من أعاجيب أهلِ العراق
ومن أعاجيب أهلِ مَرْوٍ؛ ما سمعناه على وجه الدهر. وذلك أن رجلاً من أهل مروٍ، كان لا يزال يحج ويتاجر وينزل على رجل من أهل العراق فيُـكرمه ويكفيه مؤونته، ثم كان كثيراً ما يقول لذلك العراقي ليتَ أنِّي قد رأيتُـك بمروٍ، حتى أكافِـئـكَ لقديم إحسانك وما تُجدد لي من البر في كل ما قدمته لي، فأما هاهنا؛ فقد أغناك الله عني.
فعرَضَتْ لذلك العراقي بعد دهرٍ حاجةٌ في تلك الناحية، فكان مما هون عليه مكابدة السفر ووحشة الاغتراب؛ مكانَ صديقهِ هناك. فلما قدِمَ، مضى نحوه في ثياب سفرِهِ وعمامتِه وقلنسوتِه وكسائِه ليَحُطَّ رحْلَهُ عنده.
كما يصنع الرجل بثقته وموضع أنسه، فلما وجدَه قاعداً مع أصحابه، أكب عليه وعانقه؛ فلم يره أبدى اهتما ولا سأل به سؤال من رآه قط. قال العراقي في نفسِه: لعل إنكاره إيايَ لِمكان القناع؛ فرمى قناعه، وابتدأ مُساءلته، فكان له أنكر من الأولى.
فقال: لعله أن يكون إنما أوتيَ من قِبل العمامة، فنزعها ثم انتسب وجدَّدَ مساءلته، فوجده أشد ما كان إنكاراً. قال: فلَـعَـلَّـهُ إنما أوتيَ من قبل القلنسوة، عندها علم المَرْوَزِيُّ أنه لم يبقَ شيءٌ يتعلق به المتغافل والمتجاهل فقال له: والله لو خلعتَ جميعَ ملابسِكَ وخرجت مِن جلدِك لــم أعرفك.
من كتاب “البخلاء” لـأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.