هل كان أبو تمام “سيّد التأليف” في العزل؟
ذكر أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي، وشهرته الخطيب التبريزي، أهم شراح “ديوان الحماسة”، أن الشاعر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي المتوفى سنة 231 هـ، قصد الأمير عبد الله بن طاهر، الحاكم الطاهري على خراسان، ليمدحه، وفي طريق العودة توقف في همذان عند صديق له يدعى أبو الوفاء بن سلمة، فأنزله الرجل وأكرمه.
وحين استفاق أبو تمام ذات يوم بنية متابعة طريق العودة وجد أن ثلجًا عظيمًا قد وقع فقطع الطرق ومنع السابلة من السير على الطرق والخروج من البيوت. يحكي الخطيب التبريزي أن ذلك غم أبا تمام وأحزنه، هو السعيد بمهمته التي أداها أحسن أداء، والمشتاق إلى معانقة بيته وبيئته أشد ما يكون الشوق.
وحين لاحظ مضيفه أبو الوفاء ضيق الشاعر العظيم وغمته سعى لأن يسري عنه ويخفف حزنه، فلم يكن منه سوى أن أحضر خزانة كتبه ليطالعها ويشتغل بها. فتحولت نفس الطائي من غمة إلى سعادة. فرتب الوقت وشحذ الذهن للجلوس من أجل العمل والتأليف.
بدأ يشتغل طوال ساعات، فكانت النتيجة تأليف وتصنيف عدة كتب كان أحدها كتابه الذائع الصيت: مختارات الحماسة. فلم يكن من المعجبين العرب بهذا الكتاب سوى القول: أبو تمام في حماسته أشعر منه في شعره.
لماذا شاعرية أبي تمام كاملة في الحماسة أكثر من شعره؟ يمكن أن نجيب بأن العزلة تمنح دقة أكثر للفكر، وحجاجًا أكثر، وميلًا نحو التحليل أكثر.
العزلة تعيد بناء كل شيء. ودليل هذه الدقة في كون حماسة أبي تمام لا تبث القصائد المختارة كاملة، بل اهتمت أكثر بالمقطوعات والأبيات القليلة مقتطعة من المطولات. وهذه المنهجية دفعت أبا تمام إلى بذل جهد أكثر في الاختيار والقراءة. هذا إضافة إلى تبويب هذه المختارات حسب المعاني الشعرية المشهورة، فجاءت على هذه الأبواب: باب الحماسة، باب المراثي، باب الأدب، باب النسيب، باب الهجاء، باب الأضياف والمديح، باب الصفات، باب السير والنعاس، باب المدح وباب مذمة النساء.
إلا أن باب الحماسة هو أكبر أبواب الكتاب، وجاءت فيه مختارات من أشعار العرب وأقوال القدماء في الشجاعة والإقدام والاستهانة بالموت وما إلى ذلك من المعاني الحماسية، ولذلك سمي الكتاب به كاملًا.
لم تمكن عزلة أبي تمام في بيت صديقه أبي الوفاء بن سلمة من تأليف ديوان الحماسة فقط، بل صنف عدة كتب أخرى لا نعرف عناوينها. كما لا نعرف المدة الزمنية التي استغرقتها إقامته عند مضيفه. لكن يمكن تخمين أنها تتراوح من شهر إلى ثلاثة أشهر، أي استمرت فصلًا كاملًا بمنطق فصول السنة.
فهل فصل كامل من الثلج والعزل كاف لتصنيف عدة كتب؟ ولكن هناك من يشكك في صحة هذا الخبر، مثل الدكتور أمجد الطرابلسي. إنما إن صح الخبر، فلا بد أن نشكر المصادفات، ونشكر فصل الثلوج المبارك الذي دفع أبا تمام إلى بيت صديقه، وحال بينه وبين متابعة طريقه نحو العودة إلى الديار، فأتحف العرب بكتاب هو من أغنى الكتب.
العزلة تدفع إلى الاستذكار، لذلك لا نجد في حماسة أبي تمام أي شاعر من الشعراء المحدثين، باستثناء مسلم بن الوليد ودعبل وأبي العتاهية، بل كلهم من قدامى الجاهليين والإسلاميين.
انتشرت في تلك الأيام عادة تقييد السجناء بقيود من خشب الصفصاف. وساد أيضا أن الناس لا يذكرون أنسابهم، خصوصا منهم الذين يسافرون كثيرا في بلاد العرب، خيفة أن يكون لهم في قومهم أي ثأر. ارتعد الغلام المرافق خيفة وأخفى رعدته. فمن عادة الناس في القرن الثالث الهجري عدم إظهار الخوف.
لكنه حاول إزالة سحابة الخوف تلك بقوله: أنت مشّاءٌ قويٌّ على السّير، وهذا ما تعلمته منك، تسير سيرا لا غاية بعده، وتعرف الفلوات، ومواقع المياه، ومحالّ العرب بها، وتعرف أسرار كل حلة بالبوادي. فكيف نسقط سجناء في أيدي الغرباء؟ لكن حبيب يجيبه متجهما دون جهد في إخفاء مشاعره:
– لقد رأيت أحلاما كثيرة هذه الأيام. وحلم إبليس وهو يغني بدون كلمات ولا لحن أشدها خفّة وأقلها رعبا. لقد اعتدنا على إبليس في اليقظة والنوم. رأيت أحلاما كثيرة متتابعة لا أعرف لها منطقا ولا رابطا يلحمها. أحدها، وهو أهمها وأقواها تأثيرا فيّ، مقتل شاعر لم أره من قبل، ولا قرأت شعره. أذكر أنني أحصيت، وهو يتكلم ويعبّر، مساوئه ومحاسنه، ووجدتها متساوية.
ودّعني وهو يبكي. بعد ثلاثة أيام وصلني مقتله وهو على طريق الأهواز، ووُجد في خرج كان معه ديواني وديوان ابن الطائية. ارتعبت كثيرا من الحلم، ومما تذكرته من الحلم. فأن يجدوا ديواني مع رجل قُتل على الطريق نذير شؤم ومبعث خوف من قادم الأيام. أذكر أن من أبلغني في الحلم، وهو رجل أثق به كثيرا، أكد أن ديواني كان منسوخا بخط الشاعر القتيل، كما وضع حواشي على الأوراق، وعلامات على أبيات عديدة.
وجد حبيب في الحلم إشارات ومعاني مليئة بالشؤم كما تُملأ غيمة سوداء بمطر عاصف. وحين قلّبه جديًّا في ذهنه، دون مقاطعة من راويته، وجد فيه علامات خير ووفرة.
سيولد شاعر بهذه القوة، مذكور ومشهور ومحظوظ من الملوك والكبراء. لكنه سرعان ما قطّب وتجهم، فهذا الشاعر ينكره وينكر شعره وشعر غيره.
روى حبيب تتمة هذا الحلم كما رآه في ليلة تالية لليلة الحلم الأول. رأى الشاعر صبيا اسمه أحمد الكوفي، يصحب الأعراب في البادية، ويكثر من ملازمة الوراقين ويحفظ دفاترهم. وبذلك قويت حافظته. لكن هذه الحافظة تنسى اسمه وتتجاهله. وبدأ حبيب يستظهر بيتا سمعه من الشاعر في الحلم:
باد هواك صبرت أو لم تصبرا *** وبُكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
وقال معلقا:
– لم أسمع بمثل هذا البيت جمالا ولا سلاسة ولا قوة في المعنى. قائله شاعر ذكي، لفظه سهل القدوم، وقلبه سهل الاستشعار. فمن يكون؟ لقد رأيته وهو ينشد قصيدة طويلة، رأيته وهو يتردد، يقول ويتراجع، ويمسك عنان عبارته، ويحبس بُنيّات صدره. أنا لا أعرف شاعرا بمثل هذه القوة. تُرى ما سر هذا الحلم؟ أهو مجرد حلم أم أنني بصيرٌ لي في يومي عينٌ على الغد؟ بقي الغلام المرافق صامتا، يتمنى في نفسه لو طالت رواية الحلم. هذا ليس حلما في رأيه بل حياة مليئة بالحياة. متعة طافحة بمتعة ألذُّ منها. وفجأة نهض حبيب من مكانه ودعاه إلى متابعة السير. ثم قال:
– أنا من سيلاحق هذا الحلم، وهذا الشاعر العظيم. سأهيئ نفسي للحلم به كل ليلة، حتى أتبيّن سيرته كاملة غير منقوصة. لن أتركه يزورني في منامي متى شاء ورغب، وأنا لا أعرف عنه أي شيء من سيرته. أعرف أنني سأحار في أمره. رجل مثل هذا ليس من السهل اقتفاء أثره، ولا معرفة مقامه وموعد سفره ورحيله وحلوله. هناك أناس كأنما يقيمون تحت الأرض، مختبئون داخل جلودهم، لا تراهم ولا تمسك بهم. بل هم من يمسكون بك متى شاءوا، رغم ما تعدّ لهم من العدّة.
وهما يسيران ظهرت أمامهما مقبرة صغيرة بشكل مفاجئ. التفت حبيب بتثاقل إلى مرافقه وركز نظرته عليه، كأن صمته يقول: نتحدث عن الشؤم فتظهر مقبرة.
– يمتلئ قلبي خوفا ويعترض طريقي الموتى؛ فما هذه الإشارات؟ كان يمكن للطريق أن تمنحنا شيئا أفضل.
ساد الصمت بينهما لوقت طويل، يسيران دون كلمة واحدة. بدأ صوت أنفاسهما يسمع بوضوح. حين سمع حبيب صوت صدر مرافقه التفت إليه وركز نظرته على صدره. شعر كأن الموتى يتواصلون معهما على هذا الطريق الصعب.
“لماذا شاعرية أبي تمام كاملة في الحماسة أكثر من شعره؟
يمكن أن نجيب بأن العزلة تمنح دقة أكثر للفكر، وحجاجًا أكثر، وميلًا نحو التحليل أكثر. العزلة تعيد بناء كل شيء”
ظهر أنه لا يريد الاستسلام للطريق ذات المفاجآت العنيفة الكثيرة. فرغم أنها طريق آمنة، فإن حبيب يعتبرها ممرا ضيقا وخانقا. حين قام بخطوته الأولى ظن بغرور أنه يمتلك مفاتيحها بين يديه. ويضم قبضة يده بشدة وقوة على المفاتيح حتى لا تضيع منه. لكن سرعان ما اكتشف أن الطريق خدعته، وإلا لن تكون طريقا إن تخلت عن الخداع. بدت له أضيق مما كان يتوقع، فصرخ كأنها تسمعه:
– ما هذا الموت الذي أراه على جنبات الطريق؟ ما هذه القبور، ألم تجد وقتا تظهر فيه غير هذا الذي أعبر فيه نحو هدف غامض؟
سأله مرافقه:
– هل أنت خائف يا حبيب؟
– لا لست خائفا، أنا سعيد جدا. فحين أرى الموت والفناء أقتنع بأن الله يدمر كل شيء من أجل خلق جديد. وهو حين ينوي القيام بذلك يبدأ بالإنسان.
ظهر على حبيب أنه بدأ يفقد الرضا. وظهر على الغلام أنه لم يعد يهتم بما يقوله، أو يفكر فيه سيده ومولاه. كان يسير على هيئة النائم الذي يخرج منه الكلام دون دراية منه. لكنه كان، مع ذلك، غارقا في التفكير؛ يقدم رجلا ويؤخر أخرى. أمواج واحتدام نفسي يُسمع صوته. ثمة شيء يُطحن في الأعماق. وبعد ساعة من هذا الاحتدام بدأ حبيب يسمع كلمات الغلام، وكلمات الأرض والسماء؛ كلمات الطريق التي لم تكف عن الامتداد.