ماذا حدث لبرنامج الصواريخ المصري “القاهر والظافر” ؟
جاءت أعياد يوليو..أعياد المجد..أعياد العزة.. واستقبلت القاهرة عاصمة الجمهورية العربية المتحدة أيام العيد.. أيام يوليو الخالدة.. وقد مضت 10 سنوات من الكفاح البطولي في كل الميادين.. وتغير وجه مصر.. ومع مطلع الاحتفالات بالعيد العاشر للثورة، عاشت جمهوريتنا أروع تجربة في تاريخها الحديث، تجربة دخولها الظافر عصر الفضاء.. حيث شهد الرئيس جمال عبد الناصر تجربة إطلاق الصواريخ العربية في قاعدة الصواريخ في قلب الصحراء..”.
كان هذا جزءا من تقرير أذاعه التليفزيون المصري عام 1962 في خضم الاحتفال بذكرى ثورة يوليو 1952، وركز فيه على حضور رئيس مصر آنذاك، جمال عبد الناصر وكبار رجال نظامه تجربة إطلاق أول صاروخ مصري، وصفته الصحف المصرية أنه “صاروخ عربي يمكنه إصابة تل أبيب إذا أطلق من القاهرة”.. فماذا كانت قصته؟
- العلماء الألمان
كان عبد الناصر يبحث عن تسليح الجيش المصري، وكانت عينه على العلماء الألمان الذين لم يجدوا بدا من الهروب بعيدا خارج بلادهم بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، خاصة من كان متهما منهم في قضايا تخص اليهود، هرب بعضهم إلى الغرب والبعض الآخر ذهب إلى دول في الشرق منها مصر حيث عملوا مستشارين ومدربين للجيش المصري.
وحينما رفض الاتحاد السوفياتى تزويد مصر بأسلحة حديثة عقب العدوان الثلاثي عام 1956 (حرب واجهت فيها مصر قوات إسرائيلية وبريطانية وفرنسية) قرر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960 إنشاء هيئة التصنيع الحربي، و كان قد بلغ حجم العمالة المصرية فى مصنع 333 الحربى (صخر) أيامها حوالي ألف عامل وعالم مصرى، يساعدهم 250 عالما وفنيا ألمانيا من ذوي الخبرات، رحب بهم عبد الناصر في تلك الفترة، إلا أن عمليات الاغتيال من المخابرات الإسرائيلية كانت تترصدهم وتهدد أمانهم في مصر مما جعلهم ينسحبون تباعا.
يحكي محمد حسنين هيكل في كتابه “عبد الناصر والعالم” أن المخابرات المصرية اتصلت بالعلماء الألمان في أوروبا واستقدمتهم للقاهرة، وأثار الإسرائيليون ضجة دولية حول وجود “العلماء النازيين” في مصر، ولم يستطع عبد الناصر فهم هذا الاستنكار لتعامل العلماء الألمان معه، وكان رد عبد الناصر للسفير الأميركي “عند الروس علماء ألمان يعملون من أجلهم، وعندكم علماء ألمان يعملون من أجلكم، فلماذا يجب ألا يعملوا من أجل مصر؟”.
ويضيف هيكل أن مصر استطاعت المضي قدما في برنامجها الطموح رغم الطرود البريدية المتفجرة التي استهدفت العلماء الألمان ورغم حملة الدعاية العالمية ضده.
- سباق التسلح
ويواصل هيكل في كتابه مشيرا إلى أن مصر أطلقت صاروخها الأول في أعياد ثورة يوليو 1962، مما أغضب الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي الذي أرسل لعبد الناصر مؤكدا أنه بذلك يشعل سباق التسلح بين مصر وإسرائيل، وأبلغه “الإسرائيليون يشعرون بأنهم مهددون وأنه من أجل إزالة مخاوفهم أجاز لهم شراء بعض بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات”.
في كتابه “قصة صناعة الصواريخ والطائرات المصرية” يحكي الضابط المتقاعد محمد ضيائي نافع -كشاهد عيان على برنامج الصواريخ- تفاصيل صناعة القاهر والظافر، ويروى أن التجارب التي سبقت الإعلان عن البرنامج أثبتت أخطاء فادحة في توجيه الصواريخ، لكن عبد الناصر مضى قدما في الإعلان عن البرنامج خلال احتفالات الثورة عام 1962.
ويضيف نافع “في منتصف يونيو/حزيران كانت الاستعدادات تجري كما يجب وذلك لإجراء تجربة لاطلاق الصاروخ الظافر، وكانت هذه التجربة هى بروفة لعملية إطلاق الصاروخ احتفالا بأعياد الثورة.. كانت العجلة هى الصفة الواضحة لما يحدث في قاعدة التجارب في هذه الفترة من عمر الصواريخ المصرية التى كانت أمل القوات المسلحة وأمل المصريين جميعا بعد أن علموا بالمشروع قبل ذلك بعام.. لكن الذي حدث أن الصاروخ بعد إطلاقه وارتفاعه عن منصة الإطلاق بعشرات الأمتار اتجه الى الأرض مرة أخرى وسقط بالقرب من منصة الإطلاق حيث الموقع الذي يقف عنده المصور”.
وقع الحادث أثناء تصوير الفيديو الدعائي الذي بثه التلفزيون المصرى، لكن هذا لم يمنع إعلام عبد الناصر من بثه من أجل إثارة رعب الإسرائيليين بالقدرات الوهمية للصاروخين القاهر والظافر.
ويرى نافع أن معظم جيل الشباب ومن الشيوخ أيضا لا يعرفون أي شيء عن هذه الصناعة، وأن الكثيرين كانوا يضحكون عندما يتحدث عن الطائرات أو الصواريخ “كانوا يتساءلون هل كنا فعلا نصنع طائرة أو صاروخا إذا كنا لا نصنع محرك سيارة أو موتور ثلاجة..
في الحقيقة أنا لا ألوم هؤلاء على ما يقولون وألتمس لهم العذر لأن الإعلام خلال سنوات تلك المشاريع كان غائبا ومبتعدا عن الكتابة، أو حتى الاقتراب من هذه المشاريع وعرض الصورة الحقيقة لما كان يقوم به المصريون، بل إن كثيرا ممن كانوا معاصرين لزمن تلك الصناعة نجد أن لديه معلومات مشوشة غير حقيقية عن تلك المشاريع..”.
- شهادة الشاذلي
“بعد هزيمة سنة 1967 أخذ المصريون يتهامسون: أين الصاروخين؟ و لماذا لم يستخدمهما الرئيس عبد الناصر فى ضرب تل أبيب كما وعدنا؟”.
هكذا استهل الفريق سعد الدين الشاذلي شهادته التي أدلى بها في مذكراته ليؤكد على أن المشروع مجرد “دعاية للنظام الناصري في تلك الفترة وساندته في ذلك وسائل الإعلام، حيث كانت قصة هذه الصواريخ تشغله عندما تولى رئاسة أركان الجيش المصري، وراح يتقصى أخبارها.
يقول الشاذلي في شهادته “لن أقص كيف بدأت الحكاية، وكيف أنفقت ملايين الجنيهات على هذا المشروع وكيف ساهم الإعلام في تزوير الحقائق وخداع شعب مصر، إني أترك ذلك كله للتاريخ، ولكنني سأتكلم فقط عن الحالة التي وجدت فيها هذا السلاح وكيف حاولت أن أستفيد -بقدر ما أستطيع- من المجهود والمال اللذين أنفقا فيه.
وتابع الشاذلي “القاهر والظافر كانت هناك عدة نسخ منهما ترقد في المخازن، لقد كانت عيوبهما كثيرة وفوائدهما قليلة، لكنني قررت أن أستفيد منهما بقدر ما تسمح به خصائصهما، ولقد حضرت بنفسي بيانا عمليا لإطلاق القاهر ووجدت أن هذا السلاح أقرب ما يكون إلى منجنيق العصور الوسطى”.
ويضيف الشاذلي أنه فوجئ بأن السادات يعلن صباح يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1973 “أننا أطلقنا القاهر على العدو الذي يحتل منطقة الدفرسوار قبل وقف إطلاق النار ببضع دقائق، لم يكن باستطاعتنا طبعا أن نستخدمه ضد أي هدف يقع شرق القناة مباشرة لأن عدم دقة السلاح قد يترتب عليها سقوط القذيفة على مواقعنا التى تقع غرب القناة ولا يفصلها عن مواقع العدو سوى 200 متر فقط”.
ويتابع “لم يكن في وسعنا أن نبعث به إلى الجبهة قبل بدء العمليات، حيث إنه لو حدث واكتشف العدو وجوده فقد يعتقد الإسرائيليون -بناء على ضخامة حجمه- أنه قادر على ضرب تل أبيب، لذلك أجلنا تحركه حتى ليلة الهجوم.. وكانت حرب أكتوبر هي الفرصة التي أمكن إسدال الستار نهائيا على القاهر والظافر أو -طبقا لاسميهما الجديدين- التين والزيتون”.