فلاسفة؛ ضحايا تهمة الهرطقة

“جان بودين”: زعيم الثورة الدينية في مونستر ونهاية مأساوية

في القرن السادس عشر، كانت أوروبا تعيش اضطرابات دينية وسياسية عميقة نتيجة الإصلاح البروتستانتي، مما أدى إلى ظهور تيارات دينية جديدة، بعضها كان معتدلا وبعضها الآخر بلغ حدود التطرف.

من بين هذه الحركات، برز جان بودين (Jan Bockelson)، الذي استولى على مدينة مونستر الألمانية وأقام فيها نظاما ثيوقراطيا صارما عُرف باسم “مملكة مونستر”، حيث فرض قوانين دينية متشددة، قبل أن يتم القبض عليه وإعدامه بوحشية عام 1536.

  • من مهاجر بسيط إلى زعيم ديني متطرف

وُلد جان بودين في مدينة ليدن (هولندا) عام 1509، وكان في بداياته مجرد خياط عادي. لكنه انضم إلى حركة المعمدانيين المتطرفين (Anabaptists)، وهي طائفة مسيحية دعت إلى إعادة تعميد البالغين ورفض السلطة الكنسية التقليدية. مع تصاعد الاضطرابات الدينية في ألمانيا، هاجر إلى مدينة مونستر التي كانت قد أصبحت معقلا للمصلحين الدينيين.

بسرعة، تحول بودين إلى قائد ديني متحمّس، مستغلا خطابا ناريا يدعو إلى إقامة “مملكة الله على الأرض”، مستندا إلى تأويلات متشددة للعهد القديم، مما جعله يكتسب نفوذا واسعا داخل مونستر.

  • “مملكة مونستر”: تجربة دينية متشددة

في عام 1534، تولى جان بودين الحكم في مونستر بعد أن أطاح بالحكام السابقين، وأعلن المدينة “ملكوتا مقدسا” يُحكم وفق القوانين الإلهية. قام بإجراءات صارمة لتطبيق رؤيته، شملت:

  1. إلغاء الملكية الخاصة، حيث اعتبر أن جميع الممتلكات يجب أن تُوزع بالتساوي وفق “إرادة الله”.
  2. فرض تعدد الزوجات، حيث أُجبر الرجال على الزواج بأكثر من امرأة كجزء من “التطهير الروحي”.
  3. اضطهاد المعارضين، إذ تم إعدام أو نفي كل من رفض الانصياع لحكمه، سواء من الكاثوليك أو حتى البروتستانت المعتدلين.
  4. إلغاء أي سلطة دينية أو سياسية خارج سلطته، حيث أعلن نفسه ملكا ونبيا مُرسلا من الله.

لكن سياسات بودين المتطرفة سرعان ما أثارت سخط السكان، وأصبحت المدينة تحت حصار طويل من القوات الكاثوليكية والبروتستانتية التي أرادت إنهاء حكمه.

  • سقوط مونستر وإعدام بودين

في عام 1535، تمكنت القوات الإمبراطورية من اقتحام مونستر بعد شهور من الحصار، وتم القبض على جان بودين مع أبرز قادته. وفي 1536، تم إعدامه بوحشية حيث عُذِّب، وقُطع لسانه، وأُعدم أمام العامة، ليكون عبرة لكل من يفكر في تكرار تجربته المتطرفة.

  • إرث جان بودين: بين الدين والسياسة

لا تزال تجربة “مملكة مونستر” تُعتبر مثالا على كيف يمكن للدين، عند استغلاله سياسيا، أن يتحول إلى أداة قمعية خطيرة. فقد أظهرت أن التطرف لا يقتصر على جانب ديني واحد، بل يمكن أن ينبثق حتى داخل الحركات التي تدّعي التغيير والإصلاح.

اليوم، يتم دراسة حكم جان بودين في سياق نشأة الدول الثيوقراطية، ودوره في تشكيل مفهوم العنف الديني كأداة للسيطرة السياسية، وهو موضوع لا يزال حاضرا في النقاشات المعاصرة.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى