الماضي إلى الآن. كما ظل غياب معجم من هذا النوع فجوة كبرى في تاريخ الثقافة العربية الحديثة. واعتبرت هذه الفجوة منقصة تطال العربية والمشتغلين بها لأنها دليل ليس فقط على الإهمال وسوء التقدير، ولكن أيضا على عدم التعرف على تاريخ المفردات العربية الذي لا يعني سوى جهل بالتطور الذي عرفته خلال تطورها، وما صاحبها من تغيرات وتبدلات.

إن اللغة العربية شأنها في ذلك شأن كل اللغات المعاصرة كائن حي. لذلك يعتبر التأريخ لمفرداتها توقفا على نشأتها وما رافقها من تحولات في تاريخها الخاص. ولا يمكن للمتعامل مع هذه اللغة الكشف عن أسرارها وعجائبها في غياب معرفته بتشكل حياة كلماتها وتطورها إسوة بغيرها من اللغات التي بذلت مجهودات تقاس بالعقود بهدف التوصل إلى التأريخ لمفرداتها. كان معجم أكسفورد التاريخي للغة الإنكليزية أنموذجا لكل من راودهم هاجس تحقيق هذا الحلم بالنسبة للغة العربية، رغم الفارق الكبير بين اللغتين، وصعوبة إنجازه بالنسبة للغة العربية ذات التاريخ الطويل. لذلك فقد ظل هذا الحلم يشغل بال الكثيرين، وكان إطلاق بوابة معجم الدوحة التاريخي للعربية إعلانا لتحقيق هذا الحلم.

كان من بين أكبر المنشغلين بهذا الحلم المستشرق الألماني أوغست فيشر. أتركه يعبر عن حلمه، من خلال مقدمة كتابه “المعجم اللغوي التاريخي”، لما له من دلالات تكشف عن عشق العربية والاهتمام بها لدى “غير الناطقين بها” بالمقارنة مع بعض أبناء الضاد الذي يحملون معاول إقبارها: “يرجع تفكيري في تأليف معجم كبير للغة العربية الفصحى يفي بالحاجات العلمية للعصر الحاضر إلى العُشْر الأول من القرن الحالي، وقد عرضت أمري هذا لأول مرة على الرأي العام في سنة 1907، في باسل للمستشرقين الألمان”. “ولقد عرضت مشروعي للبحث من جديد في المؤتمرين الأمميين للمستشرقين اللذين عقدا في كوبنهاكن سنة 1908، وفي أثينا سنة 1912. ووافقت اللجنة المختصة في كوبنهاكن بالإجماع على القرار الآتي: “ترحب اللجنة الإسلامية لمؤتمر المستشرقين الأممي الخامس عشر بمشروع أ. فيشر الذي يرمي إلى تأليف معجم للغة العربية الفصحى يلائم روح العصر… وتعبر عن موافقتها بالإجماع، وتأمل أن يوفق في اكتساب معاونيه، وفي الحصول على المال اللازم لتحقيق هذا المشروع”. ويتابع “ولكني لم أستطع أن أبدأ بتنفيذ المشروع إلا بعد تأسيس معاهد الأبحاث السكسونية في ليبتسك، وكان ذلك عام 1914، وصرت مدير القسم العربي الإسلامي لمعهد أبحاث الاستشراق، وحصلت بصفتي هذه على مال، زاد عليه ما تبرع به لي مرات عدة المجمع السكسوني للعلوم، فتمكنت من استخدام شابين لمساعدتي…”. لكن ظروف الحرب العالمية الأولى، ونقص التمويل بسببها، حالت دون مواصلة العمل، لكن مجمع اللغة العربية بالقاهرة تحمس للمشروع، وقدم المساعدات اللازمة لتحقيق حلم فيشر، لكنه توفي قبل أن يستكمله بعد حوالي خمسين عاما من العمل المتواصل. وطبع القسم المنجز هذا المعجم متوقفا تاريخيا على القرن الثالث للهجرة، وعلى كلمة “أبد”.

توالت، بعد ذلك، أحلام تحقيق معجم تاريخي للغة العربية من لدن الباحثين والمختصين، وعقدت لقاءات متعددة في مناطق شتى من الوطن العربي، وعقدت ندوات، وألفت كتب تتناول مشكلة إعداد معجم تاريخي عربي. وأخيرا تحقق هذا الحلم الذي كان فعلا حلم أمة، وجاء ليسد ثغرة كبرى في تاريخ اللغة العربية وثقافتها.

شارك في هذا المشروع تحت إشراف الدكتور عز الدين البوشيخي المدير التنفيذي للمعجم قرابة ثلاثمائة باحث من أساتذة الجامعات المختصين في الدراسات اللغوية واللسانية العربية ينتمون إلى عدد من الدول العربية، من المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن والإمارات والسعودية وقطر والكويت واليمن. ضم المعجم مواد المرحلة الأولى الممتدة من أقدم نقش عربي موثق إلى حدود نصوص العام 200 للهجرة، والمتضمنة لزهاء مئة ألف مدخل معجمي بناء على مدونة هامة من النصوص العربية، وتتوقف المرحلة الثانية من المشروع التي نوقشت إجراءاتها في اللقاء نفسه على سنة 500 للهجرة. إن المشروع هام على مستويات عديدة، فهو من جهة يكشف بالملموس على ألا شيء مستحيل إذا حسنت النوايا، وتوفرت الإرادة، وكان التصميم الجاد، والمتابعة الدقيقة، والحريصة على إنجازه مهما كانت الإكراهات والظروف المصاحبة. كما أن اختيار الكفاءات وممارسة الحوار العلمي الجماعي الذي يعلو على الحساسيات الفردية أو العقد المحلية أو القُطرية، كل ذلك كفيل بتحقيق المشاريع الكبرى التي لا يمكن إلا أن تكون مفيدة للعرب فقط، ولكن للإنسانية جمعاء. لقد أنجز هذا المعجم خلال خمس سنوات، وفي هذا دليل واضح على الوتيرة التي تم الاشتغال بها لإنجاز هذه المعلمة والمفخرة الكبرى والتي استعصى تحقيقها خلال قرن كامل وعشر سنوات من الزمان.

إن الدرس الهام الذي يمكننا الخروج به من خلال التجربة الناجحة لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو أن بإمكان العرب أن ينجزوا أشياء كثيرة، وفي زمن قياسي، وفي أي مجال، إذا ما تضافرت الجهود وتوحيدها، وتم تجاوز العمل الأحادي وغير المنسق، وكان نكران الذات الوطنية لفائدة الهوية الثقافية والتاريخية التي تجمع العرب ليس كعرق، ولكن كحضارة وثقافة وتاريخ. هناك مشاريع كبرى تنتظر الثقافة العربية وتاريخها، وتتوفر الآن، قبل أي وقت سابق، شروط تحقيقها بسبب وجود الإمكانات والكفاءات، لكن ينقصها التدبير والإرادة. لا توجد في العربية دائرة معارف عربية ـ إسلامية شاملة، ولا موسوعة لتاريخنا الثقافي، ولا تحقيق لكل مخطوطاتنا الموزعة في المكتبات العالمية… وقس على ذلك. هناك مجهودات متفرقة أعدها أفراد في كل هذه الأعمال الجليلة، وهي ما تزال تستدعي العمل الجماعي المؤسس على رؤية بعيدة المدى لتحقيقها.

المعجم التاريخي للغة العربية بداية، فلتكثر البدايات.

للولوج للـ: معجم التاريخي للغة العربية

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى