أدب الرحلة

أدب الهجرة والمنفى

ربّما يكون الترحال والهجرة وحياة التنقّل أهم العناصر في تشكيل الشخصية العربية من القديم إلى اليوم. ويحمل المرتحلُ عالمه وفكره معه حيثما ارتحل.

ولهذا كان الشّعر ديوان العرب. لم يكن للعرب فنون مسرحية ولا نحت ولا عمارة مما قامت عليها الحضارات القديمة، ولكّن الشعر كان يطوي في إيقاعه كل تلك الفنون فيكون حملها سهلاً وحفظها مُتاحاً لكل عربي في الصحراء. في الشعر العربي القديم نجد التمثيل المسرحي والصورة والموسيقى والغناء وكل الفنون.

كما تشهد المطالع الطللية للقصيدة العربية على تحريك العنصر التراجيدي الذي أصّله الترحال في كينونة العربي.

لقد امتدّت فكرة الهجرة والترحال في الأدب العربي منذ القدم حتى «أدب الرحلة» علامة مُميّزة للأدب العربي القديم منذ العصر الأموي، وهو أدب أنثروبولوجي بالمعنى الحديث للكلمة، حيث كان ظهوره مرافقاً لامتداد الفضاء الإمبراطوري الإسلامي.

كما سيكون الفضاء الإمبراطوري الحديث شرطاً لظهور الكثير من الأنساق المعرفية كالأنثروبولوجيا والإتنولوجيا والاستشراق. إنه السياق التاريخي نفسه الذي مكننا أن نقرأ فيها رحلات «ابن بطوطة» والحسن بن فضلان، وحسن الوزّان (ليون الإفريقي) بالأدوات المعرفية المعاصرة.

وإذا كانت الهجرة والرحلة علامة قوّة وهيمنة في العصر الإسلامي الأول، فإنها أصبحت علامة ضعف وأزمة إنسانية وتاريخية في العصر الحديث، حيث صارت الهجرة قسرية وجماعية وهروبًا من الحروب والتشتت والاستعمار.

لقد ظهر «أدب المهجر» بداية القرن العشرين نتيجة التهجير الجماعي الذي تعرّضت له أقليّات دينية وثقافية عربية، حيث هاجر الكثير من الكتّاب إلى روسيا والدول الغربية ليخلّدوا تجاربهم في المنفى داخل أدب عربي.

ظهر أدب المهجر في بداية القرن العشرين، بعدما احتل المستعمر بقاع كثيرة من العالم النامي، حينها اضطر الأغلبية إلى اللجوء والهجرة، حيث تعرضت الكثير من الجماعات العربية للتهجير القسري نتيجة للتمييز العرقي أو الديني، حينها هاجر الكثير من الكتاب العرب إلى بلاد الغرب أو إلى الولايات المتحدة أو روسيا، ليسجلوا تجاربهم مع المنفى.

وغدا «فكر المنفى» مفهومًا فلسفيًا لدى كتاب الأدب العربي المعاصر، ينظر من خلاله الكاتب للعالم بمنظور مختلف، يُخيم عليه الهزيمة والانكسار وحلم العودة، يتخلله صراعات وجودية لا حد لها، منها صراع الثقافات وصراع الهوية، وصراع الحضارات والأديان، كان دافعها الحياة اليومية في المدن الغربية.

لقد اكتمل «فكر المنفى» في كتابات المفكر الفلسطيني- الأمريكي إدوارد سعيد، حيث تغدو الهجرة والمنفى والترحال موقعًا فلسفيًا يرى منه الكاتب العالم كلّه بمنظار مختلف، منظار نقدي يوفر للفيلسوف إمكانية تقليب عالم متخبّط في أزمة الهويّات القاتلة.

شهدت العقود الثلاثة الأخيرة هجرة كبيرة للأدباء من مختلف الأقطار العربية، بسبب ظروف الحرب كما حدث في لبنان أو بسبب الاضطهاد السياسي واستحالة العيش في ظل القمع كما حدث في العراق خلال أكثر من ربع قرن، أو بسبب الحرب كما في السنوات التي أعقبت الاحتلال الأمريكي.

أقام المهاجرون في البلدان المضيفة كمستجيرين، تتحدد إقامتهم باستمرار الظروف التي أدت إلى هجرتهم، أو لاجئين سياسيين. باستثناء عدد قليل استطاعوا أن يجدوا ما يسهل إقامتهم دون الاضطرار إلى طلب اللجوء.

جعلت هذه الهجرة الكبيرة جانبًا مهمًا من الأدب العربي ينتج في المنفى بالنسبة للبعض والمهجر بالنسبة للبعض الآخر.

هكذا تشتت الكثير من المفكرين والشعراء العرب ليشكِّلوا حساسية فلسفية مختلفة جذريًا، انطلاقًا من الحياة اليومية داخل المدن الغربية الكبرى.

لكن حياة الهجرة والمنفى والترحال، ليست مجرد عارض تاريخي طارئ سببه، الحروب ورأس المال المتنقل بلا حدود، ولا حالات أزموية يمرّ بها عالمنا، بل هي، بالأحرى، المصير التاريخي الأساسي الذي انتهى إليه التيه الإنساني.

حالة من العدمية الأصلية طالت الكينونة الإنسانية بسبب اقتلاعه من الأرض الأنطولوجية التي تشبّث بها طيلة القرون السابقة، فالقرن العشرون وما بعده هو زمن الاقتلاع واللاتجذّر في أية أرض، يرفع سعيدًا هذا الواقع إلى مقام الرؤيا الفلسفية في تشخيص المرحلة التاريخية التي يعيشها عالمنا:

«إنها ظاهرة تمتد على كامل الكوكب وتثير اهتمامي بشكل عميق، نحن نعيش في حقبة الهجرة، في زمن السفر القسري والإقامة القسرية، وهي ظاهرة تضم الكوكب بكل ما في الكلمة من معنى».

كان نيتشه قد بشّر بظهور حساسية جديدة للشعور الإنساني، تتمثل في تقززه من كل ثبات واستقرار وانصهار في انتماء واحد، وأن هذه الحساسية ستساهم أيضًا في ظهور الإنسان الأعلى، ليس الإنسان الأعلى، في فكر سعيد، إلّا إنسانًا متيقظًا إزاء مآزق الهوية ومركزياتها، الهويّة بوصفها وكرًا من أوكار السلطة في حربها ضد الحريّة.

لقد ألف أدب المهجر في الأدب العربي المعاصر شيئًا لم يوجد قط في أدب الرحلة، لقد كان أدباء الترحال متمسكين بجذورهم وقيمهم الأصلية، ناظرين من خلالها لكل ما يمرون به من ثقافات وبلدان مختلفة، حيث كانت تلك القيم بمثابة منظورهم الأساسي في التفاعلات الثقافية بين البشر.

إلا أن أدب المهجر أو أدب المنفى كان على النقيض بعض الشيء، إذ اكتفى بعض الأدباء بالحنين لتلك الجذور، بل كانت سببًا يؤرقهم في منامهم في تلك البلاد الغربية، حيث كانت سمة أدب المنفى هي الاقتلاع واللاتجذّر من أي أرض.

ربما يكون قرننا هو بداية عصر جديد، عصر اللاجئين والمهاجرين والمنفيين والمشرّدين في المنافي، وما هذه الأحداث المأساوية التي نشاهدها كل يوم إلّا علامات وإرهاصات لأزمات سياسية وإيكولوجية عالمية جعلت من الأرض عالمًا يستعصي فيه الاستقرار.

يصف إدوارد سعيد المنفى في كتابه (تمثيلات المثقّف)، بأنّه «من أكثر المصائر إثارة للحزن»، ويقول كذلك في مقالة له بعنوان (تأملات في المنفى)، «المنفى مكان يشجع على التفكير ولكنه أمر مرعب». كما أن الصدع غير القابل للشفاء الناجم عنه والذي يفصل بين الإنسان ووطنه الأصلي، لا يمكن التغلب على تأثيراته النفسية العميقة.

وهناك مجتمعات شتاتٍ كاملة تبتعد، طوْعًا أو كرْهًا، عن أوطانها الأصلية، وتتخلّى عن لغتها الأم، وثقافاتها الأصلية لتصبح جزءًا من المجتمعات والثقافات الجديدة التي هاجرت إليها، مثل الأفارقة والمغاربيّين في فرنسا، والهنود والباكستانيين في بريطانيا.

وقد أنتج هؤلاء آدابًا مُهجّنة، وهم يتّخذون من الفرنسية أو الإنكليزية لغةً للتعبير والتواصل، كاشفةً عن حاجيات الذات الجديدة، وجُروحٍ في الوعي والكينونة، وتشظّياتٍ في الهويّة.

وبسبب من ظروف الحرب في لبنان، أو الاضطهاد السياسي والحصار في العراق، أو بسبب الحرب في السنوات التي أعقبت احتلاله، والقمع في أكثر من بلدٍ عربيّ، شهدت العقود الثلاثة الأخيرة هجرة كبيرة لمجموعاتٍ بشريّة كبيرة، وفيهم المثقّفون والأدباء، إلى البلدان الأجنبية التي استضافتهم كيدٍ عاملة أو طلبة علْمٍ أو لاجئين سياسيّين.

ولم يسلم الأدب العربي، عبر تاريخه الطويل، من تجربة المنفى الأدبي؛ فقد شعر الكثير من شعرائه وكتّابه بطعم الاغتراب والبعد عن الوطن، واشتاقوا إلى الأمكنة التي هجروها، لسبب قاهرٍ على الأرجح. تجسّدت معاناة هذه التجربة في صيغٍ كتابيّة متنوّعة.

بدءًا من طلليّات الشاعر الجاهلي، ومرورًا بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلاً وكتبوا عنه، ولعلّ أشهر هؤلاء أبو حيان التوحيدي ودعبل بن علي الخزاعي وأبو فراس الحمداني والمتنبي وأبو تمام وابن عبدالسلام الخشني وابن زيدون والمعتمد بن عباد، إلى أحمد شوقي وسامي البارودي وعلال الفاسي وطه حسين وتوفيق الحكيم في العصر الحديث.

لكن يبقى المهجر اللبناني إلى أمريكا ـ أو «الأندلس الجديدة» بتعبيرهم، في الربع الأوّل من القرن العشرين، هو الأبرز في تاريخ الأدب العربي.

فالمغترب إنسان غير سوي ما لم يندمج بالكامل مهما كان فهمه وتمتعه بالحياة، لأن السعادة مفهوم نسبي، وبالنسبة للكاتب لا يمكن للسعادة أن تمنحه ومضة الإبداع، وأغلب الكتاب العظماء هم الذين حافظوا على محليتهم، حتى وإن عاشوا في بلدان غريبة، على الرغم من أن الغربة متفاوتة من بلد إلى آخر، فالمغترب عن بلده في البلدان الأوروبية ليس كالعربي المغترب في بلد عربي آخر، نتيجة لتقارب العادات والتقاليد.

لكن مع هذا تبقى غربة في المفهوم العام، وعلى سبيل المثال فقد ولد وعاش غابرييل غارسيا ماركيز شبابه في بلده الأم كولومبيا، قبل أن يغادر إلى المكسيك في مرحلة مبكرة من حياته، لكنّه ظل يكتب عن كولومبيا حتى وفاته، على الرغم من أن نمط الحياة والعادات في المكسيك لا يختلف كثيرًا عن كولومبيا.

وما زال البعض يعتقد بأن المجتمعات الأوروبية المسترخية والملباة حاجاتها تمامًا، ليست مجتمعات روائية، لعدم وجود الصراعات الطبقية وتداخل الأعراق فيها، تلك الصراعات التي تضطرم في مجتمعات العالم الثالث، بما في ذلك بلداننا العربية.

هناك المئات من الأدباء العرب المغتربين المتميزين اليوم، يكتبون باللغات الأجنبية مباشرة، وتختلط في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في أوروبا وأمريكا وأستراليا ونيوزلندا، وتجاربهم في الغربة بذكريات نشأتهم الأولى، وهذا المزج والامتزاج هو أهم ما يشكّل أدبهم. بل إن أهم من يميز إنتاجهم الأدبي هو طرح فكرة «الهوية المفتوحة» في سياق العولمة، و«الأنا» و«الآخر» كتبادل للمواقع والمواقف، بوضوح وجلاء.

إن الإشارة إلى المنفى كتقييد للهوية ومحو لها هو من بين السمات الدالة على آداب المنفى، والموتيفات التي تتكرر في النصوص، التي تدور حول هذه التجربة الوجودية المعقدة، هي جزء من هذه الطبيعة المعقدة لأدب المنفى.

ولعل الأدب الفلسطيني أن يكون من بين أكثر الآداب العالمية التي تكونت وتطورت داخل بوتقة المنفى، وعلى حوافه؛ فلا يمكن النظر إلى الأدب الفلسطيني إلا بوصفه أدب منفى واغتراب ومحاولة للحفاظ على الهوية المهددة. في قصيدة «عاشق من فلسطين» يقول محمود درويش، الذي يمكن النظر إلى مجموع شعره بوصفه مجازًا للمنفى:

ولكني أنا المنفي خلف السور والباب

خذيني تحتَ عينيكِ

خذيني، أينما كنت

خذيني، كيفما كنتِ

أرد إليّ لونَ الوجهِ والبدنِ

وضوءَ القلب والعينِ

وملحَ الخبز واللحنِ

وطعمَ الأرضِ والوطنِ!

وبالرغم من أن القصيدة السابقة مكتوبة في فترة مبكرة من تجربة محمود درويش الشعرية، أي في المرحلة التي سبقت خروجه من فلسطين ملتحقًا بالمنفيين من شعبه، فإن درويش يجعل من صوت المتكلم في قصيدته جزءًا من كورس أصوات المنفيين الفلسطينيين جميعًا.

إنه يكتب شعره داخل الوطن بوعي المنفى الأبدي مدركًا في الآن نفسه أن وجوده على أرض الوطن لا يعفيه من شعور المنفى، لأنه مقتلع ومشرد على أرضه.

وفي ذلك ما يشير إلى هوية أدب المنفى المعقدة، وإمكان أن ينتج المقيمون أدب منفى، لأن تهديد الهوية الوطنية أو القومية أو العرقية، والصراع على الهويات الثقافية بعامة، هو الذي يحدد في النهاية معنى أدب المنفى.

كتب عبد الرحمن منيف في كتابه الكاتب والمنفى: «وأيّا كان المنفى، فإنه، على الأقل خلال فترة معينة، وهذه الفترة قد تطول، مكان قاس وموحش. ليس لأنه كذلك في الأصل أو الواقع، وإنما لأنه مكان غريب، ولأن الوافد الجديد، المنفي، غير قادر على التكيف معه، خاصة وأنه يعتبر إقامته فيه مؤقتة، كما يعتبره المواطنون الآخرون، مواطنو البلد، زائدًا وثقيلاً..».

دون شك يعد هذا العصر هو عصر الهجرات بكل معنى الكلمة، ويعد الأدب المهاجر واحدًا من أهم قوى التأثير في الآداب العالمية، ولم يعش العالم العربي في حياته وتأريخه هذه الموجة الكبيرة مثلما يعيشها الآن، ففضلاً عن الهجرات اللبنانية في مرحلتيها المرحلة الاقتصادية من بداية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين ومرحلة الحرب اللبنانية في الربع الأخير من القرن العشرين.

والهجرة الفلسطينية بعد النكبة أي بعد العام 1948، والهجرة العراقية لأسباب سياسية منذ سبعينيات القرن العشرين، والهجرة المغاربية التي ارتبطت بالاستعمار الفرنسي والزحزحة الثقافية التي نتجت من وجوده، فهنالك تنافذ كبير وحركة حقيقية ناتجة من الأجيال الجديدة التي ولدت بسب هذه الهجرات، فكيف يمكن توصيفها؟

كان جبران خليل جبران أول من كتب: «بلد جميل يرسل أبناءه إلى الغربة»، ويعلق أوجين ديمتري على هذه العبارة بأنه لم يستطع كاتب فذ واحد أن يزحزح المفهوم التقليدي لدلالة الأدب المهاجر لا بالمعنى التصريحي ولا بالمعنى التضميني للكلمة.

لقد بقي هذا الأدب ينطوي على تجربة قاسية، تجربة متعلقة بالخسارة الفادحة كما كانت عند جبران خليل جبران، وتتعلق بالحنين العاصف كما كانت عند عبدالكبير الخطيبي، وبالذاكرة الممزقة كما كانت تتجلى في كتابات إدوارد سعيد.

أما في الغرب فإنها أول ما بدأت كظاهرة عاصفة عند المنظر العظيم خوسيه غولان، ثم ظهرت في كتابات المجنون المنفي نيكولاي كامنسكي، ثم كتابات أويرباخ في اسطنبول والتي ألهمت إدوارد سعيد فكرة المنفى – الفردوس، ثم جون سيدل كما هي في كتابه الرائع “المنفى والخيال الروائي”.

وكذلك أوجين أوغارت المعروف على نطاق واسع في الغرب، وقد بقي الأدب المهاجر يتقابل نوعيًا ويتوازى تاريخيًا مع الإبعاد، ومع الترحيل، ومع التغريب، ومع الانتقاص.

لقد طرح كتاب ما بعد الحداثة مفهوم البداوة كهوية ثقافية مرغوبة بديلاً عن الهوية الوطنية والقومية الأصيلة، وقد طرحوا فكرة تخريب الذات محل تقديس الموضوع، وأصبح التشظي خاصية وجودية لذات ما بعد الحداثة.

وإذا كان هذا الأمر لازمًا للمنفي، أليست هي خصائص كل كاتب حتى وهو في أرضه الأولى، إذن ألا يصح أن نقول أن الكاتب في منفاه الداخلي مواز لكاتب منفي أيًّا كان هذا النفي وأي كان موقعه.

إن المنفى أحد الأعمدة التي قام عليها الأدب الغربي، منذ هوميروس الذي ابتدع رمز «أوليس» في «الأوديسية» وسوفوكليس وأفلاطون وصولاً الى دانتي وأوفيد شكسبير فإلى جيمس جويس وكافكا وصموئيل بيكيت وتوماس مان وبريخت وكونديرا سولجنتسين.

وهناك في الأدب العربي ما يقابله أيضًا: جبران خليل جبران، الطاهر بن جلون، إدوارد سعيد، فؤاد التكرلي، آدونيس، الجواهري، عبدالوهاب البياتي، فؤاد رفقة، محمود درويش، سركون بولص، هدى بركات، حنان الشيخ، عادل قرشولي، فاضل العزاوي، وغيرهم، فقد ازدهر أدب الهجرة العربي في حقبة ما بين الحربين عندما سادت الأنظمة الشمولية والعسكرية التي رفضت الآخر وقمعت الحريات وفرضت الرأي الواحد. وتوسعت مع صعود الديكتاتوريات العسكرية التي لم تترك حيزًا ولو ضئيلاً للحرية الفكرية.

كانت صوفيا ماكلينين أول من عرف المنفى على أنه سلسلة من توترات الهوية الثقافية، وهكذا كان كتابها (جدل المنفى: الأمة، والوقت، والمكان واللغة Dialectic of exile: nation, time, space and language)، أول تعبير عن نظرية ما بعد الحداثة في تشكيل مفهوم المنفى، حيث يصبح أدب المنفى هو التعبير الفوري للأمة ولما هو عابر للأمة transnation.

كما يعكس أدب المنفى المفهوم الدوري والتاريخي للزمن، كما يصور أيضًا اللغة على أنها أداة للتمثيل الواقعي ولكنها عاجزة عن التمثيل الحقيقي، وأخيرًا يعتبر إنشاء الجالية هي نوع من البحث عن الطمأنينة وفي الوقت ذاته هي بحث عن العوائق.

في التنقل بين طرفي هذه الثنائيات ينشأ جدل، أو توترات الهوية الثقافية… وفي نظريتها المتحمسة لحقل المعرفة النظري، تخالف استخدام مفهوم ما بعد الحداثة كمجاز نظري أو استعارة للمرحلة الجديدة من الاغتراب الاجتماعي، ذلك أن مصطلح منفى يؤشر حالة مؤلمة من الوجود وإفراغ للكاتب من واقعه التاريخي وانقطاع اتصاله بالواقع المادي.

فكيف يمكن تقييم الأدب العربي على ضوء هذا الواقع، ولا سيما بعد ظهور صراع عنيف بين ما يطلق عليه أدب الداخل وأدب الخارج، إن التاريخ الثقا – سياسي في العالم العربي ينقسم إلى زمنين: زمن النهضة وزمن الثورة، ظهر في زمن النهضة أدب المهجر، وكانت الهجرة لأسباب اقتصادية أو ثقافية.

وقد أسهم هذا الأدب في تطوير عال للأدوات الأدبية والثقافية في العالم العربي، ودفع الثقافة العربية خطوات مهمة إلى أمام، وظهر في زمن الثورة أدب منفى بسبب القمع السياسي ومصادرة الحريات، أو بسبب الاحتلال كما حدث للفلسطينيين والجزائريين والعراقيين، ويمكن تقسيمه إلى قسمين، المنفى – الآخر وهو في الغالب منفى إلى الدول الغربية، والمنفى البيني، بين البلدان العربية، فلسطيني في العراق، أو سوري في مصر، أو مغربي في الجزائر وهكذا..

بعض هذ الانتاج يكتب بلغات أخرى، وبعض هذا الانتاج يبقى مرتبطًا بالأدب العربي وهو جزء منه.. بعضه ينتج في الدول الأوربية ولكنه لكتاب يكتبون دائمًا وأبدًا باللغة العربية ويعتبرون أنفسهم جزءًا من الثقافة العربية، وبعضه بين البلدان العربية وهو بالضرورة يكتب باللغة العربية.

ويمكن أن نقول أن هذا الأدب المنتج بلغة عربية انفلت من القمع ولكنه لم ينفلت من التسييس المفرط، وبالتالي شكل نوعًا من الأيديولوجيا المناوئة لآديولوجيا السلطة وقد أسهم في تطوير فضاء الحرية حتى في الداخل، غير أنه لم يندمج حتى الآن في أدب الداخل، ويعد اليوم هو من هوامش الأمة كما يطلق عليه إريك هوبزباوم.

  • المصادر:

– الهجرة والمنفى والأدب، د. إسماعيل مهنانة، ثقافات، 8 أكتوبر 2015.

http://thaqafat.com/2015/10/28451

 – تأثير الغربة على الكاتب، محمد حياوي، صحيفة العرب اللندنية، العدد: 10918 – 4-3-2018.

– أدب المنفى والتجربة الفلسطينية – فخري صالح – مجلة العربي – سبتمبر 2009.

http://www.3rbi.info/Article.asp?ID=5365

 – ثقافة عربية عابرة للجغرافيات، عواد علي، صحيفة العرب اللندنية، العدد: 10735،27 أغسطس 2017.

–  الأدب المهاجر: مجازات المنفى وبناء هوامش الأمة – علي بدر – صحيفة الدستور – 29-08-2008.

خاص لمجلة فكر الثقافية.

بالعربيّـة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى