لماذا رجع الجابري إلى الثرات؟
بعدأن ارتبط بالواقع العربي عموما والمغربي على الخصوص، اصطدم الجابري بحقيقة مرة، حقيقة تخمة الفكر العربي (العقل العربي) بالميتافيزيثقا إلى حد النخاع.
وكونه عايش النهضة العربية في جيلها الثالث بعد الجيل الأول الذي يمثله رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني و محمد عبده والجيل الثاني الذي يمثله حسن البنا، وطه حسين وآخرين،
لاحظ الجابري كيف أن تقوم نهضة بدون عقل ناهض ، كيف ونحن لا نفكر إلا ميتافيزيقا ، نعرف عن آخرتنا أكثر مما نعرف عن دنيانا ؟ فطرح عدة أسئلة منها : هل التخلف الفكري العربي يعود إلى تسلط الحكام أم إلى الجانب الديني أم إلى شيء آخر؟
هذه الأسئلة هي التي نبش فيها الأستاذ الجابري ، فتوصل إلى فكرة مفادها أن فشل النهضة العربية ،بل الى التخلف العربي يعود إلى الميتافيزيقا التي يحملها الفكر العربي أي الى تكوينه ، فكيف الخروج من الرؤية الميتافيزيقية الظلامية ؟ فكان لا بد من نقدها أولا ، ومن هنا بدأ يبحث عن مكونات العقل العربي : أي مما يتكون؟.
فكان لا بد من العودة الى العصر الجاهلي أولا ، والى صدر الإسلام ثم العصر التدوين في القرنين الثاني والثالث للهجرة ، أي العودة إلى التراث الحامل لمكونات العقل العربي . ومن هنا جاء أول كتاب للدكتور محمد عابد الجابري باسم “تكوين العقل العربي ” (أول كتاب في الرباعية).
فكلمة “تكوين ” مستعارة من الابستمولوجيا التكوينية لجان بياجي ، ويقصد بها تكوين مرحلة الطفولة وتطور القدرات العقلية والنفسية لدى الطفل . ويقصد بها الجابري تكوين العقل العربي منذ مرحلة ما داخل العصر الجاهلي مرورا بصدر الإسلام ثم عصر التدوين في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
السؤال : مما يتكون هذا الفكر العربي ؟ وما هي السلط والمرجعيات التي تتحكم في تقعيده وفي توجيه تفكيره ؟ ونبدأ بالعصر الجاهلي:
في هذه المرحلة الجاهلية ، نستحضر الشعر الجاهلي : شعر امرؤ والقيس ، الشاعر العربي الكبير:أليس هو القائل : مفر مكر ، مقبل مدبر …وشعراء آخرين مثل الأعشى القاتل : أحبها وتحبني وتحب ناقتها بعيري.
نستحضر الدين أو الديانات القديمة التي كان يدين بها أهل منطقة الجزيرة العربية وما حولها ..نستحضر الأمثال والحكم العربية وبعض العلوم العربية في ذلك العصر كعلم النجامة وعلم القيافة وعلم السحر والطلاسم ..أنه موروث عربي ، لا يتجزأ من الموروث الثقافي العربي الإسلامي ، ونمر الى مرحلة صدر الإسلام:
في هذه المرحلة ،لم يكن الإسلام وحده منتشرا في المنطقة ، بل كانت اليهودية والنصرانية ثم الصابئة والماحوس التي انتقلت إلى الثقافة العربية الإسلامية ، انتقلت تلك الديانات عبر قنوات وممرات ، وظهر الشعر الأموي وبداية علم الكلام والتأصيل لعلم الحديث والفقه والنحو ..
ومع عصر التدوين ( القرن الثاني والثالث الهجري ) ، بدأ التأسيس للعلوم العربية الأصيلة ، وإدخال الفلسفة والمنطق اليونانيين إلى الثقافة العربية الإسلامية.
صنف الجابري هذه الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الآول : يتناول الثقافة العربية الأصيلة كالأداب والبلاغة والنحو والفقه و الكلام .. ويسمي هذا الصنف ب “النظام المعرفي البياني”.
الصنف الثاني : يتناول الثقافة اللامعقولة التي دخلت الى الثقافة العربية الإسلامية عبر ممرات وقنوات كالفكر الغوصي، والتصوف السني والشيعي والتنجيم والخيمياء،والطلاسم والسحر ..ويسمي الجابري هذه الثقافة ب ا”لنظام المعرفي العرفاني “.
الصنف الثالث: يتناول العلوم الدقيقة كالرياضيات والبصريات والطب والمنطق اليوناني والفلسفة القديمة .. ويسمي الجابري هذه الثقافة ب “النظام المعرفي البرهاني”.
وتحليل وتفكيك هذه النظم الثلاثة هو موضوع الكتاب الثاني “بنية الثاني العربي ” لمشروع الجابري (رباعياته ).
وكلمة بنية مأخوذة عن جان بياجي ، ويعني بها أنه في بداية السنوات الأولى للطفل ، تكون أفعاله غير متسقة ومتماسكة ، وغير منسجمة ، ومع مرور السنين ، تصبح تلك الأفعال متماسكة وعلى شكل أنساق أو ما يسمى “بنيات ” ومفردها بنية STRECTURE ، أما الجابري فيقصد بها تلك الحصيلة الفكرية التي تبلورت تاريخيا للفكر العربي الإسلامي.
السؤال : ماهي المرجعيات والسلط التي تحكم تلك البنيات ، بنيات العقل العربي ؟
بالنسبة للنظام المعرفي البياني، وقف الجابري على السلط التالية:
سلطة اللفظ والمعنى ، وسلطة الأصل والفرع ، وسلطة الجوهر والعرض.
وبالنسبة للنظام المعرفي العرفاني وقف الجابري على سلطة الظاهر والباطن ، وسلطة الولاية وبوة .
أما بالنسبة للنظام المعرفي البرهاني فقد وقف الجابري على السلط الثلاث : سلطة الألفاظ والمعقولات وسلاطة الواجب والممكن.
ويمكن الحديث عن مبدأ التجويز الذي يفتح المجال الى “خرق العادة “، ومبدأ الانفصال في رؤية البيانيين ، ومبدأ القياس ( وقس على ذلك).
هذه النظم الثلاثة أوهذه المرجعيات والسلط هي التي تكون ما نسميه “ابستمي” العقل العربي الإسلامي في القرون الوسطى ،كابستمي العصر الحديث أو المعاصر . وكلمة ابستمي مستعارة من فكر ميشيل فوكو.
تناولنا نقد العقل النظري عند الجابري في مشروعه أي في رباعياته ، يبقى سؤال مهم وهو ، وبأي منهج؟
لقد نهج الجابري منهجا ابستمولوجيا نقديا محاولا أن يكون أكثر موضوعية في تحاليله لبنيات العقل العربي التي تراكمت عبر قرون ، مجتنبا المناهج التقليدية كالمنهج السلفي والليبرالي والماركسي والاستشراقي.
وظف الجابري في منهجه الابستمولجي (البنيوي والتكويني ) مجموعة من المفاهيم الغربية وبعض التصورات والمماثلات : فآخذ عن ألتوسر وعن فوكو وعن باشلار وجان بياجي وعن كونزت أستاذ باشلار (ابستمولوجون فرنسيون).
لقد سبق للجابري أن أدخل هذا المبحث الابستمولوجي الى الجامعةةالمغربية في السبعينات ، بل ألف فيها (تأليفا توليفيا بعنوان : مدخل الى فلسفة العلوم : جزءان ) كما وظف هذا المنهج في مشروعه ، يمكن القول عن كتبه الخمسة ما يلي:
في الكتابين : تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي تناول الجابري المفهومين الابستمولوجيين : “تكوين” و”ينية ” لجان بياجي.
وفي “نحن والتراث” الصادر سنة 1980، وظف الجابري مفهوم القطيعة الابستمولوجية: القطيعة مع فلسفة الفارابي السياسية والدينية ، و فلسفة ابن سينا الشيخ الرئيس ، بل قطع مع فلسفة المشارقة عامة مع فلسفة ابن باجة وابن رشد في الغرب الإسلامي.
اذ رفض ابوالوليد المفاهيم والثنائيات التي شيد عليها المشارقثة فلسفتهم ، كما رفض منهجهم المفضل : قياس الشاهد على الغائب لأنه منهج ظني ، ولم يوصلننا الى اليقين.
أما الكتاب الرابع : مدخل الى فلسفة العلوم ، فتعود مرجعيته الى التوسر عند قراءته لماركس ، والى فوكو عند قراءته للتاريخ الاجتماعي الأوربي في القرين السادس عشر والسابع عشر : درس فوكو ظواهر اجتماعية ونفسية كتاريخ الجنون وتاريخ السجون و تاريخ المرضى.
وكان من دواعي استعمال المنهج الابستمولوجي هو الكشف عن قطائع ابستمولوجية وعن عوائق ابستمولوجية في المجالات التي تحرك فيها كل من ألتوسر وميشيل فوكو.
أما الجابري فقد وظف هذا المنهج البنيوي للكشف عن قطائع وعن عوائق في الخطاب العربي الاسلامي والكشف عن السلط والمرجعيات التي تحكم الفكر العربي المتخوم ميتافيزيقيا للقطع معه.
وفي الكتاب الخامس، الخطاب العربي المعاصر الصادر سنة 1982 الذي يتناول الخطاب الفلسفي والخطاب النهضوي والخطاب السياسي والخطاب القومي ، اكتشف فيه الجاري عن فشل أي خطاب من الخطابات السابقة ، أي لم يستطع العقل العربي بناء أي خطاب من الخطابات المشار اليها.