مصطلحية ومعجميةمعجم

“معجم الدوحة التاريخي”: عودة إلى المربع الأول

لا ينحصر معجم لغة ما في ألفاظها الأصلية فقط، بل يشمل آلاف المفردات الأعجمية التي استعارتها من لغات أخرى على مر العصور. وحسن التأصيل جزء لا يتجزأ في بناء معجم تاريخي معاصر.


وقد بدأنا منذ عشر سنوات بوضع معجم الألفاظ الأعجمية في اللهجة الفلسطينية استعدادا لبناء “معجم لسان الفلسطينيين الشامل”. ويحتوي معجم الألفاظ الأعجمية أيضا على مئات المفردات الأعجمية المدونة في المعاجم العربية والتي يعرفها الفلسطيني ويستخدم قسما كبيرا منها في لغته اليومية.


وأصدرنا هذا المعجم في عام ٢٠١٩ تحت عنوان: معجم تأثيلي للألفاظ الأعجمية في اللهجة الفلسطينية. ومن المؤسف أن القائمين على معجم الدوحة لم يطلعوا على هذا المعجم. وكان لا بد أن أقارن كيف تعامل معجم الدوحة التاريخي مع الألفاظ الأعجمية التي استعارتها اللغة الفصحى.


وقد اخترت بشكل عشوائي، عينة من عشرين لفظة أعجمية من معجم الدوحة التاريخي وقارنتها بالكلمات التي وردت في المعجم التأثيلي. وكانت النتيجة مخيبة للآمال.


وها أنا ذا أضع أمام القارئ المعلومات التي وردت في معجم الدوحة التاريخي، تليها ملاحظات كاتب هذه السطور، وفي نهايتها طرح للقائمة ذاتها كما وردت في المعجم التأثيلي، وأترك بعدها للقارئ أن يحكم على هذه الملاحظات من خلال جدول رقم (1).


معجم الدوحة التاريخي: عودة إلى المربع الأول| البروفيسور معين هلون

  • عيوب معجم الدوحة التاريخي
  • أ‌.          وضع المنهاج والالتزام به:

١- هذه المفردات جميعها ألفاظ أعجمية أثل منها معجم الدوحة التاريخي ثلاث كلمات فقط وأهمل تأثيل سبع عشرة كلمة!.


٢- معجم الدوحة لا يفرق بين الفارسية وبين البهلوية، فالعرب قبل القرن السابع لم يستعيروا من الفارسية المتأخرة إلا كلمات قليلة، ومعظم الكلمات التي نجدها في العربية الكلاسيكية مستعارة من البهلوية أي الفارسية المتوسطة.


فإذا بحثت في المعاجم الفارسية التأثيلية، وجدت أنهم لا ينسبون “إبريق” على سبيل المثال إلى الفارسية، بل إلى العربية، لأن العرب أخذتها من البهلوية، ثم استعارتها الفارسية المتأخرة من ضمن ما استعارت، على اعتبار أنها لفظة عربية.


٣- وعندما قرر أصحاب المعجم أن “إبريق” ليست عربية لم يصنفوها تحت الجذر “برق”  وإنما ساقوا حروفها كاملة، في حين صنفوا أرجوان في باب “رجو”، وأرجوان لفظة دخيلة، لا شك في ذلك.


٤- أما “أطربون” و”إسطبل” فقد نسبها معجم الدوحة إلى اللاتينية، وهذا لا يجاري الحقيقة. لأن تأثير اللاتينية لم يكن مباشرا على العربية، وإنما كانت السريانية اللغة الواسطة بين اللاتينية والعربية.


لذلك نقول؛ إن على المعجم التاريخي أن يقف بوضوح على التأثير الصوتي للغة الواسطة على اللغة المتلقية.


فلو كان التأثير مباشرة من اللاتينية لما تحول الحرف t في الكلمتين tribunus و stabulum  طاءً، لذلك يظهر بوضوح أن العربية استعارت الكلمتين من السريانية  ܐܣܛܒܠܝܢ  ܛܪܝܒܘܢܐ، (اسطبلين وطريبونا بالطاء) وليس مباشرة من اللاتينية.


والكلام ينسحب على لفظة “سطل”. وهي لفظة لاتينية  situla، لم يذكر معجم الدوحة أصلها. لكنها دخلت عن طريق السريانية ܣܛܠܐ (سطلا) اللغة الواسطة مفخمةً بالطاء وليس بالتاء.


٤. أما لفظة “طارمة” فجذرها عندهم “طرم” ويكتفي معجم الدوحة التاريخي بوصفها على أنها كلمة  “دخيلة”. وهذا يشير إلى أن أصحاب معجم الدوحة لم يتحرروا من قيود المعاجم القديمة.


  • ب  تقديس المعاجم القديمة:

١- كنت أتوقع من معجم الدوحة أن يتحرر من  تقديس معاجم اللغة العربية القديمة، ويبني معجما عصريا مستقلا يكون مرجعا متكاملا للغة العربية.


إلا أن هذا المعجم العتيد لم يتحرر من الغموض الذي يخيم على المعاجم القديمة. فقد جذّر معجم الدوحة مثلا كلمة “زنجي” في باب “زنج”، ونسخ ما ورد في المعاجم القديمة ما يلي:


“الواحد من الزنج، وهو جيل من السودان”، وهذا تماما ما ورد في لسان العرب في باب “زنج”، بدل أن يوضح للقارئ أن لفظة زنجي هي كلمة بهلوية zangig، وتعني “رجل أسود” (negro) وفي الفارسية المتأخرة؛ “زنگي” ومنها “زنجيبار” أي “بلاد السود”.


٢- ثم إن ألفاظ القائمة المذكورة أعلاه جميعها ألفاظ أعجمية، ولذلك يجب أن تظهر في المعجم وفق ترتيب حروفها، ولا يجوز لأي سبب من الأسباب تجذيرها، كما فعلت المعاجم الكلاسيكية، لأنها ليست سامية ولا يجوز أن يختار المعجمي ثلاثة حروف لتصنيفها كما يحلو له.


إن اختيار ثلاثة حروف من الكلمات الأعجمية يؤدي إلى البلبلة. وهذا ما فعلته المعاجم القديمة، فقد وضع اللسان مثلا كلمة “إسحق” (من العبرية وتعني الضاحك) في باب “سحق” وكان الأجدر أن تظهر “إسحق” في باب “إسحاق” وليس في باب “سحق”!، كما صنف اللسان المصطلح “هيا شراهيا” في باب “شره”.


٣- زد على ذلك أن معجم الدوحة التاريخي يخلط بين المصطلحات كما خلطت المعاجم القديمة.  ويصف معجم الدوحة “أيلول” كما يلي:


شهر من أشهر السريانية، ثم ينسخ حرفيا ما جاء في اللسان في باب أيل: اسم شهر من أشهر الروم.


وسؤالي هو: هل السريانية والرومية مصطلح واحد؟، وهل إضافة هذا الشرح يسهل على القارئ؟ والحقيقة أن هذه الشهور هي شهور بابلية استعارتها بعض الشعوب السامية ثم استعارتها العربية من السريانية، اللغة الواسطة. وهذه المعلومات يجب أن تظهر في المعاجم التاريخية.


  • ج.  المعاني:

١- وقد وجدت غرابة في تعريف بعض الكلمات التي ورت في هذة القائمة. ما حاجة معجم الدوحة التاريخي مثلا أن يشرح للقارئ، بعد أن وصف شهر شباط، بأنه الشهر الثاني من السنة السريانية بقوله: “ويليه شهر آذار”. هل وظيفة المعجم التاريخي أن يدرس الصغار تسلسل الأشهر؟


ثم ما فائدة المعلومة التي تلي تعريف شهر أيار: “وهو من أشهر الربيع”؟.  هل لأن بعض العاملين في المعجم لا يستخدمون هذه الأشهر؟


٢- وضع أصحاب معجم الدوحة كلمة “منديل” في باب “ندل” على اعتبار أن الميم من حروف “سألتمونيها”، و”منديل” في الحقيقة لفظة أعجمية، والميم ليست مضافة إلى الجذر. ثم إن المعنى الذي أورده المعجم لا يفي بالغرض:


 “ما يتمسح به من الوسخ ونحوه”.

هل هذا هو المعنى الوحيد لمنديل في تاريخ هذه الكلمة؟

أليس من وظيفة المعجم التاريخي أن يوضح تحور معاني الكلمة في حقب اللغة المختلفة؟


٣- ثم إن معجم الدوحة التاريخي لا يعير اهتمامه لتغير المصطلح تبعا للتاريخ. فإذا أراد أحد الدارسين أن يعرف الفرق، على سبيل المثال، بين مسميات شهر يناير الثلاثة: “كانون الآخر” و”كانون الثاني” و”كانون ثاني”، كما ظهرت في فترات مختلفة، فإنه لن يجد ذلك لا في هذا المعجم ولا في المعاجم القديمة والحديثة.


وإذا لم يكن هدف معجم الدوحة معالجة مثل هذه المسائل فمن يعالجها؟ لذلك يطلب من أي معجم تاريخي رصين أن يفرق تاريخيا بين هذه المسميات كما يلي:


المسمى كانون الآخر؛ هو الأقدم بين هذه المسميات، إذ جاء بتأثير السريانية  ܟܢܘܢܐ ܐܚܪܝ (كانونا اخري)

ويليه تاريخيا المسمى “كانون الثاني”  قياسا على كانون الأول (في السريانية ܟܢܘܢܐ ܩܕܝܡ أي كانون الأول).


أما المسمى الذي شاع في الفترة العثمانية وخاصة في سجلات المحاكم الشرعية، والذي يلي المسميين تاريخيا هو؛ “كانون ثاني”، لأن العثمانية التي استعارته من العربية تخلو من لفظة تقوم مقام (الـ) التعريف، وكذلك لا تهتم لحذف الياء في الناقص النكرة (في العثمانية: كانون ثانى).


  • د.  تاريخ الكلمة كما ورد في معجم الدوحة:

١- لا جديد في معجم الدوحة التاريخي إلا تاريخ الشاعر أو الكاتب الذي استخدمها. وعليه أقول إن تاريخ الكلمة الذي يرتبط بحياة شاعر من الشعراء أو كاتب من الكتاب لا يعتبر في نظري إلا محطة استرشادية لتاريخ الكلمة، لأن الكلمة لم تظهر كتابة إلا بعد أن تداولتها الناس وأصبحت جزءا من لغتهم، وهذا يبدأ في وقت سابق طويل قبل أن يستخدمها الكتاب والشعراء في الكتابة أو الشعر.


  • ه.  ذكر حروف اللغة الأعجمية:

لا يجوز في معجم معاصر أن نكتفي بذكر اسم اللغة التي استعارت منها العربية، بل يجب أن نذكر الكلمة الأعجمية بحروفها الأصلية، أو بحروف تمثل لفظها تماما، وفي ذلك أهمية بالغة لفهم مصدر المخارج التي استخدمتها العربية في نقل تلك الكلمة.


وبعد هذا أقترح على القائمين على معجم الدوحة التاريخي أن يعيدوا النظر في منهاجهم ويتبعوا إذا أرادوا، منهاج المعجم التأثيلي، وخلاصة ما ورد في المعجم التأثيلي (جدول رقم 2)

معجم الدوحة التاريخي: عودة إلى المربع الأول| البروفيسور معين هلون


وقد يقول قائل إنه لا يجوز نقد معجم في طور البناء، ولكني أقول إن النقد موجه لمنهاج المعجم، لذلك يستحسن نقد المنهاج في أية مرحلة من مراحله وخاصة في بدايته طلبا للتعديل وتغيير المسار.


(معهد اللغات السامية-القدس).

//هوامش وردت في الجدولين:

* ستجد في المعجم التأثيلي الكلمة الأعجمية بحروفها.

** الأصل رواج في البهلوية، ثم اشتقت العرب الفعل من الاسم لاحقا، وهذا شائع.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى