الجامعات العربية تفتقد إلى مواصفات الجامعة العصرية
يعد البحث العلمي وظيفة أساسية من وظائف الجامعات، فعلى الرغم من أن الجامعات سواء في الشرق أو في الغرب أنشئت في البداية للتدريس وليس للبحث العلمي، إلا أنه في منتصف القرن التاسع عشر حدث تحول في وظائف الجامعة فقد انتقل التركيز من وظيفة التدريس إلى التركيز على وظيفة البحث، كونه يمثل الأداة الرئيسية لإنتاج وتطوير المعرفة.
تحرص بعض الدول الأجنبية على إيجاد جو للتعاون بين البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات الإنتاجية من خلال إنشاء العديد من المراكز البحثية المشتركة بين أساتذة الجامعة ورجال الصناعة والأعمال. كما تهتم جامعات هذه الدول بإجراء البحوث التطبيقية نظرا لارتباط شهرة أي كلية جامعية بالأبحاث التي تنشرها هيئتها التدريسية.
وتمثل هذه الأبحاث عنصرا هاما وحيويا في حياتها كمؤسسة تعليمية أو علمية أو فكرية، مثلما تعتبر من أهم المقاييس المتداولة لتقويم الدور الريادي في المجالين العلمي والمعرفي للكلية ولأعضاء هيئة التدريس، وكذلك لسمعة الجامعة دوليا.
ويمثّل تصنيف الجامعات أهمية بالغة لكونه يعطي الجامعة مؤشّراً على موقعها بين الجامعات العالمية وفقاً للمعايير التي بُنيت عليها هذه التصنيفات. ولقد سعت الجامعات العالمية سعياً حثيثاً إلى تأمين المتطلّبات اللازمة للتوافق مع هذه المعايير التصنيفيّة للجامعات العالمية في سبيل تحسين بيئاتها التعليميّة.
وتمكين طلّابها من الإجادة في مجالات العمل المختلفة والمسابقات العلمية الدولية، وتحسين أداء أعضاء هيئاتها التدريسية في التعليم والبحوث العلمية، وتقديم الاستشارات وخدمة المجتمع، وإبراز إنجازاتها العلمية من خلال نشر بحوثها في المجلّات والدوريات العلمية الرصينة، وحصد الجوائز العلمية وغيرها، لجذب الكثير من الاستثمارات التي من شأنها دعم أنشطتها العلمية واستقطاب أفضل الطلبة للالتحاق ببرامجها بوصفها مراكز إشعاع فكري وعلمي متميزة.
ويشكل البحث العلمي في الجامعات الرصينة دعامة أساسية في تطوير البنى الصناعية والاقتصادية للدول، وفي تفجير الثورات الصناعية والتكنولوجية والمعلوماتيّة، وخلق بيئات للإبداع، وفُتحت الجسور مع الشركات والمؤسسات تلاقحيّا، وهذا ما كان ليحدث لولا وجود مراكز بحوث داخل الجامعات كخزانات تفكير للجامعة والمجتمع، وتأكيد لذاكرة المجتمع الحضارية، ودعم لصناع القرار بالمعلومات، واستشراف لآفاق المستقبل علميا ومعرفيا.
الجامعات العربية ما زالت تفتقد إلى مواصفات الجامعة العصرية وديناميكياتها وأساليبها الحديثة في التعليم والإبداع
وما ساعد على عصرنة الجامعة هو الثورة الكبيرة في تقنيات المعلومات التي أدت إلى اختراع أنماط جديدة من الجامعات والتخصصات والبحوث، فنحن اليوم أمام نمط جديد للجامعة الرقمية، وجامعة المستقبل، وجامعات بلا أساتذة وبلا كتب، وجامعات عولمية لا ترتبط بالمكان والزمان وإنما بشبكة عنكبوتية!
في الجانب الآخر لا تزال الجامعات العربية تفتقد إلى الكثير من مواصفات الجامعة العصرية وديناميكياتها وأساليبها الحديثة في التعليم والتعلم والإبداع، وتفتقر إلى رؤية قابلة للتطبيق في مجال التعليم والبحث العلمي والاختراع، مع فقدانها روح البحث العلمي واختفاء المراكز البحثية فيها، مما ساعد على تقويض نظام التعليم برمته، إذ أن نظاما تعليميا لا يتوقع من أساتذته الجامعيين أن يكونوا علماء وباحثين لا ينتج سوى خريجي جامعات من الطراز التقليدي.
وعجزت الجامعات العربية عن أداء دورها بوصفها نظام إنذار مبكر لتنبيه المجتمع والحكومات، لأنها لم تزود أساتذتها وطلبتها بالوسائل ليكونوا مبدعين، بل عزلوا عن الاقتصاد وهم تحت رحمة الموظفين البيروقراطيين والمعينين، لأسباب سياسية، أو بيروقراطية، حيث لا يديرهم أساتذة وباحثون ذوو مكانة علمية مشهودة.
ويمثل البحث العلمي نشاطا هامشيا في اهتمام الجامعات العربية، وبالتالي فأكثر البحوث انتشارا هي البحوث التي تجرى لمجرد الترقية، والتي تهتم بالجانب الفكري أكثر من اهتمامها بالجانب التطبيقي. بحوث تنشأ من داخل الجامعات بعيدة عن رؤية المجتمع وحاجاته ومشكلاته، ويغلب عليها الطابع الفردي.
ولم يعد البحث العلمي خياراً بل هو ضرورة ملحة في الدول، وهذا ما يحتاج إلى خطة إستراتيجية وطنية لتنشيط البحث العلمي وزيادة الإنتاج العلمي من خلال الشراكة الفاعلة مع القطاعات الاقتصادية المختلفة، والانفتاح على مراكز البحث العلمي في العالم. لأن الواقع يشير إلى أن الجهود ما زالت متواضعة، والدعم المخصص للبحث العلمي لا يتعدى الفتات، وهو الأمر الذي يدعو إلى إقامة مؤسسة لدعم منظومة البحث العلمي على غرار تلك القائمة في الدول الأوروبية.
أكثر البحوث انتشارا هي البحوث التي تجرى لمجرد الترقية، والتي تهتم بالجانب الفكري أكثر من اهتمامها بالجانب التطبيقي
ولا يمكن أن يتحقق التطور في غياب التعاون وتأهيل الموارد البشرية وتشجيع الكفاءات العلمية، مع خلق إطار قانوني ملزم، لأنه في ضوء غياب التشريعات والدعم الذي يمكن وصفه بالمتواضع تظهر الحاجة إلى بلورة خطة إستراتيجية للبحث العلمي والابتكار.
كما يجب على المؤسسات بلورة خطة بأهداف واضحة تترجم هذا التوجه مع ضرورة انخراط القطاع الخاص في هذه العملية كونها تتطلب موارد مالية وبشرية وسياسات وتشريعات، والأهم ترسيخ عقيدة البحث العلمي في الحياة الجامعية.
الجامعات العربية بحاجة إلى بناء مراكز للبحوث العلمية والابتكار تأخذ شكل شركات تجارية لتطوير مشاريع حيوية وأنشطة تجارية تهدف إلى تعزيز الموارد المالية للجامعة لتحافظ على ريادتها في مجال التدريس والتعليم والبحوث، بالإضافة إلى تعزيز التنافسية في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا والابتكار.
ويشترط أن تكون إستراتيجية الجامعات مركزة على البحث العلمي والابتكار والموازنة بين الجانب التعليمي الأكاديمي والجانب التجاري الذي يعد مفصلاً أساسياً في ترسيخ مفهوم البحث العلمي، حيث أن هدفها أن تكون على قائمة الجامعات الرائدة في مجال البحث والتطوير على مستوى المنطقة والعالم من خلال ترجمة البحوث الأكاديمية إلى بحوث تطبيقية وبرامج دكتوراه تعكس التحديات الخاصة بالمجتمع.
كما أن دور المجتمع مهم ومكمّل لعملية البحث العلمي ولتحويل البحوث إلى أنشطة اقتصادية تدعم اقتصاد المعرفة والابتكار والاقتصاد الوطني، لأن الهدف من المركز البحثي بالأساس هو تطوير اقتصاد المعرفة والابتكار، ودعم الاقتصاد الوطني للدول، وإيجاد فرص للباحثين عن عمل.
البحث العلمي لم يعد ترفا فكريا وإنما هو عنصر مهم في بناء الحياة والإنسان، لأن الأمم المتقدمة التي سوّقت لنا التكنولوجيا والاختراعات كان دافعها البحث العلمي ومراكز البحوث. لهذا قيل بأن الذي انتصر في الحروب ضد العرب هو الجامعات ومراكز البحوث.