تقييم المعاجم العربية الحديثة في ضوء متطلبات المستعمل العربي
تشهد جميع الأمم للعرب بفضل السبق والتميز في مجال التأليف المعجمي والتفنن في هذه الصناعة الأصيلة، فالبحث المعجمي عند العرب بدأ ناضجا في القرن الثاني الهجري بتأليف الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175هـ) لمعجمه “العين”، وتتابعت بعده المصنفات المعجمية وتباينت من حيث مبدأ الوضع والجمع والتوثيق مما أدى إلى ظهور مدارس معجمية عديدة، أنتجت معاجم أكثر من أن تعد أو تحصى، وظل العرب حتى أواخر القرون الوسطى سباقين في وضع المعاجم اللغوية، إلى أن دخلت الصناعة المعجمية العربية مرحلة من الركود والجمود عرفت بمرحلة الانحطاط، والتي تراجع فيها التأليف المعجمي تراجعا كبيرا ودخل في سبات عميق. ومع بزوغ فجر عصر النهضة عاد الاهتمام بالعمل المعجمي العربي مرة أخرى، وتراوحت جهوده بين الفردية والجماعية، فظهرت قواميس عديدة حاول مؤلفيها تجنب عيوب المعاجم القديمة، فما هي إذا مظاهر وتجليات هذه الجهود؟ وما مدى مواكبتها للعصر وتلبيتها لحاجات ومتطلبات المستعمل العربي؟
منذ بداية النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعلى امتداد قرن ونيف من الزمن، وبتوافر الطباعة والرغبة في صناعة معاجم تخدم أهدافا متنوعة، بذلت محاولات متعددة للتغلب على مشاكل المعجم العربي، لما لوحظ عليه من نقائص وثغرات، فقدم الكثيرون صورة للمعجم الحديث في نظرهم. وهناك محاولات نظرية أو تطبيقية قدمها بعض الأفراد، كما أن هناك محاولات قامت بها بعض المجامع اللغوية، وسنبدأ بمحاولات الأفراد ثم نثني بمحاولات المجامع اللغوية[1].
لقد برزت محاولات فردية عديدة اتخذت أشكالا مختلفة، أهمها ما قام به ثلة من اللغويين اللبنانيين الذين حاولوا أن يصبغوا المعجم العربي بصبغة الحداثة بما يتوافق مع طبيعة العصر ومتطلباته الحضارية والعلمية، فألفوا العديد من المعاجم -والمقام هنا لا يسع لذكرها جميعها، بل سأقتصر على ذكر أكثرها إضافة واستعمالا كمحيط المحيط لبطرس البستاني1886م[2]، وأقرب الموارد لسعيد الشرتوني 1889م[3]، والمنجد لليسوعي 1908م[4]، ومتن اللغة لأحمد رضا العاملي 1958م[5]…
إن الخروج بالصناعة المعجمية العربية الحديثة من براثن الانحطاط والنهوض بها، ما كان ليتأتى لولا ظهور هذه المحاولات الفردية المحترمة والقيمة، التي حققت إضافات لا يمكن إنكارها، إذ أضافت إلى الفصاحة العربية القديمة مداخل جديدة، تمثلت في الألفاظ المولدة والمعربة والعامية والمسيحية والمصطلحات العلمية…، وهذا ما ينم على أن الاستعمال الفعلي للغة كان قد بدأ يفرض نفسه -نسبيا- بدلا من الرصيد اللغوي القديم، فساهمت قدر المستطاع في تحديث القاموسية العربية وتطويرها إلى ما هو أفضل، ولكن بالرغم من كل ما أنجزته، أصبحت اليوم –في ظل ما تعرفه اللغة العربية حاليا من نمو وتوسع كبيرين من جهة، وفي ضوء مستجدات التقنية الحديثة للقاموسية من جهة أخرى- قواميس متجاوزة وغير مواكبة للمرحلة الراهنة، من ناحيتين اثنتين على الأقل: المادة المعجمية من جهة، والتقنية المستعملة في معجمة هذه المادة من جهة أخرى[6].
إن مراجعة المعاجم -سالفة الذكر- في ضوء المادة المعجمية ومدى مسايرتها للتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، ومواكبتها للعصر ومناحي الحياة وتلبيتها لحاجات مستعمليها، يظهر أنها تعاني من نقص وقصور حاد على مستوى المفردات والكلمات والتراكيب الجديدة والمتولدة بعد إخراجها، والتي لم يتم تثبيتها في المعاجم الحديثة رغم حداثتها ووفرتها، ولا سيما أن هذه القواميس لم تجر على العادة المعمول بها في المؤسسات المعجمية الغربية، بإصدار الطبعات التنقيحية تلو الأخرى، لتحيين مادتها ومحتواها بشكل دائم ومستمر، ومواكبة التطور اللغوي بالزيادة والنقص والتهذيب والتدقيق والتصويب بالمراجعة[7]. وإن صدرت طبعات لها نجدها لا تقدم جديد يذكر، الشيء الذي يجعلها لا تواكب التقدم الحاصل في كل الحقول السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والصحية والعسكرية…
كما ظلت هذه المعاجم أسيرة الماضي، فاعتمدت بشكل شبه كلي على مادة المعاجم السابقة –خاصة مادة القاموس المحيط للفيروز آبادي- وقامت بتكرارها، واكتفت بنقلها واختصارها أوإعادة ترتيبها أحيانا، يؤكد ذلك الدكتور إبراهيم مدكور في تصدير المعجم الوسيط بقوله: “حين حاول بعض اللغويين منذ أخريات القرن الماضي تدارك هذا النقص لم يستطيعوا التخلص من قيود الماضي ولم يجرؤوا على أن يسجلوا شيئا من لغة القرن العشرين…”[8]، وسبب ذلك يعزى إلى أن جهود الأفراد لم تكن كافية ومجدية، فمن المستحيل اليوم تأليف معجم ما بالجودة والصورة المطلوبة بجهود فردية، لأن مقدار المادة التي أصبح يتعامل معها المعجمي تزايد عددها بشكل كبير نتيجة التوليد المستمر للألفاظ اللغوية وتطور معانيها، وبالتالي أضحى من الضروري إقامة نوع من التعاون والحوار وتبادل الخبرات والأفكار بين المعجميين من جهة وبينهم وبين العلماء من مختلف الحقول من جهة أخرى، والعالم الراحل أحمد مختار عمر(ت2008م)، أدرك أن تأليف المعاجم عمل جماعي لا يستطيعه الفرد وحده مهما أوتي من علم ومعرفة فكان دائما ينادي بفكرة أساسية ، وهي إصدار المعاجم الجماعية بالاعتماد على العمل الجماعي، وتدارك الفردية كنقطة ضعف القاموسية العربية الحديثة، لكن هل العمل المعجمي الجماعي حقق المطلوب؟.
لقد حملت المجامع والمؤسسات اللغوية بعد جهود الأفراد مشعل التجديد في الصناعة المعجمية العربية الحديثة، ومن أهم هذه المجامع نذكرالمجمع العلمي العربي بدمشق الذي تأسس سنة1919م كأول مجمع رسمي، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1932م، والمجمع العلمي العراقي سنة 1947م …، ومن المؤسسات اللغوية نذكر المكتب الدائم لتنسيق التعريب الذي تأسس سنة 1961م بالرباط/ المغرب، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي أصدرت المعجم العربي الأساسي سنة 1989م [9] .
ويوجد على رأس المجامع اللغوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي عمل على تصنيف ووضع معاجم كثيرة بإشراف نخبة من اللغويين كان أهمها “المعجم الوسيط”[10] الذي ذاع صيته وانتشر بين جمهور الطلاب والباحثين والمهتمين.
إن المعجم الوسيط أول معجم اهتمت بصناعته هيأة علمية مختصة، فحقق قفزة نوعية من حيث التقنية المستخدمة في صناعته وإخراجه، ومن حيث المادة المعجمية ونوعيتها. يقول الدكتور عبد الكريم مرداوي: “أما التأليف الجماعي للمعاجم، فكان في المعجم الوسيط، إذ تهيأ لهذا المعجم من وسائل التجديد ما سد به نقصا ظل سائدا في المحاولات المعجمية السابقة.”[11]، ويمكن إجمال وسائل التجديد في تحديث المداخل بإسقاط الألفاظ المهملة من المعجم، وإدراج المداخل ذات المفاهيم المعاصرة كالمداخل العمية والفنية والأدبية والكثير من الألفاظ الحضارة، وكذا المداخل العامة بما يضفي عليه طابع المعاصرة، بالإضافة إلى تنويع المداخل وذلك بإدخال الكلمات المولدة، والمحدثة، والدخيلة…. .
لقد لقي المعجم الوسيط عند صدوره رواجا وصدى إيجابيا من جمهور اللغويين اللذين عبروا عن إعجابهم به واستحسنوا منهجه الجديد الذي تميز بالحداثة ومراعات متطلبات المستعمل العربي، لكن رغم حداثته لم يسلم هو الآخر من مجموعة من الشوائب التي تخللته، وتتمثل في افتقاره إلى كثير من ألفاظ العصر ومصطلحاته، يقول د.عبد العلي الودغيري “أليس من الجمود أن لا نعثر في قواميسنا “الحديثة” على أشهر الألفاظ المتداولة اليوم في عالم المعلوميات والاتصالات والاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم والمجالات الاجتماعية المختلفة؟ أليس معيبا أن يكون ذلك الاختراع الذي يسمى الآلة الكاتبة أو الراقنة، قد شاع وانتشر في جميع أنحاء المعمور مع كثير من الألفاظ المتعلقة به، ثم انقرض أو كاد، بعد أن عوّضه اختراع آخر يسمى الحاسوب، ومع ذلك لم يجد له مكانا في أشهر قواميسنا وأوثقها وهو المعجم الوسيط … فهل من المقبول أن نعيش اليوم في عصر العولمة والتكنولوجيا الرقمية وتعيش قواميسنا في عصر ما قبل الآلة الكاتبة؟”[12]، ليس هذا اللفظ فقط وإنما هناك غياب واضح للعديد من الألفاظ الحضارية في مختلف المجالات (المجال الاقتصادي والمالي، السياسي، العسكري، المعلوماتي، الصحي، الثقافي، الإداري، القانوني، الرياضي …..) والتي لا محيد لمتكلم اللغة العربية عن توظيفها اليوم.
ومن النقائص التي يمكن أن نسجلها على المعجم الوسيط أيضا، اقتصاره على مادة معجمية قليلة جدا محصورة في حوالي ثلاثين ألف مادة بالنظر إلى التطور الكبير الذي عرفته اللغة العربية في القرون الأخيرة، ومقارنة أيضا مع عدد المواد المعجمية التي تحتوي عليها معاجم اللغات الأجنبية، إنه من المستحيل على لغة قوامها ثلاثون ألف مفردة أن تعيش في هذا العصر الجبار[13].
وهذا ما أكده الفاسي الفهري الذي رأى في المعجم الوسيط أنه بالرغم من التجديد الذي جاء به يظل حسبه مع كل هذا بعيدا كل البعد عن المعجم المنشود[14]، ومعنى هذا أن هناك هوة واسعة بين ما يمثله المعجم الوسيط من معلومات شكلا ومحتوى وما نتوق إلى تمثيله من أجل رصد ملكة المتكلم العربي معجميا، فهو إذا لا يصح لأن يكون معجما يمثل المرحلة الراهنة .
ومجمل القول إن العصر الحديث عرف نهضة معجمية مباركة وشاملة، نشطت خلالها حركة تأليف ووضع المعاجم اللغوية في البلاد العربية، وتوزعت الجهود بين الفردية التي لاقت الكثير من النقد، وظلت بالرغم من كل ما قدمته محاولات محتشمة، وجهود جماعية لم تسلم هي الأخرى من النقد. وتبين لنا من خلال تقييمها ومراجعتها أنه مهما يكن من أمر الصناعة المعجمية العربية الحديثة وأمر ما وصل إليه البحث المعجمي العربي فإنها تظل قاصرة وعاجزة عن مواكبة التطور العلمي في عصرنا، وتلبية حاجات مستهلكيها المتنوعة والمتفاوتة، فهي لا تغطي المادة المعجمية الجديدة، ولا المعاني الجديدة للمفردات، إن البحث المعجمي العربي لم يصل بعد إلى وضع قاموس يستطيع أن يعكس ثقافة العصر ولغته ويستجيب للأهداف المتوخاة من وضعه، إن المقاييس المعجمية العالمية تطورت أما معاجمنا لم تعد تفي بالمعايير الضرورية. لذلك فمن واجب المعجميين العرب المحدثين أن يعملوا على تكييف المعاجم العربية وبشكل دائم وفق حاجات المستعمل العربي، وذلك بإنمائها وإثرائها بالألفاظ الجديدة والمستحدثة في شتى المجالات والعمل على إدخالها إلى مدونة معاجمنا العربية.
يونس بومعزة : المدرسة العليا للأساتذة / مكناس – المغــرب.
[1] أحمد مختار عمر: البحث اللغوي عند العرب،عالم الكتب، القاهرة، ط6، 1988م، ص 304.
[2] “محيط المحيط” هو أول معجم أنتجه اليسوعيون في عصر النهضة، وقام بهذا الجهد بطرس البستاني ونال عليه وسام المجيدي العثماني، واستقى أغلب مادته من القاموس المحيط للفيروز آبادي، ولكن مع الحذف والإضافة، ومع تغيير نظامه إلى الترتيب الهجائي العادي، وقد ظهر في جزئين كبيرين وطبع عام 1869م.
[3] “أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد” هو معجم للغوي اللبناني سعيد الخوري الشرتوني، جمع بين طياته مادة لغوية منتقاة من بدائع مصنفات أئمة اللغة العربية الثقات، واللغويين القدماء. وقد أخرجه أول الأمر في جزئين عام 1890م، ثم أضاف إليه فيما بعد جزءا ثالثا بمثابة الذيل.
[4] “المنجد”، قاموس وضعه راهب نصراني مولع باللغة العربية هو الأب لويس معلوف اليسوعي سنة 1326ه/1908م، وهو قاموس للطلاب أكثر منه قاموس للنخبة المثقفة، ويتميز بإيجازه الشديد في الشرح والتعريف، والحرص على إدخال الألفاظ المستحدثة واستعمال الصور والرسوم التوضيحية، وأعيد طبع المعجم عدة مرات مع زيادات واستدراكات في كل مرة.
[5] “متن اللغة”، موسوعة لغوية حديثة للشيخ أحمد رضا صدر سنة 1958م ويقع في خمسة أجزاء كبيرة.
[6] مجموعة من المؤلفين: المعجمية العربية قضايا وآفاق، سلسلة المعرفة اللسانية، دار كنوز المعرفة، عمان، الأ ردن، ط1، 2014م، ج1، ص 27.
[7] المرجع نفسه، ص27.
[8] مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، المقدمة.
“[9]العجم العربي الأساسي” هو معجم تولت إصداره المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1989م، وهو إجماع مجامع اللغة العربية المختلفة، ألفه جماعة من كبار اللغويين العرب بتكليف من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ويقع في 1347 صفحة، كما يشمل على خمسة وعشرين ألف مدخل معجمي مرتب ترتيبا ألفبائيا، وله سمة موسوعية محددة فهو يتناول عددا من المصطلحات الجديدة، الحضارية العلمية والتقنية .
[10] المعجم الوسيط معجم حديث تولى إصداره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما ضم هذا المعجم حوالي 30000 مادة، ضبطت بالشكل ونسقت بعناية ومرتبة هجائيا وفق أوائل الألفاظ ومزود ب600 صورة إيضاحية، وتبلغ صفحاته حوالي1200 في ثلاثة أعمدة، وصدرت أول طبعة للمعجم الوسيط عن المجمع سنة 1960، كما صدرت منه أربعة طبعات حتى الآن.
. [11] عبد الكريم مجاهد مرداوي: مناهج التأليف المعجمي عند العرب، معاجم المعاني والمفردات، دار الثقافة، عمان، الأردن، ط1، 2010م.
[12] مجموعة من المؤلفين: المعجمية العربية قضايا وآفاق، سلسلة المعرفة اللسانية، دار كنوز المعرفة، عمان، الأ ردن، ط1، 2014م، ج1، ص 30،31.
[13] هادي العلوي: المعجم العربي الجديد-المقدمة، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، اللاذقية، ط1، 1983م، ص128.
[14] د.عبد القادر الفاسي الفهري: المعجم العربي، نماذج تحليلية جديدة، دار توبقال للنشر، المغرب، الدار البيضاء، ط2، 1999، ص13.
بالتوفيق سي يونس مقال محترم وجيد، يتناول ابجديات المعاجم العربية وكيف ثمت حلقاته.
بالتوفيق في ماهو قادم.
شكرا صديقي محمد
مقال أكثر من رااااائع