ميثولوجيا التوظيف الأسطوري في الشّعر العربي المعاصر
إن التفكير الأسطوري هو حصيلة التجارب الحضارية والإنسانية المتعددة، والوِعاء الفكري الذي فسر فيه الإنسان وجوده وعلاقته بالكون وبالطبيعة. من هنا تكون الأسطورة جوهر تفكير وتأمل طويلين عبر عصور متلاحقة، تختزل مجموعة من الصور الشعرية والتجارب الإنسانية الموسومة بآلاف الخبْرات والسنين، والمرتبطة بالشِّعر منذ الأزل؛ الغربي منه والعربي، القديم منه والحديث. وليس غريبا أن تستمر الأسطورة في شعرنا العربي المعاصر، وأن يعمد الشعراء العرب المعاصرون إلى توظيف الأساطير القديمة؛ الهندية والصينية والإغريقية والبابلية والعربية، المحلية والأجنبية، لما لها من جرأة وآثار في المواقف الثورية، وعمق في التعبير عن التجارب الإنسانية والحضارية.
يُعد توظيف الأساطير في الشعر العربي المعاصر من مواقف التفاعل والمثاقفة مع الشعر الغربي. وقد اتخذ الشعر العربي الحديث من الأسطورة طابعه الأساس، متأثرا بالتجربة الشعرية الغربية، وبتيار بالرومانسية ، متفاعِلا مع مواضيعها وتيماتها، ما أدى إلى اتساعِ الرومانسية العربية والانفتاح على المذهب الرَّمزي الذي ارتاده كل من أديب مظهر، يوسف غصوب، سعيد عقل، إلياس أبو شبكة، بشر فارس، وجبران.
من الشّعراء العرب الحداثيين الذين اهتموا بتوظيف الأسطورة في أشعارهم ؛ بدر شاكر السياب، الذي تسربت الأسطورة إلى تكوينه الشعري والفني والنفسي، فأصبحت توجه نظرته إلى الحياة والكون والإبداع، فجاء شعره رؤية عميقة للوجود تختزل تكوينه الفكري والفني والثقافي الذي استمده من اطلاعه على الشعر الغربي عامة، وعلى المنجز الإليوتي بوجه خاص.
يعتبر السيّاب من الشّعراء الذين انبنى شعرَهم على الطابع الأسطوري. بحيث لا نكاد نجد قصيدة من قصائده تخلو من رمزٍ أو أسطورة، سواء وظفها بطريقة مباشرة عبر ذكرها أو ذكر أسمائها وسماتها كما في قصيدته “سربروس في بابل” و”تموز جيكور”، أو بطريقة غير مباشرة عبر الإيماء والإيحاء كما في “أنشودة المَطر”، على نحوٍ يكشِفُ أنَّ الأسطُورة عند السيَّاب أصبحت وسيلة من وسائل الأداء الشعري لديه، ومنهجا لإدراك الواقع، والتعبير عن قضاياه.
يرى أحمد فتوح أن الرَّمز الأسطوري عند السياب مَرَّ بمرحلتين أساسيتين: الأول؛ يسميها المرحلة الأسطورية الموضوعية، كانت الأسطورة فيها تعبيرا عن واقع حضاري، وتتردد فيها أسماء بابل، تموز، عشتار، آتيس، وأدونيس. وكلها رموز عن البعث من خلال التضحية والفداء. أما المرحلة الثانية؛ فيسمها المرحلة الأسطورية الذاتية، وكانت هذه المرحلة تعبيرا عن ألم ذاتي، ألهبه المرض الطويل والغربة والحرمان. وتتردّد فيها الأسماء الأسطُورية التالية: أوديسيوس، والسندباد، والمسيح، وأليعازر، وأيوب1.
نجد “السندباد” من أشهر الرموز التي تعامل معها السياب. والسندباد هو تلك الشخصية المعروفة في تراثنا الشعبي، وهو تاجر يجوب البحار والبلدان بحثا عن الطرائف والأموال، ويتعرض من خلال رحلاته لمواقف خطيرة ومآزق حرجة لا يخرج منها إلا بعد عناء ومغامرة. فهو شخصية غير عادية وعادية في الوقت نفسه… وكون السندباد عاديا وغير عادي في الوقت نفسه، هو الذي جعله شخصية رمزية تعبر عن تجربة الشاعر الخاصة كما تعبر في الوقت نفسه عن التجربة الإنسانية العامة، وتحمل في السياق الشعري ملامح الشخصي والعام، والفردي والجماعي1.
نسوق مثالا على ما ذكرنا، قصيدة “رحل النهار” للسياب التي جعلت من رمز السندباد موقفا شعوريا ينسجم والتجربة الشعرية للشاعر. يقول السياب:
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هو لن يعود
أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار3.
لعل الاهتمام بتوظيف الرموز والإشارات والأساطير يرجع إلى المثاقفة مع الشعر الإنجليزي، وما أتاحه المنجز الإليوتي من هامش للسفر بالقصيدة إلى حدود أبعد. وإن كان الشعراء -قديما- فطنوا لهذه التحققات الجديدة، فاستعملوا الكنايات والاستعارات والتشبيهات محاولة لخلق الصور الفنية والبيانية التي تعتبر سرّ الإبداع الشعري، إضافة إلى ما استعمل في الشعر القديم من رموز سياسية وأدبية وفلسفية وصوفية. فنجد الرمز قد وجد مع ميلاد الشعر، وجاء ليعوض الحالات الوجدانية التي لا يستطيع الشاعر التعبير عنها، لأن التجربة الشعرية تفوق التجربة اللغوية، فيلجأ الشاعر إلى إبداع صور أخرى هي الصور القائمة على الرمز. فالتجربة الشعرية تحمل معاني مركبة لها عدة أوجه والرمز هو الذي يعبر عما يتعداه أو يتعدد معناه، والشعر العربي معروف برمزيته، فالشعر الجاهلي نستطيع قراءته قراءة رمزية فالطلل رمز و المرأة رمز … حيث إن الصورة الشعرية “لا تقوم على المشابهة دائما فقد تقوم عليها وقد تقوم على غيرها، أي أن أسسها تنبني على المجاز والتشبيه والاستعارة، وقد تتجاوز إلى أسس أخرى تحتل فيها عناصر الرموز مكانتها، وعناصر الرموز – كما نعلم- تعكس ألوانا معقدة من العلاقات التي تتخطى المشابهة في جميع أنواعها”4.
وعليه فإن الرمز بشتى صوره البلاغية والإيحائية تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للتأثير ولخلق جماليات في نص القصيدة. فإذا استُعمل الرمز بشكل جمالي منسجم مع العناصر المكونة للقصيدة من بيان وبديع وأسلوب… فإنه يُسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة ويعمق دلالاتها ويزيد من قدرتها على التأثير في المتلقي. فالرمز الشعري “هو الذي يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص، وهو إيحاء ومعنى خفي. هو اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، فهو القصيدة التي تتكون في وعي القارئ بعد قراءة القصيدة، وهو البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له”.5
فالشاعر يوظف الرمز دلالة على عمق ثقافته وسعة اطلاعه وخبرته. “فلا بد للشاعر الذي يرغب في توظيف الرمز في شعره من ثقافة وتجربة واسعة لأن الرمز مرتبط ارتباطاً مباشرا بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر والتي تمنح الأشياء مغزى خاصاً”.6 بمعنى أن الرمز عنصر تعبيري ناتج ومرتبط بالتجربة الذاتية للشاعر، إذ هذه الأخيرة هي التي تتحكم في المعنى الذي يكتسبه الرمز داخل نسق القصيدة.
فقد يكون الرمز من اختيار واختراع الشاعر يتصل بخياله وإحساسه، وثقافته كما يتصل بطبيعة الموضوع الذي يريد التعبير عنه. فإذا “كان الرمز في الأدب الغربي حبيس مدلول واحد، فإن شعرنا المعاصر حفل بتنوع الرموز للشيء الواحد”7. وعمد الشعراء إلى استخدام أنواع وأشكال مختلفة من الرموز ومن بينها:
الرمز التراثي: هو أن يستوحي ما في بيئته من تراث ثقافي محلي أو إنساني كوني من وقائع وأحداث، حيث يفهمها و يصوغها في صور تجمع بين التعبيري والفني. فالتعامل مع التراث يتمثل في هضمه جيدا، وصياغته مرة أخرى في صورة فنية تستشرق آفاق المستقبل وهي تسلط عينا يقضى على الواقع وعينا فاحصة على التراث.
الرمز الفني: تصبح فيه القصيدة ذات آفاق فنية متعددة متفتحة تتحول مفردات لغتها إلى كائنات فنية تتعامل من خلال إيحاءات نفسية، واقعية ووجدانية…إلخ.
الرمز التاريخي: لجأ العديد من الشعراء المعاصرين إلى التاريخ، واستمدوا منه كثيراً من الشخصيات والأحداث التي وظفوها في أشعارهم للتعبير عن مواقفهم بشكل غير صريح أو لتعويض نقائص عصره، حيث “اتخذ الشاعر من هذه الشخصيات أقنعة معينة، ليعبر عن موقف يريده، أو ليحاكي نقائص العصر الحديث من خلالها”.8
الرمز الديني: ويعنى به تلك الرموز المستقاة من الكتب السماوية الثلاثة؛ القرآن، الإنجيل والتوراة.
ولعَل تيَّارات “التَّـناص الأسطوري” التي تنتمي إلى التيار التقليدي الحداثي السائد في الخطاب الشعري العربي، كانت تعتمد سِمطا مركزيا وهو الأسطورة التي استخدمها إليوت وفق نظريته في “المعادل الموضوعي”. وعبر هذا التقليد والتفاعل مع النتاج الشعري الإليوتي وما يزخر به من رموز وأساطير، سعى الشاعر العربي الحديث إلى توظيف مجموعة من الأساطير التي سعى من خلالها إلى سَدِّ الثَّغرة التي تفصل بين عالم الخراب والعالم الذي يرسمه الشاعر ويتمناه. لذلك نجد السياب يوظف مجموعة من الرموز والأساطير التي تخلقُ تناصّا أسطوريا في شعره، تعكس تفاعله مع التجربة الإليوتية واستيعابه لها.
من الأساطير البابلية التي نجدها حاضرة في شعر السياب أسطورة “تموز” أو “أدونيس” التي ترمز إلى الانتعاش الحضاري والحياة، والتي وظفها مجموعة من الشعراء المعاصرين الذين سُموا بالشعراء “التموزيين”. وتعد هذه الأسطورة في التراث العربي تعبيرا يقينيا عن عودة الخصب والخير، ويكشف توظيفها عند السياب أنه متردد في الإيمان بالبعث العربي- في بعض مراحله، شاك في القدرة على تغلب “تموز” المعاصر في نفض أكفان الموت، والانتصار على كل عوامل الإفناء الداخلي والخارجي.. فكان أن تحرك السياب –داخل الأسطورة- بما يتيح له أن يعبر عن هذا المضمون الجديد، يقول:
ناب الخنزير يشق يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفق، ينساب
لم يغد شقائق أو قمحا
لكن ملحا
عشتار وتخفق أثواب
وترف حيالي أعشاب
من نعل يخفق كالبرق
كالبرق الخلب ينساب
لو يومض في عرقي
نور فيضئ لي الدنيا
لو أنهض، لو أحيا
لو أسقى، آه لو أسقى
لو أن عروقي أعناب
وتقبل ثغري عشتار
فكأن على فمها ظلمة
تنثال علي وتنطبق
فيموت بعيني الألق9.
فيتحول دم “تموز” الجديد إلى ملح قاحل لا نبت فيه، بينما تحول دم تموز الأسطورة إلى شقائق النعمان، وغدت “عشتار” الآلهة ذات الكيان النوراني، وصاحبة الأنفاس التي تهب الحياة -وهنا مزج بين شخصيتي “عشتار” و”إيزيس” التي أنبتت الحياة وإرادة الخصب في جسد “أوزيريس”، وحملت منه بهذه الطريقة- لا تقدر على منح الحياة ولا على بث النور في ظلمة اللحد المبهمة، بل تنثال الظلمة من فيها طبقة إثر طبقة، دون أن تترك ثغرة للرجاء في أفق تموز. وقد وصل إحسان عباس من ذلك إلى أن السياب كان يؤمن بالبعث حين يحس بالتفاؤل، وأنه في هذه القصيدة ينكر البعث كله، لأنه اختار العدم والراحة الأبدية لنفسه ولجيكور، التي كانت ترمز إلى كل ما يحبه على الأرض10.
إيمان السياب بالبعث بعد الموت قوة تحرك الشاعر، وعندما يتعلق الأمر ب”جيكور” قرية الشاعر، ورمز الوطن، وكينونة الذات بطهرها وبراءتها، تصبح القصيدة كناية عن دفقة البعث، وأمل التفاؤل، وعودة الخصب والنماء.
يقول السياب:
جيكور … ستولد جيكور
النور سيورق والنور
جيكور ستولد من جرحي
من غصة موتي، من ناري
سيفيض البيدر بالقمح
والجرن سيضحك للصبح
والقرية دارا عن دار تتماوج أنغاما حلوة.11
هذا الإيمان بالبعث بعد الموت الذي يحرك دفقة الشاعر الشعورية نَفَس إليوتي حاضر عند إليوت بقوة، تفاعل معه السياب عن طريق توظيف الرموز والأساطير التي تشي بالبعث والحياة من جديد، إلى درجة أصبح هذا التفاعل جزءا من عملية تناص مألوف، ينهل من أساطير عُليا ذات علاقة بالشعور الجماعي، كأساطير الخصب والولادة والموت والبعث، التي ستؤثر فيما بعد في العديد من الشعراء المعاصرين للسياب؛ كالخال وحاوي وأدونيس وعبدالصبور وجبرا …الذين أطلق على مرحلتهم بـ “بالمرحلة التموزية” نسبة إلى أسطورة تموز والبعث. هذا المرحلة التي أفادت من الأساطير الشرقية التي أولى “الغصن الذهبي” لجيمس فريزر اهتماما خاصا بها.
ويدرج نذير العظمة، في دراسة حول “الحركة التموزية وأثر إليوت على بدر شاكر السياب”، مصادر أساسية لهذه الحركة: الأول هو النقلة التي حدثت من الدين إلى القومية في الحياة السياسية للمرحلة، وتحديدا إلى تراث ما قبل الإسلام الذي اعتبر جزءا من تراث المنطقة. وهكذا أصبح العديد من الآلهة والإلهات كبعل، إله الخصب والقوة، وعشتار نظير أفروديت، وتموز نظير أدونيس في الميثولوجيا اليونانية، وثيق الصلة بالجانب الروحي والثقافي في النهضة العربية. وقد أصبحت هذه الأجهزة الأسطورية، أو الميثولوجيا الشرق-أوسطية، بالنسبة إلى الشعراء الحداثيين، رموزا أساسية للحياة والموت في لغة وصور الشاعر الحديث. وأما القصص الذي ينطوي على صلة مباشرة بالتراث المسيحي والعبراني، فقد شكل المصدر الثاني من مصادر الحركة التموزية. وأما المصدر الثالث، فيتصل بالاستراتيجيات النصية، أي بالإيديولوجيا والتقنية معا، فتمثل في الشعر الإنجليزي، خصوصا شعر ونقد ت.س. إليوت وإديت سيتويل.
هذه المصادر الثلاثة المتباينة: الميثولوجيا القديمة في الشرق الأوسط، والشخصيات في القصص الثوراتي والإنجيلي والقرآني، والشعر الإنجليزي، لم تلبث أن تحكمت بمسار تطور الشعر العربي الحديث عموما، والحركة التنويرية التموزية على وجه خاص12 .
وتعد قصيدة “أنشودة المطر” للسياب من القصائد التي تستحضر أسطورة “تموز”، لكن بطريقة غير مباشرة وبنوع من الإحجام دون تصريح مباشر بالأسطورة، إشارة إلى الخصب وإعادة الحياة إلى الأرض بعد موتها.
يقول السياب:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء … كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ 13.
يفتتح السياب قصيدته “أنشودة المطر” مخاطبا امرأة أسطورية العينين، وكأن افتتاحه مقدمة غزلية، لا يصرح فيها باسم محبوبته، ولكنه يجعل لها أوصافا ونعوتا تشي بهويتها، فيجعل عينيها غابتي نخيل، فتصبح إشارة صريحة للأرض بشكل عام وأرض العراق بشكل خاص؛ وطن الشاعر الذي يتجسد في عيني هذه المرأة الأسطورية. ويمكن القول أن هذه المرأة هي الإلهة عشتار ، إلهة الخصب، فتكون مقطوعة المقدمة وقفة إجلال وابتهال أمام هذه الإلهة الوثنية التي يشع الخصب والجمال من عينيها، وهي الفصول في تحولاتها، وهي الحياة والموت، وهي العناصر المختلفة: نجوم، عصافير، شجر. إنها حركتها المتجددة الدائمة.14 وقد تكون هذه الحبيبة هي وطن الشاعر الذي عاش مرحلة من الموت الحضاري، والذي يتمنى السياب أن تعود إليه الحياة وينبعث من جديد.
هذه الفكرة _الإيمان بالبعث_ هي فكرة استمدها السياب من إليوت في قصيدته “الأرض اليباب”، والتي ينطلق فيها إليوت من فرضية أن العالم تحول غداة الحرب العالمية الأولى إلى أرض خراب ميتة، وأن أمل الشاعر أن يعود الخصب والنماء إلى الأرض. واستمد إليوت هذه الرؤية الشعرية الأسطورية من طقوس الخصوبة والنماء عند شعوب الشرق القديم عبر اطلاعه على كتاب “الغصن الذهبي” لجيمس فريزر، التي سينتقل فيما بعد إلى النسق العربي من خلال الترجمة التي قدمها جبرا إبراهيم جبرا للجزء المخصص لـ “لأدونيس” منه.
ومن الأساطير اليونانية التي نجدها حاضرة في شعر السياب أيضا، أسطورة “سربروس”. وهي الأسطورة التي تحكي قصة الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية.
يقول السياب في قصيدته “سربروس في بابل”:
ليعوِ، سربروس في الدروب
في بابل الحزينة المهدمة
ويملأ الفضاء زمزمه،
يمزق الصغار بالنيوب، يقضم العظام
ويشرب القلوب…
يرمز “سربروس” في القصيدة إلى حاكم العراق مدينة الشاعر، وبابل هنا رمز للعراق. وسربروس الأسطورة اليونانية هي رمز للغوغائية والفقر والفناء وانتشار الاستبداد والدمار في العراق. ونتيجة اليأس الذي عم بلاد الشاعر، نجده يخاطب “أدونيس” إله الخير والخصب قائلا:
أهذا أدونيس، هذا الخواء؟
وهذا الشحوب، وهذا الجفاف؟
أهذا أدونيس؟ أين الضياء؟
وأين القطاف؟
مناجل لا تحصد،
أزاهر لا تعقد،
مزارع سوداء من غير ماء
…
أدونيس، يا لاندحار البطولة،
لقد حطم الموت فيك الرجاء
وأقبلت بالنظرة الزائغة
وبالقبضة الفارغة:
الموت في الشوارع،
والعقم في المزارع
وكل ما نحبه يموت.15
الشاعر هنا يستغرب من “أدونيس” إله الخير والخصب، ويتساءل عن هذا اليأس والجفاف الذي حل بالعراق، الأرض الموات، ويتحسر لاندحار البطولة وتحطم الرجاء وعقم المزارع. ولا يبقى أمام الشاعر هنا إلا الإيمان بعودة الخصب والحياة والانبعاث من جديد، وهي مرحلة الفجر و الربيع والميلاد في شعر السياب، و تدور حولها أساطير ميلاد البطل، و انهزام قوى الظلام و الشتاء و الموت.
تظهر هذه المرحلة في شعر السيّاب في حالات الفرح و التفاؤل بالمستقبل، واندحار قوى سياسية يراها السيّاب ظالمة غاشمة، فالسيّاب كان يكره عبد الكريم قاسم، و بعد الانقلاب الذي حدث في العراق سنة 1963والذي أجهز على حكم قاسم، و جاء بعبد السلام عارف إلى الحكم، تفاءل السيّاب بالحكم الجديد ورآه بمثابة الدواء لجسده، فكتب قصيدة بعنوان “إلى العراق الثائر” في “مستشفى سان ماري” بلندن، يصف فيها حساسياته السياسية تجاه الحكم المستبد، و يجسّد فيها جميع آماله في انبعاث حضاري جديد، عبر خطاب إيديولوجي يمجّدُ فيه الجيشّ الثائر على عبد الكريم قاسم، و يراه جيشاً للثورة العربية.
يقول في القصيدة:
عملاء “قاسم” يطلقون النار، آه، على الربيع
سيذوب ما جمعوه من مال حرام كالجليد
ليعود ماء منه تطفح آلّ ساقية، يُعيد
ألقَ الحياة إلى الغصون اليابسات فتستعيد
…
مرحى لجيشِ الأمةِ العربية انتزعَ الوثاق !
يا إخوتي بالّله، بالدم، بالعروبة، بالرجاء،
هُبّوا فقد صُرِعَ الطغاةُ و بدّد الّليْلَ الضياء !
فلتحرسوها ثورةً عربيّةً صُعِقَ “الرِّفاق”
منها وخرّ الظالمون،
لأن “تموز” استفاق
من بعدِ ما سرق العميل سناه، فانبعثَ العراقْ.16
يُلاحَظ في القصيدة انبعاث الرمز الأسطوري “تموز” ليشير إلى انبعاث مرحلة جديدة مشرقة في تاريخ العراق، كما يرى السيّاب. وانبعاث هذا الرمز مرتبط بمرحلة قادمة يراها السيّاب ربيعاً وميلاداً للعراق الناهض الجديد.
تعتبر أسطورة السندباد من الأساطير التي نجدها حاضرة هي الأخرى في شعر السياب، والأسطورة ترمز لمن رحل من دياره ويتمنى العودة بالانتعاش والحياة والأمل. ومن القصائد التي يحضر فيها رمز السندباد، قصيدة “مدينة السندباد”، يقول فيها الشاعر:
جوعان في القبر بلا غداء
عريان في الثلج بلا رداء
صرخت في الشتاء:
أقض يا مطر
مضاجع العظام والثلوج والهباء
مضاجع الحجر،
وأنبت البذور لتفتّح الزهر
وأحرق البيادر العقيم بالبروق.
يصور الشاعر مظاهر الفقر والمجاعة والقحط التي حلت بمدينة (السندباد)، ويتمنى أن يسافر السندباد في مغامراته ليشرق الأمل وتعود الحياة وتتفتح الزهور وتنتعش البيادر ، ويعود الخصب والأمل.
إن البؤس الاجتماعي الذي عانى منه السياب، والآلام الروحية والنفسية التي كابدها، وفقدانه لأمه وهو في السادسة من عمره، وهجر أبيه له وتزوجه امرأة أخرى أبعدته عنه، وفشله في تجاربه العاطفية وعلاقاته الزوجية، كلها عوامل أسهمت في غنى تجربة الشاعر وأضفت عليها طابع الصدق والواقعية، وزاد من غنى تجربته اطلاعه على الأدب الغربي وتأثره بمجموعة من الأدباء الغربيين أمثال: شكسبير، ملتون، سيتويل، وإليوت الذي أثر بشكل كبير في مساره الشعري، وتعرف من خلاله على معاني الموت والبعث والحياة…ما رسخ البعد الأسطوري في شعره، الذي يؤمن صدقا بعودة الخصب والنماء والحياة بعد يباب وجفاف وموت طالما كان يعتربها السياب مخاضا لميلاد جديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
1- محمد أحمد فتوح، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، دار المعارف، مصر، 1978، ص: 278.
2- محمد عزام، بنية الشعر الجديد، د.ت ، ص: 144-145.
3- بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية الكاملة، م.سابق، ص: 229.
4- علي البطل، الصورة في الشعر العربي حتى منتصف القرن الثالث هجري، د،ت، ص:77.
5- محمد عزام، المرجع السابق، ص: 142.
6- عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الثقافة، بيروت، 1972، ص: 169.
7- صابر عبد الدايم، التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث، د،ت، ص: 40.
8- محمد أحمد فتوح، المرجع السابق، ص: 185-201 .
9- أنشودة المطر –تموز جيكور- ص: 99. نقلا عن أنس داود ،المرجع السابق، ص: 277-278.
10- إحسان عباس، بدر شاكر السياب-دراسة في حياته وشعره، ص: 320.
11- بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية الكاملة، ص: 131.
12- خلدون الشمعة، المرجع السابق، ص: 10.
13- بدر شاكر السياب، أنشودة المطر، ص: 474.
14- إلياس خوري، دراسات في نقد الشعر، دار ابن رشد، بيروت، الطبعة الأولى، 1979، ص: 34.
15- بدر شاكر السياب، المرجع السابق، ص: 466.
16- بدر شاكر السياب، منزل الأقنان، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة1، 1963، ص: 310-311