الأدب الرقمي

وسائط جديدة وآليات قرائية متغيرة

 

  • القراءة العميقة تصارع مع المحمولات التكنولوجية
  • القراءة تأخذ بعدا تداوليا وتوليديا من خلال الوسائط الجديدة
  • ما هي عدتنا للعصر ومجتمعاتنا لا تزال تعاني من ضعف في القراءة الورقية!

نشر الناقد السيبيرنيتيكي نيكولا كير سنة 2008 مقالا بعنوان “هل يجعلنا غوغل أغبياء؟” خلف المقال ردود أفعال عديدة، الأمر الذي جعل الناقد يعمل على تطوير الفكرة إلى كتاب صدر سنة 2010.
وأساس الفكرة هو مقاربة الوضعية الجديدة للقارئ في تعامله مع الوسائط الجديدة، ومحاولة المقارنة بين وضعيتين لفعل القراءة: وضعية ورقية وأخرى رقمية/ تكنولوجية؛ الأولى كلاسيكية تم التعود عليها منذ سنين خلت، وهي سلسة وطيعة بحكم التجربة القرائية لكل فرد منا، عكس الثانية التي تتطلب مهارات ذهنية وفكرية، وممارسات ودربة.

وقد رصد الناقد هذه التحولات القرائية عند كل مبتدئ يخطو خطواته الأولى في عالم القراءة من خلال شاشة الحاسوب، عارضا تجربته الذاتية من خلال الملاحظات التالية:

– عدم القدرة على القراءة بشكل عميق.

– غياب التركيز الذي يبدأ في التلاشي بعد قراءة صفحتين أو ثلاث.

– فقدان الصبر على متابعة القراءة، والبحث عن عمل شيء آخر غير القراءة.

– الإحساس بأنه يعمل باستمرالر على إعادة دماغه “الطائش”، وبالقوة إلى النص.

وبأن القراءة العميقة التي كانت تأتي بشكل طبيعي مع الكتب الورقية أصبحت تعرف صراعا مع المحمولات التكنولوجية: الأدب الرقمي/المعاجم الرقمية/المكتبات الرقمية/محركات البحث/المدونات.. إلخ.
وكلما استعملنا صفحات الويب كلما كان على المستعمل المقاومة كي تبقى درجة التركيز عالية، لأن الأمر يتعلق بالقراءة من خلال الروابط ؛ وأي إفراط في التعامل معها قد يقود إلى التيهان عبر صفحات الويب خصوصا بالنسبة للمستعملين الذين لم يبلغوا بعد درجة الاحترافية في العملية القرائية على شاشة الحاسوب، وأخص بالذكر طلبتنا بالجامعات.

لتجاوز بعض إشكاليات أزمة القراءة ظهرت مبادرات تحاول التشجيع على القراءة، مثل “شبكة القراءة” بالمغرب و”تحدي القراءة” بالإمارات

إن المسألة لا تتعلق بانطباعات ذاتية فقط، بل إن الأمر يتعدى ذلك، فقد نشرت مجلة “العلم والحياة” ملفا يحمل عنوان “القراءة تتغير وأدمغتنا أيضا”، حيث لاحظ تييري باتشينو أن القراءة على شاشة الحاسوب تتطلب زيادة في عملية اشتغال الدماغ، بل وطريقة عمل مغايرة؛ واصفا العين وهي تتجول عبر الصفحات بأنها تشبه حركة الفراشات وهي تطير، حيث الهدف هو التقاط المعلومة بسرعة، أما الفهم والتحليل فهو يأتي لاحقا، وعند الحاجة.

وهو الأمر الذي يؤشر على القراءة الانتقائية، إنه الانتقال من كتلة معلومات إلى أخرى لانتقاء المعلومة والاشتغال عليها لاحقا. إن الاشتغال على القراءة من خلال شاشة الحاسوب ليست مسألة فردية، بل جماعية تتحمل فيها الدولة من خلال مؤسساتها التعليمية دورا أساسيا من أجل النهوض بالفعل القرائي التخصصي (في مختلف المجالات الأدبية والفكرية)، الذي هو بوابة المعرفة، والتحصيل المعرفي.

ولن يحدث ذلك إلا من خلال جدولة مواد تهتم بالتربية القرائية عند الناشئة: “القراءة الورقية” و”القراءة الرقمية”، لا انفصال بينهما، كل واحدة تكمل الأخرى، لهما تقنيات وآليات محددة، وهما صاريتا المعرفة، وبوابة نساهم من خلالها في بناء الحضارة الإنسانية. أما ما يتعلق بالفعل القرائي العام الذي تحفل به عدد من الوسائط ومنها الفيسبوك، فإن عدة تحولات قد طرأت على هذا الفضاء، ليس فقط من خلال التغييرات التقنية للموقع وما لحق به من إضافات، بل أيضا من خلال التغييرات التي طرأت على البنية الذهنية للمستعمل، ما بين “الكتابة” و”القراءة”، فالمستعمل هو في ذات الوقت كاتب (ليس بالمعنى الثقافي طبعا) وقارئ /متلقي، حيث تقلص الحيز الزمني بين فعل الكتابة وفعل القراءة، وفعل الرد واختيارات هذا الرد.

فهذا الأخير كان يتم من خلال الكلمات والصور لينتقل إلى الرد بالفيديو صوتا وصورة ، خصوصا عند وقوع أحداث معينة، كأحداث حراك الريف بالمغرب مثلا، الذي أفرز تجاذبات متعددة ومتناقضة، نتج عنها قراءات متعددة ومتباينة للأحداث، تقلص معها دور المثقف، بل تراجع هذا الأخير إلى الوراء، وتراجع أيضا دور الصحافي، وظهر شخص آخر لتقديم قراءاته للأوضاع عبر الفيسبوك، تحت اسم ” المواطن” وذلك بتوجيه نداءات إلى كل المواطنين: “بارطاجي يا مواطن وسينيالي (بلغ) يا مواطن”.

حيث تأخذ القراءة بعدا تداوليا وتوليديا من خلال القراءة والتعليق والمشاركة، وبالتالي إنتاج نصوص جديدة عبر الوسائط الاجتماعية، التي مكنت من عودة “التعبير الشفهي” الذي يتطلب قراءة مغايرة عن القراءة التي تتم من خلال ما يكتب. بل يمكن اعتبار هذه النصوص الشفهية نصوصا سردية تفاعلية بامتياز، تحكي عن الذات وتجاربها، من خلال اتخاذ هذا “المواطن” وضعية الحكواتي أو الراوي، وقد لاحظنا في تقديم هذه الفيديوهات اختلاف السيناريوهات التي يتم من خلالها تحميل الأفكار ووجهات النظر من خلال كاميرا الهاتف المحمول، وكذا تقنيات تقديم المرسل لذاتيته من خلال فضاءات متعددة ومختلفة تعكس اختيارات مرتبطة بموضوع وفكرة الفيديو؛ وتتوزع مابين أفضية مغلقة وأخرى منفتحة: داخل بهو المنزل/داخل غرفة/داخل سيارة إما متحركة أو متوقفة/داخل مزرعة/حديقة ؛ ولهذه الأوضاع الجسدية داخل هذه الفضاءات مؤشرات ودلالات رمزية، تحضر فيها الذات منفردة معزولة عن أية جماعة، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا التي يظهر فيها زوجان يتحدثان بالتناوب أو جماعة مكونة من عدد من الأفراد يتناوب بعضهم في أخذ الكلمة بالنيابة عن باقي المجموعة.

هذه الفيديوهات وما يتخللها من إضافات كالموسيقى وبعض الصور مرفوقة بتعليقات، تدخل في نطاق ما سمته شركة آبل بـ”الواقع المعزز”، حيث قال تيم كوك المدير التنفيذي لآبل وهو يقارن بين “الواقع الافتراضي” و”الواقع المعزز”: “إن الواقع الافتراضي جميل لكن الواقع المعزز هو المستقبل”.

كل هذا يدعونا إلى تبني قراءات مختلفة تدعونا إليها الوسائط الجديدة، فما هي عدتنا، وما هي قدراتنا كقراء على قراءة وسائطية رقمية، ومجتمعاتنا العربية لا زالت تعاني من ضعف في القراءة الورقية، وتفتقد إلى حس قرائي متواتر، وأنظمتنا التعليمية لم تجعل من فعل القراءة الورقية وتقنياتها، مادة قائمة الذات ضمن مواد التدريس، ولا تشجع عليها من خلال إغناء مكتبات المدارس والجامعات، وتجديد محتوياتها؛ فما بالك بالقراءة الرقمية، سواء تعلق الأمر بقراءة الإبداعات الرقمية أم بالقراءة في محتويات الوسائط الجديدة؟ البعض يتحدث عن “أزمة قراءة” طارحا إشكاليات متعددة بعضها مرتبط بالأفراد وبعضها مرتبط بالمؤسسات، ولتجاوز بعض من هذه الإشكاليات ظهرت مبادرات تحاول التشجيع على القراءة، مثل “شبكة القراءة” بالمغرب و”تحدي القراءة” بدولة الإمارات العربية المتحدة، مثلا لا حصرا، وهي مبادرات وجيهة تستحق الثناء. لكننا نعتقد أن الأمر لا يتعلق بـ”أزمة قراءة” بل بـ”أزمة تفكير”.

هل تحسن أجيالنا الناشئة التفكير في آليات بناء حضارتنا وثقافتنا؟ هل تفكر في طرق الارتقاء بتحصيلها المعرفي، بل هل تعرف ماهي “المعرفة”؟

هل تحسن أجيالنا الناشئة التفكير في آليات بناء حضارتنا وثقافتنا؟ هل تفكر في طرق الارتقاء بتحصيلها المعرفي، بل هل تعرف ماهي “المعرفة”؟

أشار الفيلسوف الفرنسي وعالم اللاهوت بليز باسكال (1623-1662) إلى أن كل عزتنا تتمثل في التفكير، الذي ينبغي علينا رفع أنفسنا به، وليس بالمكان والزمان اللذين لا يمكننا ملؤهما، بعد ذلك بقرون بقيت عزة باسكال القائمة على التفكير بلا منازع من الثورات الثلاث. ربما لا يزال بإمكاننا أن نتمسك بالرأي القائل إن مكانتنا الخاصة في الكون لم تكن في علم الفلك، أو في علم الأحياء، أو في الوضوح العقلي، ولكنها تكمن في قدراتنا العليا على التفكير.

في عام 1645 نشر باسكال “رسالة إهداء” بعنوان “الآلة الحسابية” يصف فيها جهازا حسابيا جديدا كان قد بناه لوالده لمساعدته على التعامل مع الحسابات المرهقة التي تقتضيها وظيفته كمشرف على الضرائب، تمكنت الآلة من تنفيذ العمليات الحسابية الأربع بشكل تام.. هذه الآلة تعرف اليوم بـ”باسكالينا”.

التفكير كان التدبر، والتدبر كان الحساب، والحساب كان ممكنا بفضل باسكالينا. لقد غرست بذور الثورة الرابعة. أعفتنا أجيال باسكالينا التالية ليس فقط من أعمالنا المرهقة ذهنيا، ولكنها أعفتنا أيضا من دورنا المحوري باعتبارنا العناصر الذكية الوحيدة في الإنفوسفير (الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني/تأليف لوتشيانو فلوريدي/ترجمة لؤي عبدالمجيد السيد).

في هذا الإطار يمكن اعتبار أن مجتمعاتنا العربية تعاني من أزمة تفكير، وبالتالي أزمة في التدبر: تدبر احتياجاتنا الروحية والمعرفية، والقراءة في هذا الإطار بوابة من ضمن أخريات، ستساعدنا في تدبر حضارتنا وإمكانيات المساهمة في بناء الإنسانية، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التكنولوجيا قد قلصت الامتدادت الجغرافية، والهدر الزمني.

إن التفكير في آليات القراءة داخل الوسائط الجديدة، هو تدبر أنماط الحوار والتواصل وكشف تحولات المجتمع على صعيد بنيته الذهنية، وبناء ذاكرة تكنولوجية جماعية ، تخدم الأدب والعلوم الإنسانية.

د. فاطمة كدو – باحثة وأكاديمية مغربية

 

فاطمة كدو

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى