رواد الفكر العربي

“حسين مروة”: المفكر الذي أعاد قراءة التراث العربي بمنهج مادي جدلي

في مشهدٍ فكري عربي متشابك ومشحون بالأيديولوجيات والتجاذبات، يبرز اسم حسين مروة (1908–1987) بوصفه علامة فارقة في الفكر العربي المعاصر. لم يكن مجرّد مثقف يساري أو منظّر ماركسي آخر في فضاء أيديولوجي مألوف، بل كان مشروعا فكريا متكاملا أعاد قراءة التراث الفلسفي العربي الإسلامي من منظور مادي تاريخي، وأحدث انزياحا عميقا في طرق تناول هذا التراث، خاصة في عمله الأهم: «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، الذي غدا منذ صدوره نصا مرجعيا وجدلا مستمرا في الأوساط الفكرية العربية.

  • النشأة والتحوّل: من الفقه إلى الفلسفة

وُلد حسين مروة في قرية حداثا (جنوب لبنان) عام 1908، ونشأ في بيئة دينية تقليدية، فهاجر إلى النجف بالعراق عام 1924 حيث أمضى ما يقرب من 14 عاما في دراسة العلوم الإسلامية ضمن الحوزات الشيعية.

غير أن سنوات التكوين الديني هذه لم تُثنه عن الفضول الفلسفي والنزوع إلى السؤال النقدي، فقد بدأ بالكتابة الأدبية مبكرا، وانفتح على الحداثة الأدبية والفكرية التي كانت تغلي آنذاك في العراق.

كان عام 1948 نقطة مفصلية في مساره الفكري، حين قرأ “البيان الشيوعي” لكارل ماركس، لتبدأ تحوّلاته الأيديولوجية العميقة، التي لم تنفصل عن التزامه السياسي والاجتماعي لاحقا. شارك في انتفاضة الوثبة الوطنية ضد حكومة نوري السعيد، مما أدى إلى نفيه من العراق عام 1949.

  • الالتحاق بالحزب الشيوعي اللبناني والعمل الثقافي

عاد إلى لبنان وانخرط في الحياة الثقافية والصحفية بنشاط كبير، فكتب زاوية يومية بعنوان «مع القافلة» في جريدة الحياة، ثم أصبح مديرا لتحرير مجلة الثقافة الوطنية، قبل أن يُنتخب في عام 1965 عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، ولاحقا في مكتبه السياسي.

شغل مروة أيضا منصب رئيس تحرير مجلة الطريق (1966-1987) وشارك في مجلس تحرير مجلة النهج، وكان منخرطا بعمق في المشاريع الفكرية الكبرى اليسارية، العربية منها والعالمية.

  • النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية: قراءة جدلية للتراث

يُعدّ كتاب «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» (صدر في جزأين بين 1978 و1980) الذروة الفكرية لمشروع مروة، وفيه مارس عملية تفكيك مزدوج:

  1. تفكيك الرواية السلفية التي جعلت من التراث الفلسفي العربي مجرد امتداد للغنوص أو اللاهوت العقلي.
  2. وتفكيك النزعة الاستشراقية التي حصرت الإبداع الفلسفي العربي في النقل أو الشرح على هامش الفلسفة اليونانية.

مروة استخدم المنهج المادي الجدلي لتحليل التيارات الفكرية داخل الحضارة الإسلامية، معتبرا أن الفلسفة العربية الإسلامية لم تكن مجرد انعكاسٍ للعقيدة أو الدين، بل كانت تجلّيا لصراعات طبقية وفكرية وثقافية داخل السياقات التاريخية للمجتمع الإسلامي الوسيط.

وبهذا المعنى، فإن كتابه كان أول محاولة منهجية لرؤية الفكر الفلسفي الإسلامي من الداخل، ولكن بأدوات ماركسية مادية.

وقد شملت دراساته شخصيات من أمثال ابن سينا، الفارابي، الرازي، ابن رشد، إخوان الصفا، ابن خلدون وغيرهم، معتبرا أن في طيات هذا التراث نزعا ماديا كامنا طُمِس لاحقا لصالح الغلبة اللاهوتية.

مروة والجدل الفكري: بين التأييد والنقد

أثار مروة بكتابه سجالات فكرية واسعة:

  • في الأوساط الماركسية: رُحب به كفتحٍ نظري يُعيد وصل الماضي بالحاضر، ويكسر قطيعة التاريخ.
  • في الأوساط الإسلامية والمحافظة: وُوجه بالنقد الحاد، واعتُبر محاولة لتحريف الفلسفة الإسلامية عبر عدسة ماركسية متعسفة.
  • في دوائر الاستشراق والنقد الغربي: اعتُبر نموذجا لنقدٍ عربي ذاتي يجرؤ على خلخلة بنيات المقدس والفكر التقليدي.

الاغتيال: صوت أُسكت برصاص الفكر الأعمى

في 17 فبراير 1987، اغتيل حسين مروة في منزله ببيروت، على يد مجموعة مسلحة، وهو في عمر يقارب الثمانين. لم يُحقق في الجريمة بالشكل الكافي، لكن اغتياله يُعدّ رمزا للصراع العنيف بين الفكر التنويري الحرّ وقوى الظلام والعنف السياسي في العالم العربي.

مؤلفات أخرى بارزة

  • من النجف دخل حياتي ماركس: سيرة فكرية شخصية.
  • الثورة العراقية: دراسة عن الوثبة الوطنية.
  • تراثنا: كيف نعرفه؟: حول إشكاليات المنهج في قراءة التراث.
  • ولدت شيخا وأموت طفلا: نصٌّ تأملي فلسفي وسير ذاتية.
  • دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي: مقالات نقدية أدبية وفكرية.

الأثر والإرث

ما يميّز حسين مروة أنه لم يكن مجرّد “ناقل” للماركسية إلى العالم العربي، بل مُفكر ماركسي تأصيلي قرأ التراث الإسلامي لا لنسفه، بل لفهمه من داخله ضمن مشروع تحرري تقدمي. ترك إرثا معرفيا وفكريا ما زال يُدرس، ويُنتقد، ويُحتفى به، لأن مشروعه بقي مفتوحا وغير مكتمل، كما كل المشاريع الكبرى التي تتحدى الزمن.

خلاصة:

يُعد حسين مروة من أعلام الفكر الفلسفي العربي الحديث، وشكلت أعماله، وعلى رأسها كتاب “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية“، نقلة نوعية في الدراسات التراثية. وبفضل مسيرته الفكرية والسياسية الغنية، فإن مروة لا يزال يُمثل حالة نادرة من التفاعل العميق بين الماركسية والتراث، بين الالتزام الحزبي والإنتاج الفكري، بين الإيمان بالعقل ورفض الاستلاب.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى