“التناص” في رأي ابن خلدون
مازال النقد الأدبي العربي، يتراوح في مكانه، إن لم يكن متأخرا عن مواكبة المشهد الأدبي على اختلاف أجناسه، وهو في أكثر الأحيان، يدور في فلك نظرية النقد الأوروبية وما يصدر عن –النقد الأوربي- من مصطلحات وتعميمات، يتم استيعابها وتطبيقها في “لوي” النص الأدبي، ليأتي –النص- متطابقا وفق أدواته النقدية ومبتغاه، أو قراءة النص الأدبي وفق نظرية “انتقائية” يخدم رأيه النقدي، ويستر به القصور الموجود في الأداة عند البحث والتقصي.
وليس من الطبيعي أن يقوم النقاد العرب باستخدام الفكر النقدي الذي يتم “ترويضه” بغية “تأصيله” ولمقاربة النصوص العربية الإبداعية، و”المقاربة” لا تتسم بالشمولية والموضوعية، والنتيجة تسطيح وتمييع وتشويه يصيب النص الإبداعي جراء “المقاربة” و”الانتقاء” في التعامل مع النصوص الجديدة وما تحمل من دلالات في الرؤية.
و”التناص” مصطلح حداثي، وأكثر المصطلحات إشكالية واختلاف بين النقاد الأوروبيين أنفسهم وبين النقاد العرب أيضا عن مدى مشروعيته وموضوعيته، من عدمه، لكل فئة مبرراتها ومسوغاتها التي تسوقها في سياق البحث والدراسة.
و”التناص” يدرج على الأغلب، على أنه إشكالية الكتابة بكتابات أخرى –أي- التعويل على غيره في الكتابة، ولكن بقليل من التوسع والإضافة، هذا ما يذهب إليه رهط من النقاد والباحثين في مجال الفكر النقدي.
وما من كتابة مبتكرة خالصة مائة بالمائة، دون أن تكون متأثرة بغيرها، بل هو امتزاج بين “الأنا” و”الآخر” السابق عليه ليكون في الأخير نصا جديدا إلى جانب النصوص الإبداعية الأخرى.
كل كاتب يتجه نحو الكتابة الإبداعية –بالضرورة- في سياق قراءته لنصوص أدبية لها حضورها المميز، وكنموذج إبداعي فيما يفتح من آفاق ومناخ جديد في فضاء المشهد الأدبي من حيث الرؤية والصورة والبناء والجمالية والموسيقى…الخ.
أي أن التأثر بالنص الجديد، هو حالة طبيعية، لما يتركه هذا –الجديد- من تأثير وقوة على الآخر، فالإنسان لا يولد شاعرا ولا قاصا ولا موسيقيا، ولكن بحكم قراءته ومطالعته يزداد مخزونه الثقافي، ومع مرور الأيام تصقل موهبته.
وقد عالج هذه الإشكالية المفكر العربي ابن خلدون، عندما كان ينصح الشعراء قبل أن يكتبوا الشعر، ولكي يكتب يقول “الحفظ من جنسه، أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها (…) ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ العزيمة للنسج على المنوال يقبل النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ، وربما يقال: إن من شروطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادة من استعمالها بعينها، فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ النسج عليه بأمثالها(…) فذلك أجمع له، وأنشط للعزيمة أن تأتي بمثل المنوال الذي في حفظه”(1).
ويقول د.عبد الملك مرتاض عن هذا النص الخلدوني العجيب: “يندرج ضمن نظرية “التناص” المبكرة عند العرب، وإذا لم يطلق الشيخ مصطلح “التناص” على ذلك، فذلك لا يعني أنه كان غير واع بنظرية التناص التي فتن الناس بها في العصر الحاضر، فلقد كان يمارس في هذا الكلام صميم التنظير لهذه المسألة، كما كان متفهما لها، فلقد انتهى الشيخ إلى أنه على الأديب أن يقرأ كثيرا، ويحفظ أكثر، ثم ينسى ذلك ويتناساه ليستقر في لا وعيه فيغترف منه لدى الكتابة، فيظن أنه جاء بالجديد كل الجدي بينما هو لا يعدو كونه صورة لمقروءاته ومحفوظاته..”(2).
