توماس كرانمر: كبير أساقفة إنجلترا الذي أحرقته الكنيسة بتهمة الهرطقة
شهد القرن السادس عشر تغيرات دينية كبرى في أوروبا، وكانت إنجلترا واحدة من أكثر الدول تأثرا بتلك التحولات، خاصة خلال فترة الإصلاح الإنجليزي. كان توماس كرانمر (Thomas Cranmer) شخصية محورية في هذا الإصلاح، حيث تولى منصب كبير أساقفة كانتربري وكان أحد مهندسي استقلال الكنيسة الإنجليكانية عن سلطة البابا.
لكنه، في النهاية، سقط ضحية لتقلبات السياسة والدين، وأُعدم حرقا في عهد الملكة ماري الأولى، التي سعت إلى إعادة الكاثوليكية إلى إنجلترا.
- نشأة توماس كرانمر وتكوينه الفكري
وُلد توماس كرانمر في 2 يوليو 1489 في مدينة نوتنغهامشير، إنجلترا. تلقى تعليمه في جامعة كامبريدج، حيث درس اللاهوت وتأثر بالفكر الإنساني والإصلاح البروتستانتي الناشئ. في عام 1523، حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت، وأصبح أستاذا في الجامعة.
مع صعود الملك هنري الثامن إلى العرش، بدأ كرانمر في لعب دور بارز في الشؤون الدينية، حيث دعمه الملك في قضية إبطال زواجه من كاثرين أراغون، مما أدى إلى انفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية.
- الصعود إلى السلطة ودوره في الإصلاح الإنجليزي
في عام 1533، عيّن هنري الثامن كرانمر في منصب كبير أساقفة كانتربري، وهو أعلى منصب ديني في البلاد. لعب كرانمر دورا رئيسيا في:
- إضفاء الشرعية على زواج الملك هنري الثامن من آن بولين بعد إلغاء زواجه الأول.
- إصدار كتاب الصلاة العامة (Book of Common Prayer)، الذي أصبح حجر الأساس في العقيدة الإنجليكانية.
- دعم ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية لتسهيل وصول عامة الشعب إلى النصوص الدينية.
- إصلاح الكنيسة الإنجليزية وإبعادها عن التقاليد الكاثوليكية، متأثرا بأفكار مارتن لوثر وكالفن.
مع وفاة هنري الثامن عام 1547، واعتلاء ابنه إدوارد السادس العرش، زاد نفوذ كرانمر وساهم في دفع إنجلترا نحو البروتستانتية بشكل أكثر وضوحا.
- سقوطه في عهد الملكة ماري الأولى
بعد وفاة الملك إدوارد السادس عام 1553، تولت العرش ماري الأولى، المعروفة بـ”ماري الدموية“، والتي كانت كاثوليكية متشددة وسعت إلى إعادة إنجلترا إلى حضن الكنيسة الكاثوليكية.
كان كرانمر أحد أشد المعارضين للعودة إلى الكاثوليكية، مما جعله هدفا رئيسيا لحملة التطهير الديني التي أطلقتها الملكة. في 14 نوفمبر 1553، اعتقلته السلطات الكاثوليكية، ووجهت إليه تهمة الهرطقة والخيانة.
خلال فترة سجنه، تعرض كرانمر لضغوط هائلة للتراجع عن آرائه. وفي مواجهة التعذيب والتهديد بالموت حرقا، وقع على وثيقة يعترف فيها بالكاثوليكية ويتراجع عن معتقداته البروتستانتية. ومع ذلك، لم يشفع له ذلك، وقررت الملكة ماري إعدامه ليكون عبرة لبقية البروتستانت.
- الإعدام المروع و”لحظة التحدي الأخيرة”
في 21 مارس 1556، سيق كرانمر إلى ساحة الإعدام في أكسفورد، حيث كان من المقرر إحراقه حيا. أثناء تنفيذ الحكم، فاجأ الحاضرين بتراجع علني عن اعترافه السابق بالكاثوليكية، وأعلن تمسكه بالبروتستانتية حتى آخر لحظة.
وفقا للروايات، قبل أن تلتهمه النيران، رفع يده اليمنى ووضعها في النار أولا، قائلا إنها اليد التي وقّعت التراجع عن مبادئه البروتستانتية، لذا تستحق أن تُحرق أولا.
- إرث توماس كرانمر وتأثيره في الكنيسة الإنجليكانية
رغم إعدامه، ظل كرانمر أحد أعظم الشخصيات في تاريخ الكنيسة الإنجليزية. فقد ترك بصمة لا تُمحى من خلال:
- إرساء أسس العقيدة الإنجليكانية، التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
- تأليف كتاب الصلاة العامة، الذي لا يزال يستخدم في الطقوس الدينية.
- تمهيد الطريق لبروتستانتية إنجلترا، والتي ترسخت بعد وفاة الملكة ماري الأولى وصعود إليزابيث الأولى إلى الحكم.
بعد وفاة ماري الأولى، أعادت إليزابيث الكنيسة الإنجليزية إلى المذهب البروتستانتي، وأصبح كرانمر شهيدا وبطلا للإصلاح الديني في بريطانيا.
- خلاصة:
كان توماس كرانمر رجلا سابقا لعصره، قاد تحول إنجلترا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، لكنه دفع الثمن غاليا بسبب تقلبات السياسة والدين. موته المأساوي لم يوقف الإصلاح الإنجليزي، بل جعله أكثر قوة، وجعل من كرانمر رمزا دينيا خالدا في التاريخ البريطاني.