يرفع «شيُوران» كثيراً من قَدْر المترجمين حين يكتب: «المترجمون الذين تسنّى لي التعرُّفُ إليهم كانوا أكثرَ ذكاءً وأكثرَ إثارةً للاهتمام من المؤلِّفين الذين ترجموا لهم؛ ذلك أنه، عند الترجمة، يلزم إعمالُ الفكر أكثرَ مما عليه الأمر عند «الإبداع».
هل مَرَدّ ذلك لكون المبدع يتعامل- بالأساس- مع لغته، بينما يتعامل المترجم- حتماً- مع لغته ومع لغة أجنبية: يوازن بينهما، ويزن كلتيهما بالنظر إلى الأخرى؟
لكن، أحقّاً: يتعامل المبدع مع لغة واحدة؟ كلّ مَنْ جَرَّب الكتابة يعرف الجواب، بل- ربّما- حتى من يمارس القراءة، فالقارئ كذلك، شأنه في ذلك شأن المترجم. يحضرني هنا قول لـ«مُونْتيني»: «أيّاً كانت اللغة التي تتكلّمها كتبي، فأنا أُكلِّمها بلغتي».
يحدث هذا، بصفة جلِيّة، حين تكون لغة الكتب التي نطالعها أجنبية، بصفة أو بأخرى. قراءتنا، في هذه الحالة، ترجمة واعية أو غير واعية بذاتها، نتلقّى النصّ المنتمي إلى لغة أخرى في لغتنا، نستقبله في أدبنا، ومأوانا المعتاد.
حينئذ نقوم- بالضرورة- بعمليّة وزن؛ نزن اللسان الأجنبي بلساننا الأصلي. وبالفعل، تتبادر إلى الذهن، عند الكلام عن الترجمة، صورة الميزان وما تحمله من معان وإيماءات.
المترجم وازن بالضرورة، لا ينفكّ ينظر إلى كَـفّتَي الميزان، ينقِّل بصره من هذه إلى تلك؛ وإلى هذا المعنى يرمي عنوان هذا المقال، وما يتضمّنه من إيحاءات لعناوين، لا شكّ أنها تخطر في بال القارئ العربي، وفي مقدّمتها «ميزان العمل» للغزالي،
وأيضاً، وارتباطاً بالعدالة، «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» للذهبي، وهو يندرج ضمن ما يُسَمّى «علم الجرح والتعديل»؛ علم يُنَقّب عن أحوال رواة الحديث النبوي، ويتفحّص عدالتهم وأمانتهم، ويحكم: إلى أيّ حَدّ يجوز قبول روايتهم؟و وقد قام ابن حَجَر العَسقَلاني بتلخيصه في كتاب سَمّاه «لسان الميزان».
ككلّ وازن يكون المترجم محلّ ريبة ومراقبة، تحوم حوله الشُّبُهات. فبما أنه ذو لسانين، ويُعَدّ ذا وجهين وولاءين، فيُتَّهم بعدم تأدية الكلام كما ينبغي، «على الوجه الصحيح».
عمله معرَّض للشكّ والنقد، لمناقشة لا تنتهي، لاستئناف الحكم، لإعادة الوزن والتدقيق فيه. وهنا يمكن الرجوع إلى «شيُوران» حين قال إن المترجمَ أكثرُ إعمالاً للفكر، ذلك أن له حاجزاً يمنعه من التهوُّر، بل وازعاً أخلاقياً، فهو مقيَّد بالنصّ الأصلي، يتحرَّك، جنباً إلى جنب، معه.
أما «المبدع» فلا أحد يلومه على انحرافه عن النصوص التي يتعامل معها، بل إن تهوُّره وطيشه قد يُحمَدان، فيُغفر له هذيانه وجنونه، ويُتسامح مع شطحاته، بينما لا تَساهلَ مع مترجم مجنون، ولا صَفْح عنه.
وشعوراً منه بذلك، قد يلجأ- دليلاً على حسن نيته وتبرئة لذمّته- إلى إرفاق نصّه بالنصّ الأصلي، في سعي منه إلى تبرير اختياره وتثبيت مسلكه، ولسان حاله يقول: إن لم تصدِّقوني فانظروا بأنفسكم. وهذا ما يفسِّر ظاهرة المنشورات مزدوجة اللغة، حيث يتمّ إدراج النصّ الأصلي بوصفه ضمانة وكفالة، تسويغاً لمشروعية الترجمة.
تفتح الكتاب فتجد الترجمة على صفحة، والنصّ الأصلي في الصفحة المقابلة، وهكذا، يُصمَّم الكتاب لكي يقرأ مَرّة واحدة باللغتين، صورة لميزان بكفّتَيْه، وإذا بالقارئ وازناً بالقوّة، تقع على عاتقه، في نهاية الأمر، مسؤولية القيام بالوزن. فكأن المترجم يتملّص منها، ويلقي بها إلى القارئ، مفوِّضاً الأمر وتاركاً له القول الفصل.
يشير وجود النشر المزدوج إلى الفشل المبدئي للترجمة، أو- إن شئنا- إلى جَوْرِها، وعدمِ تمكُّن المترجم من أن يكون عدلاً منصفاً. يسعى النشر المزدوج جاهداً إلى إصلاح الخَلَـل المحتمل وتقديم فرصة فورية لتصحيحه.
النصّ الأصلي حارس متربِّص، يبدو ساكناً، ولكنه على أهبة الانتفاض والانقضاض والاعتراض. يظلّ حاضراً على الدوام، حتى وإن كان غائباً، فلا يسع المترجم، والحالة هذه، إلا أن يكون متردِّداً متأرجحاً، كالبهلوان على الحبل، يوازن خطواته بِعَصا طويلة «BALANCIER»، كلمة تُتَرجَم بـ«ميزان البهلوان».
و«ميزان البهلوان» يعود بنا إلى عنوان الكتاب الذي أشرت إليه فيما قبل، «لسان الميزان»، عبارة تشير إلى الإبرة، إلى قطعة المعدن التي تكون في وسط الميزان بين كفّتَيه. لسان الميزان… ما أبلغ هذه العبارة! وما أجملها!