“الصناعة المعجمية”: مثلث التأصيل والفصاحة والمعنى
رغم وفرة المعاجم في التراث العربي إلا أن الصناعة المعجمية والدراسات المتصلة بها في العصر الحديث لا يزال يعتورها بعض النقص ومتابعة أحدث التنظيرات والمناهج حولها، كما تندر القواميس المتخصّصة في حقول معرفية جديدة نسبياً، خاصة العلمية منها.
ربما تجدر الإشارة، إلى إصدار الجزء الأول من “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية” عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” نهاية العام الماضي، والذي يعدّ إنجازه نقلة نوعية من خلال رصد تطوّر الألفاظ اللغوية منذ بدايات استعمالها في النقوش والنصوص، وما طرأ عليها من تغيّرات في مبانيها ومعانيها داخل سياقاتها النصية، متتبّعاً الخط الزمني لهذا التطوّر.
“الصناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب” عنوان الكتاب الصادر حديثاً للباحث والناقد الأردني الفلسطيني محمد عبيد الله عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، الذي يعود إلى تاريخ هذه الصناعة منذ القرن الثامن الميلادي.
يشير المؤلّف أن العربية هي اللغة الحيّة الوحيدة التي ما زالت دون معجم تاريخي، بينما حظيت معظم اللغات الحية بمعجم أو أكثر من المعاجم التطورية التاريخية والتأثيلية، موضحاً أن ما يثير العُجْب أنها -أي العربية- رائدة صناعة المعاجم اللغوية وقبل أن يبدأ هذا النشاط بعدة قرون في اللغات الأوروربية المعروفة.
من الطريف أن معجم صموئيل جونسون مثلاً، وهو أول معجم معتبر باللغة الإنكليزية، بحسب الكتاب، قد عاصر آخر معجم تراثي عربي وهو معجم “تاج العروس” لمرتضى الزبيدي، دون إغفال أن الصناعة المعجمية نشطت في العالم نشاطاً ملحوظاً خلال القرون الأخيرة، وغدت عملاً من أعمال الجماعات والمؤسسات، ولكنها ما زالت بطيئة النموّ، ولا تتناسب مع مكانة اللغة العربية وحاجتها إلى مصنّفات معجمية متعددة.
ويرى عبيد الله أن المعجم التاريخي المنشود ليس بديلاً لثروتنا المعجمية، وإنما هو رافد جديد مختلف في منهجه وأهدافه، يهدف إلى خدمة العربية ودعمها ونقلها إلى المستقبل بروابط وثيقة مع الماضي الطويل لها، ذلك أنه يُعنى بحياة الألفاظ وسِيَرها الكاملة، من مبدأها الأول وحتى يومنا هذا، كما يهتم ببيان صلاتها بغيرها من اللغات، فاللغة الحية ليست مقطوعة الصلات، وليست منكفئة على ذاتها، وإنما هي لغة تقترض وتُقرض، تأخذ وتعطي، ومن خلال ذلك تضمن الحياة والاستمرار.
يتكوّن الكتاب من خمسة فصول، يُعني الفصل الأول بمسألة المعجم وصناعة المعاجم في إطارها النظري العام، ويتناول الثاني المعجم التاريخي من ناحية تعريفاته وظروف ميلاده، وصلته بعلم اللغة التاريخي والمقارن وبعض التجارب السابقة للمعاجم التاريخية الإنكليزية والفرنسية، وأبرز المحاولات والمبادرات السابقة والراهنة في مجال وضع المعجم التاريخي للغة العربية.
أما في الفصل الثالث، فيناقش قضية الفصاحة في المعجمية العربية، وبيان حدودها في الموروث، وحاجتنا اليوم إلى تعديل معايير الفصاحة وتوسيعها، لتشمل دائرة أوسع من ألفاظ العربية وتطور معانيها ودلالاتها، دون أن يعني ذلك أي تجاوز على الفصحى، أو الدعوة إلى العاميات، ويقارب الفصل الرابع قضايا التأثيل الذي يعدّ ركناً من أركان صناعة المعجم التاريخي، ويذهب الفصل الخامس نحو قضايا “المعنى”.
يُذكر أن محمد عبيد الله أصدر حوالي خمسة عشر كتاباً منها: “القصة القصيرة في فلسطين والأردن”، و”أساطير الأولين: الجنس الأدبي الضائع في السرد العربي القديم”، و”الوعي بالشفاهية والكتابية عند العرب-قراءة في مصنفات الجاحظ”.
المصدر.