عبد الكبير الخطيبي.. المفكر الفرانكفوني المغربي الموسوعي
يعتبر المغربي عبدالكبير الخطيبي من أبرز المفكرين العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية والعربية، فهو مفكر سوسيولوجي وأنثروبولوجي، وأخصائي بالأدب المغربي، وروائي، وشاعر، ومسرحي، ومفكك رموز، ومهتم بتحليل النظم المادية والرمزية.
وله عدة مؤلفات في هذه المجالات «فقد كتب الشعر، وكتب الرواية وكانت مساهماته فعالة ومهمة في النقد الأدبي والفني، وأيضًا التحليل السياسي. تخصص في علم الاجتماع لكنه تأثر بالسيميائيات كثيرًا، واقتحم بها مجالات عديدة تحوم حول الثقافة المهمشة في تراثنا العربي الإسلامي.
قام بتحليل التراث والزربية والجسد والأمثال الشعبية واللوحة التشكيلية، وكون صداقات فكرية وإنسانية مهمة مع أعلام فكرية وأدبية مرموقة مثل رولان بارث وجاك دريدا وجان جونيه ومحمود درويش وأدونيس وعبد الوهاب مؤدب وإدوارد سعيد وجاك حسون وغيرهم»(1).
ساعده اطلاعه الواسع على مختلف الظواهر الثقافية والاجتماعية في المغرب الذي نشأ فيه أن يلم بكل هذه المعارف حيث يقول في محاضرة ألقاها عام 1978 بكلية الآداب في الرباط: “حقًّا، يكون المحاضر غربيًا وشرقيًا في مسألة المغرب. لماذا؟ لأن وجود المغرب هو بين الغرب والشرق، بين المغرب والمشرق، بين التاريخ وما قبل التاريخ، بين الميتافيزيقا وما يناقضها، بين العرب والبربر، بين الدين والسحر، بين القبيلة والإقطاعية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، بين -بين”.
ولد الخطيبي بمدينة الجديدة في 12 فبراير 1938 في أحد الأحياء الشعبية من أب آثر الاشتغال بالتجارة عوض الالتحاق بسلك القضاء بعد إنهاء دراسته بجامعة القرويين بفاس، وكان يعطي دروسًا بصفة منتظمة بأحد مساجد الحي الذي كان يقطن فيه، وهذا بالتأكيد ساهم في تعميق ثقافته واطلاعه على مجريات الأمور والتفاعل معها إضافة إلى عوامل أخرى “ولدت في يوم عيد الأضحى، وفي بداية الحرب العالمية الثانية، وفي فترة الاستعمار، وهي ثلاثة أحداث أساسية ظلت موشومة في حياتي”(2) وقضى عبدالكبير دراسته الابتدائية بمسقط رأسه، وسافر إلى مدينة مراكش لمتابعة دراسته الثانوية وعمره أقل من اثنتي عشرة سنة، إلا أن شهادة الباكالوريا حصل عليها من ثانوية الليوطي بمدينة الدار البيضاء.
على إثر حصوله على منحة دراسية بعد اجتيازه لمباراة سافر إلى فرنسا لإتمام دراسته الجامعية بالسوربون بباريس بشعبة العلوم الاجتماعية والفلسفة، وذلك في فترة سياسية صعبة تمثلت في الصراع بين فرنسا والحركات السياسية في العالم الثالث، وفي نفس الوقت انتشار حركات ثقافية وفكرية (الوجودية والماركسية والبنيوية) وازدهار الكتابة الأدبية (الرواية الجديدة) فأتاحت له باريس الانغماس في الإبداع والانتاج الفكري والفلسفي والأدبي، كما أبدع في السوسيولوجيا والسيميائيات، يقول الخطيبي “الالتزام بالنسبة لي هو تحويل ما أحسه وما أفكر به إلى شكل أدبي وناقش أطروحة الدكتوراه في موضوع الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسية عام 1965، وأصدرها لاحقًا سنة 1968، وترجمت إلى اللغة العربية عام 1971.
عاد الخطيبي إلى بلده بعد حصوله على الدكتوراه، واشتغل في البداية أستاذًا مساعدًا في جامعة محمد الخامس بالرباط عام 1964، وأستاذًا مساعدًا فمديرًا لمعهد السوسيولوجيا بالرباط، ليغادر مجال التعليم ويتفرغ للبحوث العلمية بالمعهد الجامعي للبحث العلمي الذي سيصبح مديرًا له فيما بعد.
إلى جانب هذا كان الخطيبي يدير مجلة “علامات الحاضر” وفي نفس الوقت ترأس “المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع” وهما مجلتان متخصصتان في علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم الإنسانية. وبتعليمات من ملك المغرب محمد السادس احتفظ بصفته أستاذًا جامعيًا مدى الحياة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط مع تمتيعه بكافة الامتيازات ذات الصلة.
ويعتبر رولان بارث وموريس نادوا وجاك دريدا من أوائل الذين اكتشفوا الخطيبي وتبنوا كتاباته ونشروا له في فرنسا أواخر الستينيات، ويقول رولان بارث في شهادته الموسومة بـ”ما أدين به لعبد الكبير الخطيبي” في مقدمة خاصة لكتاب الخطيبي (الاسم العربي الجريح): “إنني والخطيبي، نهتم بأشياء واحدة، بالصور، والأدلة، والآثار، والحروف، والعلامات. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديدًا، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها يأخذني بعيدًا عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي” (3). ويقول عنه جاك دريدا: «مثلي مثل الكثيرين، أعتبر الخطيبي أحد الكتاب والشعراء والمفكرين المعاصرين العمالقة في اللغة الفرنسية، وأتأسف لكونه لا يُدرَّس بالشكل الذي يستحقه في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية».
تميزت إنتاجاته بالتعدد والتنوع بين الإبداع والدراسة مما جعل «مساره الفكري والأدبي غنيًا جدًا ومتعددًا مما يصعب تصنيف صاحبه في مجال معرفي بعينه. إذن فهو “أجنبي محترف” داخل مجالات معرفية وفكرية بعيدة عن تخصصه وتكوينه الأكاديمي الأصلي، و”أجنبي محترف” أيضًا من خلال اللغة التي يكتب بها وهي اللغة الفرنسية التي ليست لغته الأم»(4).
- رواية “الذاكرة الموشومة”: مشروع التخلص من النزعة الاستعمارية
ذاع صيت عبدالكبير الخطيبي وأصبح اسمه معروفًا في الأوساط الثقافية الفرنسية والمغربية عند إصداره كتابه عن الرواية المغربية عام 1968م، وخصوصا بعد دخوله في سجال فكري مع جون بول سارتر (Jean-Paul Sartre) حول القضية الفلسطينية، واكتسب لقب الكاتب الكبير بعد إصداره روايته السير- ذاتية المعبرة “Lamémoiretatouée” (الذاكرة الموشومة) عام 1971م «وهي تنتمي إلى الأعمال الأدبية ما بعد الكولونيالية، والتي تعنى بدراسة الأثر الذي خلفه الاستعمار على الثقافات والمجتمعات.
ويبقى هدفها الأساسي هو تحليل تمكن الاستعمار من السيطرة على ثقافات العالم الثالث، لهذا فنظرية ما بعد الكولونيالية هي دراسة مختلف التغيرات الثقافية والسياسية والتي تستدعي وعيًا قويًا بالدونية الاجتماعية والنفسية والثقافية التي يخلفها الاستعمار»(5) وتم ترجمتها إلى اللغة العربية ورأت الترجمة الإنكليزية النور في يوليو/تموز 2016 تحت عنوان: «TheTattoed memory» عن دار النشر لارمتان بفرنسا ترجمها المترجم بيتر طومسون (Peter Thompson).
وتعتبر “الذاكرة الموشومة” أول عمل روائي للخطيبي اعتبرها النقاد مشروعًا للتخلص من النزعة الاستعمارية حيث «يرى الخطيبي أن مشروع التخلص من النزعة الاستعمارية (Décolonisation) مشروع ذو تحديات كبيرة يحتاج إلى مزيد من الجهد والمثابرة خاصة على مستوى الفكر.
وهذه العملية تحتاج في نظره إلى تفكيك كل خطاب يسعى بطرق متخفية إلى تعزيز وتشجيع الهيمنة الإمبريالية. وبالتالي فالخطيبي يؤكد على أنه لا زلنا لم نصل إلى هذه المرحلة من الوعي الذي يمكننا من تخليص فكرنا من النزعة الاستعمارية»(6).
والرواية عبارة عن سيرة ذاتية تتطرق إلى مراحل حياة الخطيبي في علاقته بأسرته وما عايشه من أحداث وسط مجتمعه الذي كان خاضعًا للاستعمار الفرنسي في بداية حياته، ومساره التعليمي عبر مراحل دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية. وكذا البوادر الأولى للكتابة والانفتاح على كتابات بودلير والمتنبي وسارتر وجبران خليل جبران والمعري وغيرهم.
ولاقت الرواية عند صدورها انتقادات إيديولوجية من الفرنسيين والعرب والمغاربة المحافظين، لأن الخطيبي انتقد بشدة الاستعمار الفرنسي وآثاره السلبية على المغرب، ولامس بعض الطابوهات وإن كان بشكل عابر ومختصر، كما انتقد الطرق التقليدية للتلقين في الكتاتيب القرآنية التي كانت تعتمد على الحفظ فقط «ورغم كونها سيرة ذاتية أساسًا إلا أنها تتوفر على مقومات فنية وإبداعية غاية في الشاعرية تجعل منها عملاً روائيًا متفردًا»(7).
يشير الناقد المغربي مراد الخطيبي في مؤلفه “عبد الكبير الخطيبي: الأجنبي المحترف” إلى أن هناك عنوان آخر موسوم بـ: (Autobiographie d’un décolonisé) بمعنى أن سيرة ذاتية نال استقلاله، في إشارة إلى استقلال المغرب. وأن هذا العنوان لا يوجد في الترجمة العربية، يوجه القارئ نحو قراءة “الذاكرة الموشومة” باعتبارها رواية ما بعد الكولونيالية، ويقوم بتحليل تجليات “الأنا” أو “الذات” في الرواية من خلال:
– التمثل الثقافي: حيث تمثل الأنا باعتبارها هوية ثقافية، وذلك بسرد بعض التقاليد والعادات الشهيرة في المجتمع المغربي والمشكلة لحضارته، ومنها مناسبتي الولادة والختان بالنسبة للخطيبي وما تحتويان عليه من طقوس اجتماعية وثقافية.
– تمثلات الآخر: يتناول في هذا الجانب “الآخر” والذي يصوره الخطيبي في روايته في عدة صفات من الجانبين السلبي والإيجابي.
1) الجنس باعتباره مصدرًا للقوة والهيمنة: والمتمثل في بحث الجنود الأمريكيين عند دخولهم المدينة عن اللذة الجنسية «ويحيل هذا الأمر إلى حقيقة أن السكان الأصليين تعرفوا على بيوت الدعارة من خلال هذا “الآخر”، وهذا يشير بطريقة مباشرة إلى كون المغاربة في ذلك الوقت كان مجتمعًا محافظًا».
2) الآخر المستعمر باعتباره مثالاً للعنف والبطش: ويبدو من خلال تعرض المغاربة لشتى أنواع التعذيب والتنكيل والقمع والاضطهاد دون سبب من طرف المستعمر وكذا الخوف الذي يثيره في النفوس والمتمثل في تخوف الكاتب من أن تتعرض والدته للاغتصاب.
3) استعمال الكاتب المفرط لمفردات مثل: الاستعمار والمستعمر وفعل استعمر: وهذا الزخم راجع إلى سياق الرواية كلها، والتي تتعامل مع الآخر بصفته مستعمرًا، بمعنى أن “الآخر” ينظر إليه باعتباره ناهبا للخيرات وكاتمًا للحريات.
4) الآخر باعتباره جزء من “الأنا” أو “الذات”: رغم كون الآخر مصدرًا للبطش والعنف إلا أنه «لابد من الاعتراف من أنه يسكن فينا كذات وكـ”أنا” كما يقول الكاتب في الرواية. الآخر أو الغرب ليس كله سيئًا والكاتب صريح عندما يقول إنه “ضد كل غرب وشرق يقهرني أو يقتل فرحي” والغرب الذي يقصده هو الغرب المسالم والغرب كمصدر للفكر والمعرفة بكل ضروبها على غرار سارتر الذي ذكره في سياق الرواية».
ويتجلى هذا أيضًا من خلال اكتشاف الخطيبي للفلسفة كما يشير في روايته حين دشن درسه الأول مع أستاذه الليبرالي المسيحي حتى الصميم في مرحلته الثانوية بمدينة مراكش «ويشكل الآخر أيضًا مصدرًا للمعرفة، وتعتبر الفلسفة من أهم المصادر المشكلة للمشروع الفكري للخطيبي»
5) الآخر باعتباره عنصريًا: حيث يعتبر الآخر في بعض الأحيان متسمًا بالعنصرية المقيتة والنظرة الدونية للأجانب ومنهم المنتمون لدول كانت إلى وقت قريب تحت وطأة الاستعمار الفرنسي.
- المشروع الفكري والثقافي للخطيبي:
تكرس اسم عبدالكبير الخطيبي ثقافيًا وفكريًا في الوسطين الغربي والعربي من خلال أعماله المكتوبة بالفرنسية، والصادرة عن دور نشر فرنسية. وعن دور نشر عربية بعد ترجمة بعضا منها:
1 – مسرحية “وفاة الفنانين” (La mort des artistes) عام 1964.
2 – الذاكرة الموشومة (La mémoire tatouée) عام 1971.
3 – الاسم العربي الجريح (La blessure du nom propre) عام 1974.
4 – القيء الأبيض: الصهيونية والضمير الحزين (Vomito blanco: Le sionisme et la conscience malheureuse ) عام 1974.
5 – كتاب مغاربة، من الحماية إلى 1965 (Écrivains marocains du Protectorat à 1965) عام 1974.)
6 – فن الخط العربي (L’Art calligraphique arabe) عام 1976.
7 – المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية (Le lutteur de classe à la manière taoïste) عام 1976.
8 – الرواية المغاربية (Le roman maghrébin) عام1979.
9 – “كتاب الدم (Le livre du sang) عام 1979.
10 – الرواية المغاربية (Le roman maghrébin) عام 1979.
11 – كتاب الدم (Le livre du sang) عام 1979.
12 – النبي المقنع (Le prophète voilé) عام 1979.
13 – عن الليلة الثالثة والألف (De la mille et troisième nuit) عام 1980.
14 – النقد المزدوج 1982 (Double Critique)
15 – عشق مزدوج اللسان (Amour bilingue) 1983
16 – المغرب في صيغة الجمع (Maghreb pluriel) عام 1983.
17 – الكتاب نفسه (Le même livre) عام 1985.
18 – إهداء للسنة الآتية (Dédicace à l’année qui vient) 1986
19 – صور الأجنبي في الأدب الفرنسي (Figures de l’étranger dans la littérature française) عام 1987.
20 – صيف بستوكهولم (Un été à Stockholm) عام 1990.
21 – تفكير المغرب (Penser le Maghreb) عام 1993.
وكانت آخر إصداراته قبل وفاته “الكتاب وظله”(scribe et son ombre) عام 2008. يقول في تقديمه للكتاب ” خلال إعداد هذا الكتيّب، آمل أن أكون قد ضحّيت بهذا التنوّع المتحرّك لغروري بمجموعة من الخطوط التوجيهية أملتها قوّة الأشياء على حوادث الحياة ولعبة اللغة.
هكذا، كانت هذه المحاولة متوزعة بين السيرة الذاتية، والشهادة، والسرد الثقافي.. أكتب هذا الكتيّب بطلب من صديق متيقظ، اقترح عليّ أن أقدّم للقراء مساري الشخصي كمثقف”. وترجمت أعماله إلى العربية والإنجليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية واليابانية.
- صداقته مع المفكرين والمثقفين:
أتاحت له متابعة دراسته في السوربون لعلم الاجتماع الاطلاع واستيعاب المناهج والنظريات في هذا المجال من منابعه الأصلية، كما أتاحت له صداقاته المتشعبة مع مفكرين ومثقفين الانفتاح أيضًا على الأدب وعلم النفس والفلسفة واللسانيات والسيمائيات «تمثلت هذه الصداقة في إبداعات عبارة عن مراسلات بينه وبين كتاب مفكرين على غرار كتاب “Le même livre” مع المفكر جاك حسون (Jacques Hassoun)، وكتاب “Correspondances” مع الكاتبة غيثة الخياط، ثم كتاب آخر على شكل حوار فكري مع الفيلسوف الأمريكي “صمويل فييبر” (Samuel Weber) تحت عنوان “الطريق نحو الآخر” (Le chemin vers l’’autre) وهناك مؤلفان ساهما بشكل أساسي في تجسيد الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية جمعتا عبدالكبير الخطيبي بصديقه “جاك دريدا”.
الأول أصدره هذا الأخير تحت عنوان “أحادية لغة الآخر” (Monolinguisme de l’autre) والثاني أصدره الخطيبي تحت عنوان “جاك دريدا طبعًا” (Jaques Derrida, en effet)»(8).
تشكلت أواصر الصداقة بين الخطيبي ورولان بارث عبر السنين ابتداء من دراسته الثانوية عبر الاطلاع على مؤلف رولان بارث “درجة الصفر في الكتابة” عن طريق أستاذه “م. فرانسوا” (M.François) بثانوية الليوطي بالدار البيضاء.
وفي المرحلة الجامعية بالسوربون كان المشروع النقدي لرولان بارث، وخاصة في مجال السيمائيات، أهم المراجع في مسار الخطيبي «إلى غاية تثبيت اسمه كباحث متميز تجاوز صيته الحدود الجغرافية، وأصبحت مشاريعه وأعماله الفكرية والنقدية والإبداعية مادة للدراسة والبحث في العديد من الجامعات والمعاهد العربية والدولية»(9).
وعند مناقشة الخطيبي لرسالة الدكتوراه بالسوربون عام 1965 كان رولان بارث عضوا ضمن لجنة المناقشة، وخلال السنة الجامعية1970 /1969 سيلتحق رولان بارث للعمل بجامعة محمد الخامس بالرباط «وكانا يقطنان بنفس العمارة مما جعلهما يلتقيان بشكل دائم، وهذه الفترة كانت فترة متميزة على المستوى الثقافي وحتى السياسي، وكانت الجامعة فضاء يجسد هذا التنوع الثقافي وغناه وقوته وخلقت أجيالاً من المثقفين والكتاب والمفكرين والفلاسفة والأدباء»(10).
- بول باسكون:
امتدت جذور الصداقة الفكرية للخطيبي لتشمل السوسيولوجي بول باسكون (Paul Pascon) الذي سيدشن ضمن أبحاثه مشروعًا مهمًا وضخمًا وصعبًا مع باحثين آخرين من ضمنهم عبدالكبير الخطيبي، ويتجلى هذا المشروع في محاولة تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية(11).
ولد باسكون بمدينة فاس في 13 أبريل1932، وكان يتقن اللغة العربية والأمازيغية إلى جانب اللغة الفرنسية. في عام 1976 فقد ابنيه (نادين) و(جيل) في قلب الصحراء المغربية، وفي عام 1985 كان يقوم بمهمة علمية رفقة زميله الباحث أحمد عريف في موريتانيا فتعرضا لحادثة سير مميتة، فتحسر الخطيبي على فقدانه باعتباره ساهم في تأسيس علم اجتماع ما بعد مرحلة الاستعمار.
كان اهتمام باسكون منصبًا على ما يسمى بالسوسيولوجيا القروية «وكان مسكونًا بالبحث والتحليل لأشد الرموز والظواهر ارباكًا وتعقيدًا، ولم يكن في أي وقت من الأوقات ممارسًا للعطالة السوسيولوجية أو مطمئنًا للمقاربات الكسولة، لقد حرص دومًا وإلى غاية رحيله الملغز والمثير في آن على الانتصار لصوت السوسيولوجيا الميدانية التي تؤسس نظرياتها وتوجهاتها من التفاصيل الدقيقة لتضاريس المشهد المجتمعي»(12).
في سنة 1964 حصل باسكون على الجنسية المغربية، وهي نفس السنة التي عاد فيها الخطيبي إلى المغرب، وسيساهم هذا الأخير إلى جانب باسكون «في مشروع تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية، وأيضًا في تكوين نخبة من الباحثين المتميزين.
ومع تعيين الخطيبي مديرًا لمعهد السوسيولوجيا عام 1966، وهو لا زال شابًا، سيكبر التحدي وسيساهم الباحثان ومعهم باحثون آخرون في تأسيس ورسم معالم البحث السوسيولوجي المغربي»(13) وكذا الاهتمام بمواضيع أخرى تتعلق بالمجتمع المغربي في القرية والمدينة كالتخلف والفساد الإداري وقضايا الشباب همت مختلف طبقات المجتمع «ومن خلال الأبحاث والدراسات التي باشروها، اكتشف الخطيبي وبول باسكون ومعهم كريكوري لازاريف (Grigori Lazarev) أن لمشاريعهم حدود فاصلة لا يمكن تجاوزها، وهذا ما أشار إليه الخطيبي في وجود عائق جوهري يتمثل في مجتمع يعاني من القمع والكبت مما يخلف لديه مقاومة قوية لكل أشكال التحليل والنقد»(14)
بعد الاضطراب المدني الذي شهدته فرنسا في ماي 1968 تأثرت السوسيولوجيا المغربية سلبًا حيث قامت الدولة- كما يحكي الخطيبي- بتشكيل لجنة مهمتها تتبع آثار هذه الأحداث على الجامعة المغربية، هكذا إذن ستصطدم طموحات باسكون والخطيبي المتعدد بقرار سياسي من أعلى سلطة من الدولة المغربية يتمثل في إغلاق معهد السوسيولوجيا عام 1970 (15) ويؤكد الخطيبي في مؤلفه “الكتاب وظله” على أن هذا المعهد كان يضم طلبة هادئين جدًا، ولم يكونوا مهتمين لا بالإضرابات ولا سياسة، كان همهم الوحيد هو احراز شهادة بعد نهاية التكوين.
- الهوامش:
1) “عبد الكبير الخطيبي المحترف الأجنبي” مراد الخطيبي-دراسة نقدية- منشورات سليكي أخوين/طنجة الطبعة الأولى 2017.
2) حوار اجراه المصطفى الرزرازي بجريدة العلم عدد 25/02/1990.
3) “الاسم العربي الجريح” عبدالكبير الخطيبي- ترجمة: محمد بنيس- منشورات الجمل-الطبعة الأولى-2009.
4) “عبدالكبير الخطيبي المحترف الأجنبي” مراد الخطيبي-دراسة نقدية- منشورات سليكي أخوين/طنجة الطبعة الأولى 2017.
5) نفس المصدر السابق.
6) نفس المصدر السابق.
7) نفس المصدر السابق.
8) نفس المصدر السابق.
9) نفس المصدر السابق.
10) نفس المصدر السابق.
11) نفس المصدر السابق.
12) بول باسكون: عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه-عبد الرحيم العطري-الحوار المتمدن/28/02/2006.
13) “عبدالكبير الخطيبي المحترف الأجنبي” مراد الخطيبي-دراسة نقدية- منشورات سليكي أخوين/طنجة الطبعة الأولى 2017.
14) نفس المصدر السابق.
15) نفس المصدر السابق.
مجلة فكر الثقافية