البنيوية في الأدب
تطورت مناهج التحليل البنيوي في الأدب انطلاقاً من النظرة إلى النص الأدبي كمظهر من مظاهر اللغة، ما يجعل بالإمكان دراسته بوساطة الشبكات أو البنى المستعملة في دراسة اللغة: بنى نحوية، خطابية، صوتية، ليصبح بذلك نسق اللغة نموذجاً للنقد.
وقد طبق البنيويون التحليل البنيوي على الأجناس والأشكال والأساليب الأدبية لمعرفة كيف تعمل وكيف تركب ضمن نسق لغوي ذي نظام ثابت ومتغير في الوقت نفسه ضابط النصوص الأدبية، وطبق هذا النظام على بنية الرواية، ولم يكن التطبيق على المعنى الذي يقدمه النص الأدبي بل على البنية التي يخضع لها النص ليولد المعنى. وذهب البنيويون إلى إظهار العمل الأدبي نموذجاً أو منتجاً يمثل هذه البنية.
وكان لدراسة ليفي شتراوس للأسطورة وبنيتها أكبر الأثر في تطوير نظرية النقد البنيوي في الأدب، إذ سلط الضوء على أسطورة أوديب مثلاً، بأن تناولها وقسّمها إلى أحداث صغيرة تتكرر، ويعاد تركيبها وتشكيلها ضمن شبكة ذات بعدين متضادين ليستخرج منها التقابلات المهمة ذات الدلالة التي يُفترض أن الأسطورة تدور حولها، ليس حسب التسلسل الزمني أو التراكم الحدثي وإنما الدلالي البنيوي لها.
فأحداث الأسطورة مهما كان عددها تُصنف حسب البنية التي تحكمها إلى أعمدة أربعة تبعاً للمعايير التالية: الإفراط في تقدير صلات القرابة (أوديب يتزوج يوكاستا)، الحط من قدر صلات القرابة (أوديب يقتل أباه)، قتل الوحوش (أوديب يقتل الهولة)، صعوبة الوقوف بانتصاب (لايوس أعسر، لابداكوس أعرج). وهكذا فجميع الأساطير تتبع نظاماً بنيوياً واحداً ولكن تظهر في أشكال متعددة ومتكررة.
هكذا يوظف النص الأدبي نموذجاً يوضح البُنى والمعايير التي تحكمه، ويعتمد في هذا على مبدأ القطبية الثنائية أو الثنائيات الضدية التي يُبنى على أساسها الإطار الذي يولد المعنى ويُحصر ضمنه مثل: الطبيعة/ الحضارة، الذكر/ الأنثى، الحياة/ الموت، المفتوح/ المغلق، الخير/ الشر.
أسهم ياكوبسون أيضاً في دراسته للنص الأدبي واللغة المستخدمة للكتابة باكتشاف قوانين جديدة تحكم النص، فعارض النظرة السائدة حول معايير الرواية الأدبية التي تقول بأن الرواية الأدبية تتقدم زمنياً من خلال تطور الأحداث فيها، وبأنها لاتخضع لقانون التزامن وإنما التزمن فقط؛ وقدم طرحاً جديداً بأن اللغة الأدبية موجودة في فضاء محدد ترتبط فيه عناصرها ببعضها أفقياً، كما العلاقة بين المركبات والكلمات التي تؤلف جملة؛ وشاقولياً بعلاقة تبادلية تسمح للكلمات التي تنتمي إلى الفئة الوظيفية نفسها بأن تحل محل بعضها في الجملة.
فهناك إذاً محور شاقولي يختار فيه الأديب الكلمات ثم يركبها حسب المحور الأفقي في فضاء بنيوي يولد النص الأدبي الروائي الذي تضبطه معايير وقوانين بنية هذا الفضاء. وفقاً لهذا يظهر النص تبعاً لنظامه اللغوي وليس لإرادة المؤلف، وعلى الباحث أن يسبح في فضاء النص ليكشف البنية الحقيقية عن طريق التناص، وما يضعه المؤلف هو نصوص مكتوبة سلفاً لنظام أو نسق للكتابة مسبق الصنع.
لقد أجريت أولى المقاربات البنيوية للأدب في روسية. فهناك من جهة دراسة ڤلاديمير پروپ (1895-1970) V.Propp عن الحكايات الشعبية في روسية: «مورفولوجية الحكايات الشعبية» (1928) Morphology of the Folktale، وفيها يعالج مئة حكاية من الحكايات الشعبية ويدرس كل حكاية على حدة بصفتها بنية متفردة، ليستنتج أن شخصيات الحكايات متغيرة لكن وظائفها «أي ما تفعله الشخصية من وجهة نظر أهميتها في مجرى الحدث» تبقى ثابتة ومحدودة، ونجد من جهة أخرى الدراسات التي كتبت في المدة الممتدة بين 1915 و1930 ولم تعرف في أوربة إلا في الستينات تحت اسم الشكلانية Formalisme الروسية.
ومن بين واضعي هذه الدراسات تتميز أسماء توماشڤسكي (1890-1957) B.V.Tomasjevski، وآيخنبوم (1886-1959) B.M.Eichenbaum ، وشكلوڤسكي (1893ـ) V.V.Chklovski، وتينيانوڤ (1894-1943) V.V.Tynyanov، وڤينوگرادوڤ (1895-1969) V.V.Vinogradov، كما تدخل في سياق هذه المقاربات كتابات الناقد ميخائيل باختين M.Bakhtin «فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية إبان النهضة» (1965)، و«شعرية دستويفسكي» (1929)، و«علم جمال الرواية ونظريتها» (1965)، و«جمالية الإبداع اللغوي» (1979)، و«الماركسية وفلسفة اللغة» (1929). وقد وجدت دراسات بروب ورثة لها في النقد البنيوي الفرنسي لدى كل من الجيرداس جوليان گريماس (1917- 1986) A.J.Greimas وكلود بريمون (1929-) Cl.Bremond وتزفيتان تودوروف (1939-) T.Todorov.
اهتم الناقد الليتواني الأصل غريماس، بوجه خاص، بعلم الدلالة في مؤلفاته «علم الدلالة البنيوي» (1966) و«أبحاث في علم الدلالة» (1970)، و«علم الدلالة والعلوم الاجتماعية» (1976) فوضع مجموعة من المفاهيم التي تسمح باستشفاف البنية الأساسية للمعنى. وقد نظم هذه المفاهيم في مخطط نمطي قابل للتطبيق على أي نص سردي. وتابع بريمون في «منطق الحكاية» (1973) الارتباط المنطقي للوظائف التي تتضمنها كل حكاية ليحدد الإمكانات البنيوية لترابط السرد تبعا لمنظومة ارتقاء وانحطاط، مما يسمح له بوضع تصنيف للمقاطع السردية. أما تودوروف فقد استخلص من دراساته للأدب العجائبي في «مدخل إلى الأدب العجائبي» (1970) Introductionla littérature fantastique الهيكلية البدئية العميقة التي تُبنى عليها نصوص هذا الجنس الأدبي.
إلى جانب هذه التصديات البنيوية لقضايا عامة في الأدب هناك مقاربات ترد على ما أخذه نقاد البنيوية على منهجيتها من عدم صلاحيتها لقراءة النصوص الفردية. ومن أهم ما أنتج في هذا المضمار أعمال رولان بارت[ر] R.Barthes مثل دراسته «اس/ زد» (1970) S.Z التي يقدم فيها قراءة نقدية عملية لقصة «العربي» لبلزاك[ر]، ودراسة تزفيتان تودوروف «قواعد ديكاميرون» (1969) Grammaire du Décaméron عن كتاب بوكاتشو[ر]، وجيرار جينيت (1930ـ) G.Genette في الجزء الثالث من كتاب «أشكال 3» (1972) Figures III الذي يقدم فيه دراسة منهجية لرواية «البحث عن الزمن المفقود»A la recherche du temps perdu لمارسيل بروست[ر]، ويعد هذا الكتاب المرجع الأساسي للدراسات السردية. وبهذه المقاربات وصلت البنيوية إلى مرحلة ما بعد البنيوية.