سرديات

الكتابة في جو من الندم الفكري

المصادرة الأساس التي ينطلق منها عبدالفتاح كيليطو في كتابه الأخير: «في جو من الندم الفكري» (منشورات المتوسط، إيطاليا) هي أن المرء يبحث عما هو في متناوله. المعرفة الأولية ليست معرفة أولى. الأَوّلِيّ يُعثَر عليه في نهاية مسار. والبداهة ليست مُعطًى أول، وإنما هي في نهاية تحليل. لا عجب أن تتكرر في الكتاب بمجموعه عبارة كافكا، التي يُعزّها كيليطو أيما إعزاز، حتى إنه وضعها عنوانًا لأحد كتبه: «ما نبحث عنه يوجد قربنا».


يستلهم كيليطو إبيستمولوجيا البداهة هذه من الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. نتبين ذلك بمجرد أن نفتح الكتاب الذي يُستهل في عتبته بهذه العبارة المأخوذة من كتاب «تكوين الفكر العلمي» حيث يقول باشلار: «إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء، فإننا نلفي الحقيقة في جو من الندم الفكري. والواقع أننا نعرف ضد معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء، وتخطي ما يعرقل، في الفكر ذاته، عملية التفكير».

ليس الندم المقصود هنا ندمًا أخلاقيًّا، ليس ندمًا على تصرفات وأفعال. كما أنه ليس ندمًا عَرَضيًّا، وإنما هو من صميم المعرفة، بل هو من صميم الفكر بما هو كذلك. فالأمر لا يتعلق بتدارك زلات يقع فيها الإنسان عَرَضًا، ومن حين لآخر، وإنما ببنية الفكر كفكر. الفكر ينطوي على ما من شأنه أن يجره نحو الخطأ. هناك، كما يقول باشلار: «في الفكر ذاته ما يعرقل عملية التفكير».


لسنا هنا أمام إبيستمولوجيا ديكارتية تنطلق من حقائق أُولَى وتضطر لأن تفترض افتراضًا شيطانيًّا ماكرًا يخدع الفكر. نحن، على العكس من ذلك، أمام إبيستمولوجيا لا ديكارتية تفترض أن الفكر يخادع نفسه من غير حاجة إلى افتراض شيطان ماكر. تقوم هذه الإبيستمولوجيا على مصادرة أساس وهي أنه «في البدء كان الخطأ». هنا تغدو كل معرفة تقويمًا لاعوجاج وتصحيحًا لأخطاء.


  • الكتابة نشأة مستأنفة

كل تفكير هو «تخطي ما يعرقل في الفكر ذاته عملية التفكير». ستصبح الكتابة، والحالة هذه «نشأة مستأنفة» بعبارة ابن خلدون. نقرأ في الكتاب: «الخطأ ليس شيئًا يحدث أو لا يحدث، إنه على العكس المكون الأساس للكتابة، معدنها وطبعها. أن تكتب معناه أن تخطئ. الكتابة هي دومًا إعادة النظر».

يعبر كيليطو عن ذلك تعبيرًا «حديثًا» فيقول: إن النص ما يفتأ «يُعالج»: «المرض والحالة هذه هو الأصل، والعافية مجرد فرع، مجرد خطأ. هكذا تبدو كتاباتي عندما أعيد قراءتها، نصوص مريضة يتعين علاجها، مع يقيني أن العلاج لا نهاية له. هنا ربما ندرك تعريفًا للنص الأدبي. إنه ما لا يفتأ يُعالَج، بكل معاني الكلمة».

بهذا المعنى، فإن الكاتب ينظر دومًا إلى ما سبق أن كتبه على أن فيه دومًا شيئًا لا يستقيم. فيه دومًا إغفال أو تضييع فرصة سنحت، أو حتى عدم انتباه إلى أمور كان من شأنها أن تبدو جلية واضحة. فعلى سبيل المثال، بعد أن أكد كيليطو غير ما مرة أن لا أحد ينام في «الليالي» نبهته إحدى الدارسات إلى تسرعه: «كنت خارج الرباط حين توصلت برسالة من أستاذة تُدَرس «أنبئوني بالرؤيا».

كتبت تعلمني أنها قلقة لأن الترجمة الفرنسية لـِ«ألف ليلة» – وكانت تشير على وجه التحديد إلى ترجمة أنطوان غالان التي نُشرت في بداية القرن الثامن عشر– جاء فيها أن الشخوص الثلاثة ينامون جزءًا من الليل. ارتبكت وطلبت منها أن تبعث لي الفقرات التي تثبت ذلك، وعند توصلي بها لم يبق وجه للشك أو الإنكار، فتملكني غيظ شديد من نفسي ولمتها على التسرع وإلقاء الكلام على عواهنه والولع بالغرابة إلى درجة أنني نسبت إلى النص ما لم يقُله».


من جملة الاستدراكات التي يوليها كيليطو أهميةً في كتابه هذا، تلك التي تتعلق بأحد عناوين كتبه، وهو كتاب «بحبر خفي» حيث يكتب: «تبين لي ذات يوم وعلى حين بغتة أنه يمكن أن يُقرأ بحَبر خفي، والحَبر كما نعرف هو المتبحّر في العلوم، ولا غرو أن تتم الإحالة على البحر بصدده.

يكفي تبديل شكل حرف ليختلف معنى العنوان، بل معنى الكتاب بكامله. لم أكن واعيًا بذلك، كنت غافلًا تمامًا عن الحَبر، وعن البَحر، لكن اللغة لا محالة واعية ودائمًا بالمرصاد، تنتظر الفرصة والوقت المناسب للإفصاح عن المعنى المستتر».


يشبه كيليطو وضع الكاتب وهو لا يرى ما هو قريب منه بذلك الشخص الذي يبحث، كل صباح، عن مفتاح بيته، إلا أنه غالبًا ما يتبين أخيرًا أنه في جيبه: «قد يكون من المناسب في هذا السياق التذكير بحادث كثيرًا ما يحصل: في الصباح وأنت على وشك الخروج، وقد تأخرت، تهرع إلى الباب، ولكن أين هو المفتاح؟ تبحث عنه في كل مكان، تسأل من يكون برفقتك، تغضب، وأخيرًا تدرك أنه في جيبك. فقدانك المفتاح، وقضاؤك وقتًا طويلًا تبحث عنه، بينما هو في متناولك… غير أنك لن تهتدي إليه إلا بعد بحث محموم يستغرق وقتًا قصيرًا أو طويلًا».

لا تخفى هنا أهمية استعارة «المفتاح» هذه بوصفه أداةً لفتح الأبواب وفك الألغاز وتأويل النصوص، إلا أن المرء، بكل أسف، قد لا يعثر على المفاتيح إلا بعد فوات الأوان. هذا ما حصل لصاحب «الندم الفكري» فيما يتعلق بالكتابة عن رواية غوستاڤ فلوبير، «التربية العاطفية»: «التزمت ذات يوم بالكتابة عنها في مؤلف جماعي ذي شأن كان سيصدر بالإيطالية، عن الرواية في بعدها العالمي، غير أنني ترددت معتقدًا أنني لست جديرًا بالقيام بهذا العمل.

وفي النهاية تخليت عنه. تأسف الباحث الإيطالي المشرف على المشروع وقال، إني تذكرت جيدًا، إنه كان يترقب أن أقدم مقاربة خاصة للرواية. كلام يثلج الصدر، أن يكون ما تقول، ما كان يمكن أن تقول، ما لم تقل، فريدًا من نوعه. تبين لي فيما بعد ما قد يكون المقصود، أنني سأمنح مسحة، لنقل عربية، للرواية، نغمة مستطرفة مميزة، شيئًا لا يمكن أن يأتي به إلا قادم من ثقافة مختلفة، غير أوربية، من لغة الضاد…

ولما سمعت قول الأستاذ تملكني شيء من الندم على ترددي وإحجامي، وإلى اليوم أحِنّ إلى هذا العمل الفريد النادر الذي لم أنجزه وليست لي أدنى فكرة عن مضمونه ومحتواه».

الكتابة ندم متواصل على ما فات أن كُتب، وعلى ما لم يُكتب بعد.


مجلة الفيصل

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى