اللغة العربيةتربية وتعليمفكر وفلسفةمصطلحية ومعجمية

’’التعريب‘‘ عند الجابري

  في حوار قديم أجرته مجلة ’’عالم التربية‘‘ في عددها الرابع من خريف سنة 1996 مع الدكتور محمد عابد الجابري حول قضايا التعليم ومشكل التعريب الذي كان مطروحا منذئذ، تحدث المفكر المغربي الراحل عن مسألة التعريب ناظرا إليها من عدة زوايا ومقدما أراء بشأنها من منظوره الفكري؛ ومن جملة ما قاله في هذا الصدد، المقتطف الآتي من ذاك الحوار.      


يقول الجابري:   (( عندما جعلت اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم ـ التي أنشئت مع الاستقلال ـ من أهدافها التعريب، كان هذا الهدف مرتبطا بأهداف أخرى: المغربة والتعميم والتوحيد. إذن فالتعريب كان يكتسب معناه من هذه العناصر بالارتباط بها، وكان الهدف من هذه العناصر أو المبادئ الأربعة واضحا: إنشاء مدرسة وطنية بدل المدرسة الفرنسية التي أخذت من فرنسا وغرست في المغرب. إذن، فالتعريب في هذا الإطار، كانت له ثلاثة أبعاد: البعد الأول يتعلق بالمضمون.


’’البعد الأول يتعلق بالمضمون، التعريب معناه تعريب المضمون .. البعد الثاني يتمثل في تعريب الحياة العامة ..البعد الثالث هو لغة التدريس إذ يجب أن تكون هي العربية‘‘

 تعريب المضمون لا يتطلب بالضرورة تعريب اللغة. بمعنى أنه من الممكن أن نعطي لمدرستنا المغربية مضمونا وطنيا عربيا ولو بلغة أجنبية، إذ يمكن أن تكتب مثلا التاريخ المغربي باللغة الفرنسية بطريقة وطنية كما أن العكس صحيح وهو أنه لا يكفي أن نعرّب اللغة لنعطي المضمون الحقيقي للتعريب.


وإذا كنا سندرس تاريخ المغرب بالعربية من المنظور الذي كتبه الاستعماريون في المغرب أو كتبه الآخرون، فهذا ليس بتعريب، تعريب المضمون معناه إعطاء بعد ثقافي حضاري مغربي إسلامي للمدرسة. إذن، يجب أن ينصب التعريب أولا على المضمون.


البعد الثاني، يتمثل في تعريب الحياة العامة. إن التعريب المدرسي على صعيد المضمون هو الذي يؤدي في النهاية إلى تعريب الحياة العامة، أي نقل المضمون الوطني إلى الحياة العامة إلى الثقافة العامة. وتعريب الثقافة يعني إعطاءها طابعا وطنيا.  


البعد الثالث، هو أن لغة التدريس يجب أن تكون هي العربية؛ لأنها لغتنا الوطنية وليس هناك بلد من البلدان، يدرس في مدارسه بلغة غير لغة بلده. فلا الصين ولا اليابان ولا إسرائيل التي كانت لغتها ميتة وأحيتها، تجعل من لغة أجنبية لغتها.


هناك حقيقة دولية يجب أن نعترف بها وهي أن العلم الذي تحدثنا عنه من قبل على مستويات تقنية متطورة جدا سواء بواسطة الإنترنت أو بواسطة بحوث جامعية، كل هذا أصبح يتم اليوم باللغة الإنجليزية. لنأخذ الإنترنت ونفتحها ونأخذ مراكز البث، سنجد أحدث الدراسات وأحدث المجلات في فرنسا باللغة الإنجليزية.


يجب إذن، أن نكف عن التفكير في كون التعريب معناه هل الفرنسية أم العربية. يجب أن نضع الفرنسية جانبا. هناك علاقات ثقافية وعلاقات جوار وعلاقات تاريخية ليس في ذلك شك، والشيء نفسه ينطبق على إسبانيا، ولكن يجب ألا نجعل الفرنسية منافسة للعربية لكونها لغة علم، لأن الفرنسية لم تعد اليوم لغة العلم.


ولذلك فتعريب التعليم يجب أن نفصله نهائيا عن العلاقة مع فرنسا. أن تدرس بالإنجليزية أو تقرأ بالإنجليزية والتقنية أصبحت عالمية اليوم ليس معناه أن لك علاقة مع الإنجليز أو الأمريكان وأنك بالضرورة داخل في علاقة مع إنجلترا أو أمريكا أو مع إفريقيا الجنوبيــة أو مع الهنــد أو باكستــان أو مـع الفلبيــن أو مع ….


’’ يحتاج التعليم الجامعي في العلوم أو في غير العلوم، إلى لغة أجنبية لنا ولغيرنا. بعض الدول تجعل تدريس الإنجليزية في الابتدائي ضرورة‘‘

الإنجليزية أصبحت عالمية أردنا أم لم نرد. طبعا هي تحمل ثقافة، تحمل توجها لكن من الناحية العلمية لا يمكن اليوم لمن يريد أن يستفيد من الوسائل التقنية الحديثة، ومن الوسائل السمعية البصرية ومن وسائل المعلومات كلها، لا يمكن أن يستفيد منها من لا يعرف الإنجليزية.


واقع طلبتنا الآن في كلية الطب، عندما يريدون أن يعدوا رسالة أو بحثا لا يجدون أمامهم إلا مراجع بالإنجليزية، وإذا طلبوها من الجامعات الفرنسية يجدونها بالإنجليزية. وحتى إذا كنا سنفكر في التدريس بالجامعة هل بهذه اللغة أو بتلك، يجب أن نستحضر الإنجليزية.


الفرنسية ليست لها اليوم القدرة على المواكبة. إذن، إذا وضعنا الأمور في هذا الإطار سننظر إلى المسألة نظرة موضوعية بعيدا عن خلفيات الفرنكفونية أو غيرها.


يحتاج التعليم الجامعي في العلوم أو في غير العلوم، إلى لغة أجنبية لنا ولغيرنا. بعض الدول تجعل تدريس الإنجليزية في الابتدائي ضرورة. نحن كذلك يجب أن نواكب هذا ونجعل الإنجليزية حاضرة في تعليمنا بالشكل الذي يمكن طلابنا من استعمالها في الجامعة كلغة علمية.


أما أن نعلمهم الفرنسية ثم يجدون أنفسهم لا يعرفون لا العربية ولا الفرنسية وفي حاجة إلى الإنجليزية، فهذا واقع يحتاج إلى مراجعة. هذا هو الواقع، الطالب الذي يصل إلى كلية الطب أو غيرها نجده ناقصا في اللغة الفرنسية ولا يستطيع المتابعة بكيفية جدية.


والطالب الذي يأتي إلى الكليات النظرية من حقوق وآداب نجده ناقصا في اللغة العربية، ولا يستطيع المتابعة، وكلاهما لا هذا ولا ذاك إذا أرادا فعلا أن يواكبا سواء في العلوم الدقيقة أو العلوم النظرية يجب أن يتعلما الإنجليزية.  


يبقى هل اللغة العربية لغة قادرة، أو هل نحن قادرون الآن على التلقين بها في الجامعة؟ أقول ولم لا؟ لأنه في النهاية، الصين تلقن بلغتها، واليابان بلغتها، وإسرائيل بلغتها، ولكنها تلقن العلم بالإنجليزية بواسطة لغتها.


فالمفاهيم العلمية مفاهيم عالمية والرموز والعلامات والمصطلحات كذلك أصبحت عالمية الآن، وما تبقى مجرد كلام عاد بين إنسان وآخر.   


يجب أن نميز، إذن، بين شيئين: بين اللغة العادية التي نتكلمها في الشارع والمدرسة والكتاب، وبين اللغة العلمية التي تحتاج أحيانا إلى اللغة العادية لكي نفسر بها أو نوجه. فاللغة العادية، اللغة اليومية يجب أن تكون عربية وهي لغتنا الطبيعية، أما اللغة العلمية فهي هنا الإنجليزية.


أنا لا أرى أي تناقض بين أن أتكلم بالعربية في شؤون علمية أستعين بها بمصطلحات إنجليزية أصبحت عالمية، ويمكن في يوم من الأيام أن نعربها، ولا يمكن أن نعرب المصطلحات ما لم نكن نحن الذين نخترع العلم؛ لأن مشكل المصطلحات ليس مشكل التعريب.


الذين يقومون الليل والنهار لكي يعربوا المصطلح، هؤلاء يضيعون الوقت، لأن سرعة ظهور المصطلحات الجديدة أكبر من سرعة ترجمتها، والمصطلح لا يكون له حضور في لغة ما إلا إذا كان لمضمونه وجود، واليوم، اللغة التي يخترع بها الشيء هي التي تسميه وهي التي تعطيه المصطلح.


أنا أعطي دائما مثالا في هذه السنين الأخيرة بكلمات عربية لا يمكن أن تترجم، ويستعملها الإنجليزي والفرنسي كما هي، لأنه لا يمكن ترجمتها، كلمة ’’الانتفاضة‘‘ الفلسطينية، لا يمكن ترجمتها بـ Révolution ولا بأي كلمة أخرى، لأن لها معناها الخاص بنا، بأطفال فلسطينيين اخترعوا كلمة ’’انتفاضة‘‘، وكذلك لفظة ’’العصبية‘‘.


هي كذلك لها مفهوم عربي تاريخي خلدوني، ولا يمكن ترجمتها إلى لغة أخرى. أضف إلى ذلك المخترعات العلمية، فهي تسمى بلغة من اخترعها. اللغة العربية يمكن أن تعرب النطق أو تكسره أو تغيره، لكن يبقى دائما النطق مشكلا مصطنعا. لأنه بدل أن أتكلم عن أفعال مثل أخذ وقال وضرب وارتفع وهز بالفرنسية يمكن أن أتكلم بها بالعربية.


’’ ما أريد أن ألح عليه، هو أنه في لغة التعريب يجب أن نميز بين شيئين، لغة البحث العلمي والتعامل مع الكائنات العلمية، وبين لغة التواصل داخل العلم وبين العلم والمجتمع وهذه لغتها هي اللغة الوطنية في كل بلد‘‘

 في مصر، المدرسون يتكلمون بالدارجة القريبة من العربية أو العربية الفصحى، ولذلك عندما يأتي الطبيب المصري إلى المذياع أو إلى التلفزيون يشرح مسائل طبية للناس، فإنه يتكلم ويعرف كيف يتكلم. أما إذا جئت بطبيب من عندنا، متخرج من مدرسة فرنسية، فستجده لا يعرف كيف يتكلم مع الناس حتى بالدارجة.


هناك قضية العلم، وهناك قضية التواصل البشري، فقضية العلم واللغة العلمية الآن مفروضة بالإنجليزية، وقضية التواصل البشري سواء داخل العمل العلمي أو من أجل نقل العلم إلى المجتمع، فهذا يتطلب اللغة الوطنية لكل بلد، إذ لا معنى لأستاذ داخل فريق علمي مغربي، تخصص هندسة أو طب أو غيره، يتكلم مع الطلبة ليقول لأحدهم بلغة أجنبية ’’ناولني ذلك المقص‘‘: وكأن هذا علم، فالواجب أن يقول له ’’ناولني المقص‘‘ بالدارجة.  


هناك فرق بين اللغة كأداة تواصل داخل الفريق العلمي وبين العلم والمجتمع وبين اللغة كتعامل مع كائنات علمية هي المصطلحات. التعامل مع الكائنات العلمية والمصطلحات يتم باللغة التي يخترع بها ذلك المصطلح.


اليوم، الفرنسيون أو الأوربيون أو الأمريكيون وغيرهم يقولون ’’Zéro‘‘ الصفر، ويقولون ’’Algebre‘‘ الجبر، ويقولون ’’Chimie‘‘ الكيمياء، دون أدنى مشكل، وهذه مصطلحات عربية الأصل.    الأسماء العلمية تبقى بلغتها الأصلية، وهذه الأسماء والمصطلحات العلمية لا حد لها، وقد اخترعتها شعوب أخرى عربية وغير عربية وإسلامية، واحتفظت بوجودها في الثقافة المعاصرة.


وكذلك نحن نأخذ الشيء نفسه، ففي سوريا مثلا، يعربون بعض المصطلحات العلمية باستعمال ألفاظ ذات صيغة عربية. فالإلكترون يسمونه ’’كَهْرَب‘‘ ـ مثلا ـ، وهذا ممكن، لكن لا مانع من كتابة إلكترون إذا كانت تسهل عملية التعليم في الخارج، وتحل مشكل التواصل العلمي تماما كما حصل في مادة الجغرافية، التي ليست كلمة عربية.


ما أريد أن ألح عليه، هو أنه في لغة التعريب يجب أن نميز بين شيئين، لغة البحث العلمي والتعامل مع الكائنات العلمية، وهي المصطلحات والتجارب والأدوات والرموز، وهذه لغتها الآن هي الإنجليزية، وبين لغة التواصل داخل العلم وبين العلم والمجتمع وهذه لغتها هي اللغة الوطنية في كل بلد.


يبقى عندنا مشكل آخر، هو كون اللغة التي نتعامل بها ثقافيا وعلميا ليست هي لغة البيت والشارع، وأن هناك  فرقا بين الدارجة والفصحى يجب أن نقلصه، وهذا موضوع آخر )).


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى