الدراسات الأدبية

تمثلات الفراغ من خلال رواية “المغاربة” لعبد الكريم جويطي

 

1- عيون الرواية، أو في بؤرة الفراغ

في رواية المغاربة لعبد الكريم جويطي، من العيون التي أصيبت بزوالها ساكنة بني ملال بالفاجعة، ومن العناصر القوية كذلك، التي شكلت فصل باب الابتلاء في روايته؛ حيث تكشف الرواية عن ابتلاء من نمط آخر، ابتلاء الزحف الاسمنتي الذي طمس هذه العين الجارية من الوجود الجمالي للمدينة، ليزيد من هول الابتلاء وقيمته الروحية والجمالية.. ابتلاء الجد في عجزه الدوس على الوحل المقدس الممزوج برجل الولي، والهائمين في الذكر وزغاريد النساء المقشعرة للابدان.. كابتلاء ذلك الزحف الذي أفصح عنه الكاتب في إبعاده عن الوحل المقدس الممزوج برجله المتفانية في العمل، وبماء عين، كعين داي المقدسة..

    لم يكن من الغرابة، تفسير تواجد الجد بعين داي ومكوثه فيها الساعات الطوال، عندما يتحسس خلو ضجيج الناس الوافدين عليها، ولا يكاد يسمع إلا خرير مياهها.. فقد كانا يهمسان لبعضهما البعض هم الابتلاء في صمت رهيب، ويتقاسمان معا نفس الغبن والازدراء حاضرا ومستقبلا.. غبن النسيان والدوس الماكر على الذاكرة المشتركة بين الماء والإنسان في انسيابهما وانسجامهما المطلق.

   يحسسنا الكاتب هنا، أن من يحيط بذاكرة عين داي، فقد أحاط بذاكرة بني ملال من باب عيونها، وأحاط بما يترتب عن ذلك، بخصوص الدور الاستراتيجي التاريخي لسهل تادلة آنذاك، من يحرز ذلك فقد أحاط بأسرارها الكبيرة وإشاراتها الغامضة، وبدروب فواجع أشخاص المدينة وعيونها عموما، الذين عانوا من عتو وطغيان جغرافيتها الاسمنتية، التي تتوسع على حساب الماء والإنسان..

       لم يأت ذكر عين داي بشكل ظاهر، إلا في موضعين من الرواية، كما أن ذكرها في الفصل الأول- فصل الابتلاء والفاجعة- لم يكن من باب الصدفة وعدم الاكتراث برمزية هذه العين في ذاكرة الكاتب، فيكفي تواجد ذكرها ضمن سياق الأسرار الكبيرة والإشارات الغامضة، لتوحي لنا أن الكاتب لم يتعامل معها بعبث وغبن مماثل، كما تعامل معها الآخرون. 

   عين داي، في الرواية، ليست قضية بيولوجية تزود جسم الإنسان بالأملاح المعدنية وبما تحتاجه الأرض منها كذلك.. ليست عين داي قضية جغرافية بسيطة، كما لم يكن شرب الجد عاديا وبسيطا “يشرب من عين داي القريبة”، كما يتوهم من لم يزل عنه بعد غموض الإشارات، وعسر عليه كشف أسرار الشرب، وأسرار القرب.. “يخرج إليها في أوقات لا يراه فيها أحد. لا يطلب أكلا، ولا يقربه، إن وضع أمامه، ولا يعود إلى الدار إلا بعد أيام انقضاء الموسم”.. ليس كل من اغترف غرفة بيده من ماء عين داي شارب لمائها، دون أن ينساب ماؤها أولا إلى أسرار أعماقه، ودون أن يعشق مكانها وفضاءها الدائري.. ودون أن يطوى له الزمان والمكان، ويصوم عن الأكل والبوح بالكلام، إلا همسا وتمتمة.. عين داي، مكان للعبور والتجاوز والالتحام بأجواء التجرد وامتداد أصوات الموسم وهذيانه، وصخبه، وغباره، ووحله المقدس.. عين داي، امتداد لعين “الربوة”، والنظر من عل، والبسط والامتداد في النظر المستمد من “البسيط الممتد” المطل على “عراء الدائرة” ذلك السطحي من شدة القعر، على حد تعبير نيتشه.

    هكذا تتجلى وتتكشف للقارئ بعض من أسرار وإشارات الشرب والقرب، في مقابل امتداد تسلط الابتلاء وفواجع الافتراء حتى من أقرب الأقرباء “قالت له بأن البعض يدعي بأنهم رموه كالجيفة”.. ” قال لها: لا تهتمي بالناس”.. يجلي هذا الكشف الإشاري، تركيز الكاتب على ماء عين داي، وليس ماء عين أسردون، رغم مرور جداول هذه الأخيرة بالقرب من حقل الجد. 

    ماء عين أسردون، في رواية “المغاربة” ذاكرة الصراع والتدافع المادي؛ وماء عين داي، ماء ذاكرة الحوار.. الكل يجد فيها ذاته، اليهودي والمسلم ومن لا دين له، من يوقد الشموع، ويضع رزما منها.. ومن يأخذها ويأخذ ريالاتها التي توضع بشقوق حائطها الدائري، تبركا وتوسما استمرار خيراتها وامتداد بركاتها.. طقس إحساني فريد قل نظيره، الكل يشعر بالحاجة، لا تظهر فيه يد عليا على يد سفلى.. حتى أولئك الذين ابتلوا بالمسكرات، كان لهم حظ منها.. الطقس الإحساني “الدايوي” (نسبة لداي)، تقليد مغربي عريق، ضارب جذوره في ثقافة المدينة، وثقافة المغاربة عموما، وهذا اعتراض لدعوى من ينسب هذه العادة الإحسانية للأتراك وحدهم فقط..   

    عين ساخطة تلك التي رأت في عين داي مجرد بؤرة للفساد والجهل المقدس.. وحرضت على طمرها ودسها بعنف تحت التراب.. ابتلاء هذه العين الدائرية كان زحفا اسمنتيا، كما كان زحفا أصوليا، تم فيه استغلال الثاني لصالح الأول، ونتج عنه مكر تاريخي ناعم.. 

   ماء عين أسردون، ماء المدينة المركز، المدينة القبيلة، المدينة السلطة والمخزن.. ماء عين داي، ماء الهامش، ماء التحدي. من يدافع عن وجودها هم دراويش المدينة وساكنوا أطرافها السفلى.. ماء عين أسردون، في المتخيل السردي لسكان المدينة، نبع منها الصوف، وماء عين داي في متخيل الرواية، نبع منها التصوف.. “ينتهي بخلع ثيابه ولبس مرقعة فاضحة، والسير في الدروب هائما على وجهه، ومتمتما بكلام غامض، ثم يحبس نفسه في كوخ مبني بالقصب، والغيس المخلوط بالتبن بحقله”.

في متخيل الرواية، عين داي، ليست ملجأ للزهاد والمتصوفة والجذابة فقط، بل هي كذلك، موردا ومنبعا ومنشأ للفراغ..  حيث الفراغ لا يمكن أن نفهم منه “ذلك التصور الفضائي أو التجسيد المكاني، بل إنه مفهوم-تجربة.. كيف يحبس نفسه في مكان ضيق، من “روحه كانت تطوف مع الجذابة وشفتيه ترجفان بـ: الله حي.. الله حي..” وحيث الاستنجاد باسم “الحي”: طلب للامحدود، وللامنقطع، وتعلق بمشيئة من كل ما سوى الله حياته قائمة على إحياء الله.. وحيث الاستنجاد باسم “الحي” كذلك، هروب من الكون ومن “سوى الله” واحتماء بالرحابة التي ينشدها الفراغ..   

عين أسردون، عين نصف دائرية.. وعين داي، عين دائرية، مكتملة الدوران، ليس في شكل سياجها الطبيعي الظاهري فحسب، فهذا بادي للبصير وللأعمى الذي يتحسس جوانبها بيده وعصاه، وإنما في دائريتها الممتدة والموصولة بدائرية الولي، والموصولة بعرائها.. ليس كل الناس لهم بصر دائري، والمكوث بها، طلب للاكتمال، هذا ما تبوح به الرواية.. وهنا يجعلك الكاتب تدرك أنك أمام قضية “الروائي في الصوفي” وليس فحسب قضية “الصوفي في الروائي”، هذه الأخيرة التي ميزت الرواية المغاربية ضمن العمل الروائي العربي عموما. ولعل هذا من أسرار الكتابة في رواية “المغاربة”، كونها تتأرجح بك بينهما، من الأولى نحو الثانية، ثم نزولا فصعودا من الثانية إلى الأولى.. مما يتولد عنها شعور بالراحة الآسرة، وأنت تغوص في متونها السردية.. “الروائي في الصوفي” قلب للمعهود السردي العربي، تنسجم قضيته مع قضية التسطيح لرؤية الأشياء ورؤية العالم. ففعل الشرب لدى الجد “يشرب من عين داي القريبة”  وبدلالة الفعل المضارع الذي يفيد التجدد والاستمرار، ليس من باب تحصيل حاصل، فالماء وجد للشرب ولاستكمال دورة الحياة أصلا.. ماء عين داي لدى الجد كماء زمزم، “ماء لما شرب له”..

 رواية المغاربة، قلب لمعهود الكتابة، امتداد وعبور عبر الكتابة.. هكذا تجد نفسك وكأنك أمام صفحات من كتاب “المواقف والمخاطبات” للنفري المتصوف البغدادي، هي امتداد بين السطور لبوح روائي مقدس للجد المتصوف الملالي المغربي: “وقال لي: ماء داي، ماء دائري، ماء لما شرب له”، “وقال لي: ليس كل الناس لهم بصر دائري”.. وكما هي امتداد لبوح صوفي بغدادي عراقي “وقال لي إن لم ترني من وراء الضدين رؤية واحدة لم تعرفني”، ولبوح صوفي صعيدي مصري، وقالت لي الأيام “ليس من السهل أن تكون أعمى”و”ستعير لتدرك نورك الخاص” و”على الأعمى أن يكون حالما كبيرا”، و”بحلمه هذا يمكنه أن يعنف العالم القبيح الذي أساء إليه”.. هكذا تتولد المعرفة من رؤية ما وراء الضدين، من السخرية والاحتماء بمشيئة القدر والتسليم بها، ومن الاحتماء بالعقل والتسليم للقلب والانقلاب عليهما؛ تلك التي كان يتأرجح عبرها الكاتب، عبر قراءته للأشياء، وللكلمات وما بين سطورها، وعبر مكر لعبة التذكر والنسيان، ومكر الثابت والمتحول، ومكر الذات الملاحظة والذات موضوع ملاحظتها، ومكر العرس والبؤس، ومكر الطهر والعهر. “وقال لي: ليس العهر ببعيد عن الطهر”، هكذا اختزلت هذه المقولة الشذراتية المستوحاة من بوح ما بين سطور الرواية، فكرة خرق العادة المقدسة والمدنسة في الوقت ذاته، والمعرفة المتولدة من نقيضي الشيء ذاته، والتي ينتج عنها مفارقة سلوكية ” وسيجد حتما من يعظمه ويتبرك به بعد موته”.  هكذا تكون الرواية قد كشفت عن نمط آخر من مبادئ اللايقين، الذي هو “مبدأ اللايقين الصوفي”، والذي يقترب شيئا ما من ذلك الذي يتحرك منطقيا، كما عبر عنه باسكال بقوله “ليس التناقض علامة على الخطأ وليس اللاتناقض علامة على الصواب”

ماء عين داي، ماء دائري.. يموج في عين فارغة، تتحرك في فراغ، وتنبع فراغا، بخاصيته “القلقية” و”الجاذبية”، تجعله يهرب هروبا جزئيا بمجرد الاقتراب منه، كالذي كشف عنه باشلار في كون مفهوم الفراغ “مفهوما آسرا”.. الفراغ في الفلسفة، كما يقول إدغار كانزيك “يمكن تصوره كغياب لكل شيء، مع تعلق الأمر برؤية ذهنية”، وفي الفيزياء يضيف كانزيك- “الفراغ هو غياب المجال، على عكس ما هو في نظرية الكوانتا حيث المجال يكون ثابتا، غير قابل للعزل ولا يمكننا التخلص منه. الفراغ كوانتيا، لا يمكن أن يكون إلا حالة ما للمجال (…) ذلك أن مجال الكوانتا لا يعرف راحة، أو وضعية مستريحة، إنه يمثل باستمرار تموجا قارا وترجرجا متبقيا”.

    عين داي، عين الفراغ، منها تجلى الفراغ صوفيا، واقترب من الإنسان، واقترب منه هو الآخر، وما الجد في الرواية- في بعض إشاراتها- إلا تجسيدا للفراغ الهارب، الآسر، القلق، “صارت تبدو عليه أمارات القلق قبل أسابيع من موعد الموسم، قلق سرعان ما يتحول إلى صمت ثقيل شارد وإعراض كلي عن الناس”، ليكشف الكاتب بالتالي، عن بعض أسرار القرب، وكيف يجعلك تتساءل معه عن سر الفراغ الذي أورثه الجد إياه، إلى درجة يصل إرثه إلى القارئ معا.. الفراغ إرث المغاربة، والمغاربة ورثة الفراغ..

تغترف الرواية من العينين معا: عين داي وعين أسردون؛ حيث الجد والعسكري، يمثلان جداول وروافد ماء عين داي، نفع وجهد وعطاء، قوبل بعنف وجودي روحي ومادي معا، مطاردة لمعنى الحياة المكثف، دوامة من الحزن اليائس والعزلة والصمت الحكيم، تعلق زائل بالأشياء والأماكن والأشخاص، إرادة لتطويع الفراغ، الهارب أصلا من كل اقتراب، على حد تعبير باشلار.  

2- لامبالاة الفراغ الصوفي والفراغ العلمي

التعامل مع عين داي في الرواية، كالتعامل مع الفراغ عبر تجربة الجد، وإرث هذه التجربة لدى الكاتب منه؛ تعامل سلط الضوء على قضية اللامبالاة تجاه الفراغ، عبر اللامبالاة التي تجاه هذه العين ذاتها هي الأخرى؛ والرواية بذلك تكون قد سلطت الضوء على قضية الفراغ، كقضية أصبحت مركزية في راهن الفكر العلمي المعاصر، بعد أن كان يتعامل معها هذا الفكر بنوع من الغبن والتقليل من قيمته العلمية، ودلالته الشيئية. وفي ذلك، تكمن قوة الرواية في طرح أفقها النظري، كونها سلطت الضوء على قضية مركزية في تراث الفكر الصوفي أولا، وفي راهن البحث العلمي الفيزيائي والكوسمولوجي، أو ما يعرف بتجليات الفراغ الجذبوي vide gravitationnel، والفراغ الكوانتيvide quantique؛ حيث أصبح الذي يتحدى العلم راهنا، هو فصل المقال فيما بين هذين الفراغين (الجذبوي والكوانتي) من اتصال؛ وبالتالي، في ضرورة إيجاد العلم لبنية رياضية لهما معا، تجمع بين معادلتين: الأولى، ذات الاهتمام بالمتناهي في الكبر، والثانية بالمتناهي في الصغر، وهنا يكمن الإشكال منهجيا بالنسبة إلى العلم.

فراغ الصوفي في الروائي، ليس هو ذلك المتجلي في الفن، كما أنه ليس هو الفراغ في العلوم الدقيقة؛ الفراغ في الأول تجسيد لتجربة، والثاني لتمثل، وفي الثالث، تجسيد لطاقة هي السبب في سرعة تمدد الكون، ولحيوية ودينامية وثورة هائجة للبحر الكوانتي الهائج. وهو بذلك، (أي كما هو في فراغ الصوفي في الروائي أساسا)، ومع ذلك، يقترب من ذلك بدأ يتأسس علميا، من خلال اعتباره طاقة. 

العودة إلى الفكر الصوفي عبر الرواية في تجسيدها “الفراغ- التجربة” من خلال شخوصها، وعبر المتون الأصلية لهذا الفكر، سيشكل لا محالة إضافة نوعية للكشف عن حقيقة الفراغ، متجاوزا قضية اطلالاته في الرواية وما يمنحها من صور شعرية وإيحاءات إشراقية روحية فقط.. الرواية التي تحاول أن تبرز جمالية شعرية طاقة الفراغ الصوفي، كتجلي من تجليات طاقته، مجسدة إياه، عبر فراغ- تجربة، ستكون ذات أهمية، لأنها ببساطة تنخرط من جهة، في اهتمامات الفكر العلمي المعاصر، ومن جهة أخرى، في إرساء الفكر التناظمي والتكاملي، الذي أضحى راهنا، رافعة لتحدي فهم الظواهر المعقدة، والتي تحتاج إلى أكثر من حقل معرفي للإحاطة العميقة بها، كالتي للفراغ.