ثم يتساءل د.عبد الملك مرتاض: “أو ليس هذا هو التناص؟ أو ليس هذا هو حوار النصوص السابقة مجسدة في النص الحاضر المكتوب، فيما يزعم الحداثيون الغربيون على الأقل؟”.
فقد أصبح “التناص” مشروطا وفق أسس وقواعد واضحة جراء التشابه بين نصين في حقل معين، بمعنى آخر أن التقارب أو التشابه في بعض النصوص التي نقرأها لا تفقدها إبداعاتها وجديتها من حيث الرؤية والبناء. وهذا شرط ضروري تفرضه قواعد واضحة في بناء النص الجديد من حيث ما ذكرناه.
ويرفض الشيخ عبد القادر الجرجاني قضية التشابه أو التناظر في النص بالسرقة طالما يأتي التشابه أو التناظر من أي نص، لا بد أن يولد في فضاء نصوص أخرى ويقول: “ومتى أجهد أحدنا نفسه وأعمل فكره وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنه غريبا مبتدعا ونظم بيت يحسبه فردا مخترعا ثم تصفح عنه الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه أو يجد له مثالا يغض من حسنه. ولهذا السبب أحظر على نفسي ولا أرى لغيري بث الحكم على شاعر بالسرقة”(3).
وتحاول جوليا كريستيفا الناقدة المهتمة بموضوع “التناص” في كتابها القيم علم النص وتقول: “إن كل نص هو كشرب وتحويل لنصوص أدبية أخرى”(4).
إذا التناص له ما يبرره شريطة أن لا يقع وقوعا تاما، ففي هذه الحالة يفقد النص رؤيته الإبداعية والجمالية ويظل –النص- اتباعيا مكررا، يفقد مصداقيته –كنص_ له قيمته الإبداعية والجمالية.
وقد ربط النقد الحديث ظاهرة التناص على أنه تأثير ويكون للنصوص السابقة دور المحرض المخفي نحو كتابة جديدة ومغايرة في عمقها الفني والإبداعي.
والنص على حد تعبير بول ريكور “ليس مرجعية، وستكون بالضبط مهمة القراءة كونها تأول تحقيق المرجعية… وكل نص له الحرية بالدخول في علاقة مع كل النصوص الأخرى التي تأتي لتل مكان هذا الواقع الظرفي، التي تدل عليه الكلمة الحية”(5).
وفي هذا السياق نلقي الضوء على بعض النصوص الإبداعية التي استفادت من نصوص أخرى سابقة عليها، لشعراء يمثلون نبض الحداثة في المشهد الشعري كنموذج وليس إلا.
الشاعر الكبير محمود درويش، الذي فتح آفاقا أكثر رحابة وقوة في فضاء القصيدة العربية الحديثة، وقصيدته هنا تحمل دلالات التأثر الواضح بتجربة الشاعر الإسباني فريدريك غارسيا لوركا ويقول محمود درويش في قصيدته نشيد إلى الأخضر.
“أيها الأخضر
لا يبتعد البحر كثيرا عن سؤالي
فلتواصل أيها الأخضر
لون النار والأرض
وعمر الشهداء
ولتحاول أيها الأخضر
أن تأتي من اليأس إلى اليأس
وحيدا يائسا كالأنبياء
ولتواصل أيها الأخضر لونك
ولتواصل أيها الأخضر لوني
إنك الأخضر لا يعطي سوى الأخضر”(6)
والنص الذي يقع الشاعر محمود درويش في دائرته هو قصيدة خضراء التي يحمل فيها اللون الأخضر معاني الحياة والجمال فضلا عن الأنوثة برمزية اللون الأخضر في المقطع التالي من قصيدة الشاعر الإسباني فريدريك غارسيا لوركا:
“خضراء أحبك خضراء
الريح خضراء
الفصول خضراء
المركب في البحر
والجواد على الجبل
على شرفتها حلم
والظل على خصرها
جسدا أخضر وشعرا أخضر
خضراء أحبك خضراء”(7)
وأيضا الشاعر المغربي محمد حمدان في ديوانه بين يد المحيط يستفيد من فضاءات النثر العربي القديم وخصوصا من خطبة الجهاد للإمام علي بن أبي طالب، يقول الشاعر حمدان:
“ماتت بالدخان مجامركم
ما بين الغمزة والسرة والردف
وبين القر الشتوي وحر الصيف
وبين النهب”
فالمقطع يتناص مع قول الإمام علي في تأنيب قومه حين قال لهم:
“فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر”(8).
وأيضا الشاعر ت.س أليوت في قصيدة الأرض اليباب يشير الشاعر في هوامش قصيدته إلى خمسة وثلاثين كتابا(9).
وما من شك أن ظاهرة “التناص” أصبحت لها وجود في المشهد الشعري الحديث على الرغم من الإشكاليات التي تثيرها هنا وهناك بين المهتمين والدارسين من النقاد على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم، وأصبحت تتضمن بالضرورة فعلا متوازيا يمثل النص الأول (الفعل)، كشروط لوجود النص الثاني (التفاعل).
والتناص قد يحدث على مسارات مختلفة، ويجعل الناقد يحتاج إلى بذل جهد تحليل أكثر في سياق قراءته لبنية النص والمونولوج الداخلي في عمق النص لتحديد وجهته في إطار التشابه والاختلاف مع النصوص الأخرى.
ويقول الناقد مفيد نجم ويذكر حديثا للشاعر محمود درويش “بأنه يقوم خلال قراءاته الشعرية بتدوين الصور الشعرية التي لم يستطع أصحابها استكمال وتطوير قيمتها الجمالية والفنية”.بمعنى إعادة صياغتها وتطويرها داخل سياق شعرية القصيدة الجديدة الأمر الذي يجعل مقولة ميشيل فوكو بأنه “لا وجود لما يتولد من ذاته بل من تواجد أصوات متراكمة متسلسلة ومتتابعة(10) .
(1) المقدمة، الفصل الخامس والخمسون، ص1197.
(2) عبد الملك مرتاض، الموقف الأدبي، العدد 330، ص17.
لمزيد من المعلومات انظر بحث د.عبد الملك مرتاض “الكتابة أم حوار النصوص:حيث يقترح مصطلح “المتآدب” أو “التكاتب” بدلا من مصطلح “التناص”
(3) مجلة الآداب، العدد 1 – 2، بيروت 1998.
(4) جوليا كريستيفا، علم النص، ترجمة فريد الزاهي، المغرب 1991، ص78.
(5) مجلة الآداب، العدد 3 – 4، بيروت، 1977.
(6) محمود درويش، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت 1977، الطبعة الأولى، ص549.
(7) مختارات من شعر لوركا، ترجمة عدنان بغجاتي، منشورات وزارة الثقافة السورية.
(8) مجلة المعرفة السورية، محمد عبد الرحمن يونس، العدد 405، حزيران 1997، التراث الشعري والتاريخ كقناع للإيديولوجيا، ص178.
(9) مجلة الآداب، العدد 1 – 2، بيروت 1998.
(10) ملحق الثورة الثقافي، العدد 113، 1998. يقول مفيد نجم في مقالة “التناص إعادة بناء الكتابة الدائم” يضيف بأن التناص يخضع في شروطه إلى مضمون التجربة ولحساسيته الشعرية المعبرة عن الوعي بهذه التجربة، وما تفرضه من تشابه في المضمون الشعوري النفسي للتجربة الوجودية لدى الشاعر مما يستدعي في دراسة ظاهرة التناص في تجربة شعرنا القديم والمعاصر البحث في مصادر هذه التجربة ومستويات وأشكال عمليات التناص وصولا إلى اكتشاف الحدود الفاصلة بين التأثر والتحويل والامتصاص الذي تقوم به النصوص الشعرية وبين السرقة والاشتغال على إبداعات الآخرين لكيلا تظل ضبابية هذا المفهوم تسمح بتمرير مثل هذه الحالات المرفوضة.