العرب وثقافة الإعلام العلمي
لا يزال الحديث حول تأثير الثورة العلمية على البيئة والفكر والحياة البشرية مستمرا، والجدل حول نعم العلم ونقمه متصلا، ولكن الكل على الأرجح متفق مع المفكر الأميركي ألفين توفلر في كتابه الشهير “صدمة المستقبل”، على أن العلوم والتقنية
قد تحولت إلى أداة تضرب الكثير من الأسس القديمة والتقليدية السائدة في المجتمع البشري، وتعيد تشكيلها وفق مفاهيم ومنظومات جديدة، وأن المجتمع البشري سيواجه نتيجة ذلك تغييرات جذرية أشبه بالصدمة في الكثير من مجالات حياته. وهذا يتطلب أن يصبح العلم ثقافة في المجتمع، من خلال إعلام علمي متميز يؤدِّي إلى التواصل المستمر بين الحركة العلمية والجمهور.
وإذا كان الإعلام عموما يمثل الجهاز العصبي في نقل وانتشار المعلومة إقليميا وعالميا، فإن الإعلام العلمي يمثل العقل في الجهاز العصبي لنقل المعلومات نظرا إلى أهمية المعلومة لدي القارئ والمستمع في تشكيل، ليس فقط فكرة عن العلم ومن يشتغلون به، ولكن أيضا عن الاحتياجات المستقبلية ولا شك أن كل هذه الأساليب وغيرها، تؤهِّل الأفراد للعيش في عالم الغد.
وتؤدي إلى إشاعة المنهج العلمي في التفكير والإبداع، وبالتالي القدرة على مواجهة الأزمات والمشكلات بفاعلية أكثر، وهو أمر أصبح في الدول المتقدمة ثقافة شائعة بين الجمهور ووظيفة مهمة لوسائل الإعلام في نشر الثقافة العلميّة والتكنولوجيا وتبسيطهما، فلا تخلو أي صحيفة أو مجلة من الصفحات العلمية المحرّرة والمبسّطة من قبل متخصصين ممّا يسهل على القارئ فهمها،
هذا إلى جانب القنوات التي تبثُّ البرامج العلمية ويعلق عليها علماء ومؤلفون كبار، ويقدّمونها بصورة جذابة مشوقة وسهلة، لإثارة حب العلم.
لم يصبح الإعلام العلمي شأنا عالميا إلا منذ عام 1992 حين التأم أول مؤتمر دولي للإعلام العلمي في طوكيو، تحت عنوان: العلم في خدمة الإنسانية.
رغم ظهوره في القرن التاسع عشر بمجلة “يعسوب الطب” عام 1865، وأيضا رغم انتعاشه في ستينات القرن العشرين وسبعيناته بفضل جهود الكثيرين الذين تناولوا العلوم في صحفهم ومجلاتهم وبرامجهم، إلا أن فتورا أعقب تلك الانتعاشة في حقبتي الثمانينات والتسعينات. وعندما جاءت الإنترنت وحلت ثورة المعلومات، انتشرت المواقع والمدونات العلمية العربية.
عربيا، يكفي أن نعلم أن عدد المجلات العلمية الجادة التي يتم توزيعها في الوطن العربي بهدف التثقيف العلمي لا يتجاوز 15 مجلة ورقية، وأن عدد المواقع الإلكترونية العربية التي تهدف إلى التثقيف العلمي لا يتجاوز 40 موقعا، مما يعني أننا نعاني مشكلة كبيرة في الناحية الكمية، بالإضافة إلى المشكلة النوعية في كفاءة المحرر العلمي.
كما أن حجم تغطية الأحداث الرياضية والفنية يفوق بمراحل حجم تغطية الأنشطة الأخرى بما فيها الأنشطة العلمية، وهو دليل على سطوة وسائل الإعلام وقدرتها على توجيه الجماهير والتحكم في رغباتها.
كما ينبغي الاعتراف بأن هذا الإعلام مازال يفتقد للكثير من خصائصه كعلم وحرفة، إضافة إلى وجوده في بيئة علمية طاردة للعلم، وبيئة إعلامية لا تجيد توصيل الرسالة العلمية بشكلها المبسط والمشوق، لأن طبيعة المعلومة العلمية في غاية الخطورة عندما تنتقل من المتخصص إلى العامة.
فإن كيفية نقلها والتعبير عنها وتسويقها يتطلب حنكة وخبرة إعلامية كبيرة بالإضافة إلى تسلح الإعلامي بذخيرة علمية واسعة النطاق حتى يتسنى له التعبير الدقيق عن الحدث العلمي بعيدا عن العشوائية الإعلامية التي قد تؤدي إلى بلبلة شعبية تؤرق الشارع تماما كما حدث مع انتشار الأمراض العالمية كفيروس الإيبولا والإيدز وجنون البقر وغيرها التي أثارت الرعب بين الجمهور في بداية انتشارها.
كما أن هناك نقصا في الكوادر الإعلامية المتخصصة في مجال العلوم، وضعفا في المهارة الإعلامية لتوصيل المادة الإعلامية بشكل مشوق، لأن مشكلة الإعلام العربي هي أنه خلق ثقافة معادية لدى الجمهور بسبب عدم قدرته على تقديم العلوم بشكل مبسط ومشوق، بل ساهم في خلق الغموض والملل وتكريسهما في مدارك المتلقي.
والإشكالية، هي قضية غموض المادة العلمية، وحتى لو سلمنا جدلا باستيعاب الإعلامي للمادة التي ينقلها فإنَّه سيجمع بالضرورة بين اختصاصين؛ أحدهما يمثل مضمون المادة المنقولة من المختص إلى الجمهور، والآخر هو الخطاب الإعلامي وتقنياته التي تتطلب جهدا لا يقل عن الأول في تحصيله.
وهنا تكمن المعضلة الكبرى للإعلام العلمي وهي الجمع بين أمرين شبه متنافرين، حيث الإجادة في أحدهما تقتضي الإخلال بالآخر! وهذا يتطلب تسليحه بذخيرة من التكنيكات الإعلامية التي تمكنه من تسويق البحوث إعلاميا للمتخصص وغير المتخصص بصورة عالية المهنية، تحميه من الوقوع في خطأ السفه أو الغرور العلمي.