تكنولوجيا الإعلام: أمم مندهشة وأمم صاعدة!
دخلت البشرية منذ الثمانينات مرحلة جديدة، أبرز ملامحها السيل المتدفق من المعلومات العصيّة عن الإدراك لحجمها ونوعها وكثافة بثها. ويصعب على أي دولة حاليا أن تمنع التدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليها من خارج حدودها عبر الإنترنت، والأقمار الصناعية، والقنوات الفضائية وغيرها.
ونتيجة التقدم في تكنولوجيا الاتصال والإعلام تكوّن نظام معلوماتي عالمي (متعدّد الجنسيات) مرتبط بوسائل الإعلام الجديدة والمتعددة على الشبكة، حيث تتدفق رسائل متنوعة مترجمة كلها إلى اللغة العالميّة للترقيم العددي لتخطي الحدود، وإقامة نظام (متعددّ الجنسيات) للمعلومات.
كما أن تطوير ظاهرة المزج بين الأجهزة الإعلامية والهاتف والتلفزيون، ومزج الصورة المتحركة والصوت والنصوص والبيانات، مكنها من الدخول إلى البيوت والمؤسسات والمنتديات عن طريق مجموعة متنوعة من الشبكات التفاعلية والوسائط المتعددة.
واستطاع الواقع الافتراضي لأول مرة في تاريخ البشرية كسر حاجزي الزمان المكان، حيث زمن الواقع الافتراضي هو زمن متحرك يسعى للوصول إلى الثبات، إلى الواحد المطلق، وفي الزمن الرقمي هناك بعدان أو ركنان فقط هما السرعة والزمن، ويغيب بل ينتفي عامل المسافة، حيث المسافة نهاية تقترب من الصفر وحيث السرعة تساوي الزمن وحيث الزمن يساوي واحد، وحيث الرقمان الوحيدان الموجدان هما الصفر والواحد، وفي هذا المجتمع يعيش ويتفاعل أفراده مع بعضهم البعض في الواقع الافتراضي.
وفي هذا المجتمع هناك اقتصاد جديد هو الاقتصاد الرقمي، وهناك سياسة جديدة هي السياسة الرقمية، وحروب من نوع آخر، أشدّ وأقسى، هي الحروب الرقمية، وهناك ثقافة أخرى، وعلاقات إنسانية وعاطفية متشابكة ومختلفة كل الاختلاف عما يجري في العالم الواقعي.
إن التحدي الذي يواجه العالم اليوم هو أن منافع ثورة تكنولوجيا المعلومات ليست موزعة توزيعاً متساوياً بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية أو في داخل المجتمعات. فهناك الفجوة الرقمية التي تؤدي إلى المزيد من التهميش، وخاصة لدى أولئك الذين يعيشون في المناطق النائية والريفية وفي المناطق الحضرية المهمشة.
وهذا يتطلب توفير عوامل أساسية أبرزها: بناء مجتمع معلومات، وإقامة أشكال جديدة من التضامن والشراكة والتعاون بين الحكومات وأصحاب المصلحة الآخرين، والتضامن الرقميّ على الصعيدين الوطني والدولي على السواء. وضمان استفادة الجميع من الفرص التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ودون شك لقد غيّرت تقانات المعلومات والاتصالات والاقتصادات المجتمعات العربية، وأدخلتها قسراً وسريعاً في العولمة. بيد أن هذه التغيرات ومع كمّها الكبير، لم تأت بعد إلى العمق، لتحقيق قفزة نوعية على مستوى العمل الاقتصادي، والممارسات الفكرية والمجتمعية. مع الاعتراف بأنّ لجمود الحكومات العربية مسؤولية كبيرة في ذلك.
لقد ارتبط تعاظم الدور المحوري للإنترنت بتقديم مقاربات جديدة تجاوزت مفاهيم الإعلام والاتصال، فالشبكة الدولية رفعت من درجة التشبيك بين المجتمعات، وعززت من مفاهيم وركائز الديمقراطية، لقد حلقت فوق المفاهيم التقليدية لأمن الدولة، وتجاوزت أزمات التنمية كالتغلغل والتوزيع والهوية والشرعية، لتشكل مفهوما جديدا لمفهوم “الموطن العالمي الافتراضي”، و”الرأي العام الإلكتروني”، و”الديمقراطية الإلكترونية”، وذلك بفعل تزايد مصادر المعلومات المفتوحة وتزايدها، وتوالدها وتعاملها بمنطق الذكاء الجماعي.
مختصر القول، إن التكنولوجيا تضم التقنية وتتعداها، بمعنى أن التكنولوجيا هي معارف ومضامين وثقافة ونظم قيم تتحول تطبيقيا إلى تقنية، أي إلى أدوات وأجهزة وعتاد ووسائل عمل.
وكل تقنية إذن هي في محدداتها ومرجعيتها وخلفيتها نتاج ثقافة وحضارة ونظام قيم، وإذا انسلخت عن هذا أصبحت مجرد أدوات لا مكان لها ولا زمان. ويمكن التأكد من ذلك من خلال استحضار نماذج الاتصال لهذه التكنولوجيا حيث ستصبح في القرن المقبل مقياس تقدم الأمم وباروميترا حقيقيا على مدى قابلية ثقافتها على مسايرة العصر ومسايرته تكنولوجيا، ليس التلميح هنا إلى (الأمم البطيئة والأمم السريعة) ولكن أيضا إلى ما بدأ يتكرس كأمم فقيرة معلوماتيا أو أمم غنية، إلخ.
ثمة الكثير من الشواهد في العصر الحالي بأن البشرية تمكنت بشكل أو بآخر من القبض أخيراً على خناق أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. على الرغم من وجود آراء أخرى معارضة لذلك تقول إننا مازلنا في بداية عصر المعلومات، أو كما يقول البعض إننا مازلنا في مهد عصر المعلومات في ظل مجتمعات صاعدة، ومجتمعات مندهشة تنتظر قدرها أن تهزها بقوة صدمة المستقبل!
اتمنى لكم التوفيق والسداد.