      يمكن القول بالتالي، إن التعامل اللامبالي تجاه الفكر الصوفي، سواء في متونه الإبداعية، أو من خلال الروايات ذات الإيحاءات الصوفية المجسدة للتجربة الصوفية/ التجربة- الفراغ، هو من نفس ذلك التعامل الذي مع الفراغ في الفكر الطبيعي، والعودة المحمومة راهنا للفكر الطبيعي تجاه الفراغ منذ نصوص أرسطو، يجب أن تكون بالموازاة عما يجري في الفكر الصوفي بخصوص استلهام قضايا الفراغ منه، واستئناف هذا الاستلهام عبر النصوص الروائية الإبداعية، والنصوص الصوفية المؤسسة.

يتفق الفراغ الصوفي في تجسيده الإبداعي الروائي، والفراغ العلمي، في كونهما أضفيا طاقة للفراغ كشيء، وإن كان الفارق بينهما، في كون الثاني يخضع للملاحظة والقياس، بينما الأول ليس بالضرورة أن يخضع لهما لنفس أدواتهما الإجرائية، في حيز زمكاني مخبري، وإنما من خلال تجربة- فراغ، يجسدها الإنسان ذاته. في تجربة الماوراء: ما وراء كل شيء، ما وراء الأحكام، وما وراء الضدية، وحيث تختبر الذات داخله أقصى ممكنها..

يحاول العقل العلمي أن يتحكم في الفراغ، وأن يستوعب قوانينه كشيء، له خصائص فيزيائية، وأن يفسر في دائرة الأسباب والعلل المتحكمة في الظواهر؛ بينما يحاول العقل الصوفي أن “يتحكم” فيه من خلال جعله في دائرة اللامفكر فيه، دائرة التعالي الإشراقي، الامتداد في الزمان والفضاء، و”التجربة المشدودة إلى الأقاصي” و”الموجهة برغبة الخروج من الحد والتقيد”، “الفراغ هو أس التعالي الموجه لها”؛ الفراغ عند المتصوفة تحرر، وتجرد، باعث للطاقة، بل هو مكمن الطاقة ذاتها.

“الفراغ من كل شيء” خروج أيضا، من الثنائيات ومن الضدية، فلا خير ولا شر، ولا حب ولا كره.. خروج بالتالي، من النقيض الثنائي للفراغ ذاته، الذي هو الامتلاء؛ فلا فراغ، حيث تغيب فكرة الامتلاء في تمثل الانسان. الفراغ عند المتصوفة المتصفة به، كوصف ابن عربي للنفري بـ”الفارغ من الكون”، تصور متحرر من التصور الكلاسيكي له، والذي يجعله مقابل الامتلاء، لا يتحدد وجوده إلا بغياب الأخير، كما لا يتحدد الظلام إلا بزوال النور.

هناك بالموازاة إذن، لامبالاة للفكر الطبيعي تجاه الفراغ، ولامبالاة لقضية الصوفي في الروائي، قبل نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، وهو حدث يدعو للتأمل والتساؤل: هل اقترب الفراغ من الإنسان، من خلال تجليه فيزيائيا وكوسمولوجيا (كوانتيا وجذبويا)، وتجليه صوفيا روائيا بالأساس؟ هل الرواية سرعت عبرها، من تجليه أيضا، بعد أن كان ثاويا وراء إشارات ومواقف ومخاطبات صوفية؟

 

عمر بيشو

باحث مغربي، بصدد اعداد رسالة الدكتوراه بكلية علوم التربية، جامعة محمد الخامس، السويسي الرباط، له مجموعة من المقالات التي تعنى بقضايا التربية والتدريس، وبقضايا الفكر العربي المعاصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى