سينما ومسرح

نصف قرن على فيلم “العرّاب”

- ذكريات المخرج فرانسيس كوبولا -

تقدّم شركة باراماونت بيكتشرز لمحبي الأفلام عرضًا لا يمكنهم رفضه، حيث سيعود فيلم “العرّاب” The Godfather إلى السينما مجددًا كجزء من الاحتفال بالذكرى الخمسين لإصدار الفيلم.


سيعرض الفيلم بأفضل جودة ممكنة، سواء على الشاشة الكبيرة أو على شاشات المنازل، بدءًا من 25 شباط/ فبراير الجاري حصريًا في الولايات المتحدة في مسارح AMC بتقنية دولبي سينما، كما سيعرض بشكل محدود أيضًا في بعض الدول. بالطبع لن يستطيع كل محبي الفيلم الاستمتاع به في العرض السينمائي المحدود، لكنه سيكون متاحًا بعد ذلك بأكثر من طريقة مشاهدة، ليصل إليه المعجبون في كل مكان كما لم يحدث من قبل.

استغرقت عملية ترميم الفيلم ما يقرب من ثلاث سنوات، وتمت تحت إشراف المخرج فرانسيس فورد كوبولا، للوصول إلى أفضل دقة ممكنة، بالإضافة إلى عملية ترميم البقع والتمزقات التي احتاجت إلى ما يقرب من 4000 ساعة وإلى عملية تصحيح الألوان التي استغرقت 1000 ساعة تقريبًا في محاولة للوصول إلى نسخة أقرب للعمل الأصلي من قبل كوبولا والمصور السينمائي جوردون ويليس.

وسيأتي الإصدار المحدث من الفيلم إلى المنصات والمتاجر الرقمية بدءًا من 22 آذار/ مارس القادم بدقة تصل إلى 4 ULTRA HD، ويظهر المقطع الدعائي جمال النسخة المرممة وجودة صورتها.

قال فرانسيس فورد كوبولا: “أنا فخور جدًا بتلك الملحمة الثلاثية، ومن دواعي سروري الاحتفال بهذا الإنجاز مع شركة باراماونت جنبًا إلى جنب مع معجبي الفيلم الذين أحبوه لعقود، ومع الأجيال الشابة التي تستكشف الفيلم لأول مرة”.


  • أحد أشهر أفلام العصابات على الإطلاق

هناك فترتان منفصلتان بالنسبة لأفلام العصابات وهما قبل وبعد فيلم “العرّاب”، حيث وضع الفيلم معيار القياس، ليس فقط لأفلام الجريمة ولكن للأفلام بشكل عام. يعتبر النقاد الأجزاء الثلاثة لهذا الفيلم من بين أفضل الأفلام التي أنتجت عبر تاريخ السينما على الإطلاق. ولا يختلف رأي الجماهير عن رأي النقاد فيما يخص الفيلم.

تذكر التقارير أن فرانسيس فورد كوبولا، مخرج الفيلم، لم يكن الاختيار الأول لشركة باراماونت، حيث عرضت الشركة الفيلم على ما يقرب من 30 مخرجًا آخر، لكنهم رفضوه جميعًا. يقول كوبولا إنه لا يملك معلومة مؤكدة حيال عدد المخرجين الذين رفضوا الفيلم.

لكن بالتأكيد هناك بعض المخرجين الذين رفضوه بالفعل، لأنه قبل نحو عام من بداية العمل على فيلم “العرّاب”، كان هناك فيلم من بطولة كيرك دوجلاس مبني على رواية بعنوان “THE BROTHERHOOD” وقد كان إنتاجًا كبيرًا نوعًا ما حول المافيا ولم ينجح الفيلم، لذلك اعتقد الكثير من المخرجين في ذلك الوقت أن فيلم “العرّاب” لن ينجح.

ويضيف: “في تلك الأيام كان عمري 29 عامًا. كانت الفكرة هي صنع الفيلم في مقابل مليوني دولار أو أقل، وربما توظيف مخرج إيطالي أو إيطالي- أميركي ليتمكن من فهم العلاقات داخل الفيلم”.

في ذلك الوقت كان كوبولا أول طالب سينمائي يحصل على فرصة إخراج فيلم روائي طويل، بعد أن حقق نجاحًا متواضعًا في فيلم “YOU’RE A BIG BOY NOW” وكان هناك جدل دائر في الأوساط السينمائية حول معدات جديدة خفيفة الوزن ومنخفضة التكاليف، وكان ستوديو باراماونت مهتمًا بعمل نسخة رخيصة من الرواية.

المخرج فرانسيس فورد كوبولا خلال احتفالية الفيلم الـ50 على مسرح باراماونت بلوس أنجلوس، 22/2/2022 (gettyimages)
  • صدفة صنعت الفيلم!

يقول كوبولا في أحد حواراته إنه لم يكن يعرف شيئًا عن المافيا لكنه كان مفلسًا وبحاجة إلى العمل على الفيلم، لذلك ذهب إلى المكتبة واختار ثلاثة كتب كلاسيكية حول المافيا لقراءتها. تعرّف من خلال الكتب على عائلات المافيا في نيويورك، ونقطة التحول الشهيرة في تاريخ مافيا نيويورك وهي مقتل زعيم المافيا سالفاتور مارانزانو على يدي لاكي لوسيانو. بالإضافة إلى تعرّفه على شكل حياتهم وعلاقاتهم وكل ما يخصهم.

كان كوبولا منبهرًا بفكرة تقسيم نيويورك إلى مناطق نفوذ تبعًا لكل عائلة يديرونها مثل إدارة الأعمال التجارية؛ شخص ما مسؤول عن المخدرات والآخر عن البغاء وآخر عن المقامرات. عندما قرأ هذه الكتب أدرك أن المافيا مادة مثيرة للاهتمام ويمكنه العمل عليها بالفعل، وأصبحت لديه نقاط مرجعية جديدة فقرأ العمل الأصلي من جديد ودوّن ملاحظات وأفكارًا أثناء القراءة.

يذكر كوبولا أنه لم يسر على نهج الرواية في أثناء تحضيره للفيلم، لكنه كسر التسلسل وعمل ملخصًا بسيطًا للأحداث، وكتب فكرته عن الحياة في الأربعينيات ثم بدأ في تصور صورة ونمط كل مشهد. عندما تولى إخراج الفيلم قام بقص صفحات الرواية التي دون بها ملاحظاته ولصقها بالترتيب في دفتره، ليتمكن من تحليل كل مشهد على حدة.

  • “عنزة سوداء” في باراماونت!

لم يدرك كوبولا أن الفيلم سيحوز إعجاب الجماهير سوى بعد عرض الفيلم بالفعل، لأن الفيلم كان أشبه بـ”عنزة سوداء” في باراماونت، كما سماه كوبولا. لم يعجب الفيلم مجتمع هوليوود، ولم تعجبهم الفكرة ولم يحبوا كوبولا، لكن الفيلم حقق نجاحًا كبيرًا. قرر كوبولا التركيز على قصة الأب والإخوة وأخرجها كقصة كلاسيكية وليس كقصة معاصرة.

عند بدء التصوير وبسبب ميزانية الفيلم الضئيلة، لم يكن مطروحًا تصوير الفيلم في نيويورك، لأنها المدينة الأغلى في العالم للتصوير، واقترح صناع الفيلم تصويره في لوس أنجلوس أو كنساس سيتي وسان فرانسيسكو، لكنه صمم على تصوير الفيلم في نيويورك.

في ذلك الوقت بدأ الكتاب في بيع المزيد والمزيد من النسخ، وعرف كوبولا كمخرج شاب لا يتهاون في أفكاره، لكنه بالرغم من ذلك ذهب مع آل رودي وفريدريكسون، من منتجي الفيلم، لإلقاء نظرة على ولاية كنساس وعلى الحي الإيطالي بها، ثم أكملوا الرحلة إلى سان فرانسيسكو، لكنه صمم على مدينة نيويورك قائلا: “إنها قصة نيويورك وعائلات نيويورك الخمس ويجب تصويره في المدينة”.

بدأت المشاكل عندما حاول كوبولا القيام بمواءمة تجعل من التصوير في نيويورك ممكنًا بميزانية محدودة، ثم بدأ الحديث عن اختيار الممثلين. عندها بدأ كوبولا بإجراء المقابلات مع الممثلين وفريق العمل، من مصممي الأزياء ومخرجين فنيين، واختار عمدًا الأشخاص الموجودين في نيويورك لتقليل تكلفة النفقات والسفر من مدينة إلى أخرى.

آل باتشينو (إلى اليسار) بدور مايكل كورليوني  ومارلون براندو بدور فيتو كورليوني في لقطة من الفيلم (بارامانوت)
  • اختيار الممثلين

عند بدء اختيار الممثلين كان اختيار المنتجين الأول هو روبرت ريدفورد ليقوم بدور مايكل كورليوني. لم يرى كوبولا أن ريدفورد يصلح للدور لأنه لا يبدو إيطاليًا، إلا أنهم قالوا إن هناك الكثير من الإيطاليين الشقر أصحاب الشعر الأحمر والعيون الزرقاء، لكنه أصر على أنه يجب أن يبدو إيطاليًا تمامًا. اقترحوا بعد ذلك رايان أونيل لأنه كان قد حصد نجاحًا في فيلمه “قصة حب”. اعتقدوا أنه مناسب لأنه أصغر من ريدفورد وحصد نجاحًا كبيرًا.

لم يوافق كوبولا على الاختيار، رغم أن منتجي الفيلم اختاروا مخرجًا صغيرًا للمهمة ليمكنهم توجيهه لكن لم يفلح الأمر مع كوبولا.

يقول كوبولا: “كنت كلما قرأت مشاهد فيتو كورليوني أجد أمامي وجه ممثل مسرحي شاب لم يقدم أي أفلام من قبل”. كان هذا الممثل هو آل باتشينو لكن منتج الفيلم لم يجده اختيارًا مناسبًا وقال إنه “شاب قصير”.

دافع كوبولا عن اختياره قائلًا إنه ممثل جيد جدًا ويبدو إيطاليًا. رفض منتجو الفيلم آل باتشينو في دور فيتو كورليوني، لكنه في نهاية الأمر لعب دور مايكل كورليوني.

استمر كوبولا في اختبارات الأداء لممثلين لا يعرفهم أحد، مع استياء المنتجين من التكاليف المهدرة. اقترح المنتج روبرت إيفانز أن يلعب المنتج كارلو بونتي الدور، رغم أنه لم يكن ممثلا لكنه ليس بعيدًا عن عالم السينما. اعترض كوبولا قائلًا إن بونتي إيطالي حقيقي، يتحدث الإنكليزية بلكنة إيطالية، بينما رجال المافيا في الفيلم ليسوا إيطاليين. إنهم من سكان نيويورك ويتحدثون تمامًا مثل سكان هذه المدينة.

بعد العديد من الاجتماعات طرح كوبولا اسم مارلون براندو للقيام بدور فيتو كورليوني، لكن رئيس استوديو باراماونت ستانلي جيف رفض الاقتراح بسبب ارتفاع أجر براندو، وما عرف عنه بعدم الالتزام بمواعيد التصوير.

بسبب إصرار كوبولا على براندو وضع جيف شرطين لقبول براندو كبطل للعمل وهما: أن يخفض براندو من أجره، وأن يتحمل أي تكاليف إضافية في حال عدم التزامه بالمواعيد، وذلك بالإضافة إلى شرط آخر تعجيزي تمامًا وهو أن يخضع براندو لتجربة أداء.

فكر كوبولا كيف سيخبر براندو بذلك الشرط الأخير. قرر الذهاب إلى منزل براندو مع طاقم تصوير صغير، واتفق معهم على ارتداء ملابس سوداء والتواصل فقط بالإشارات دون صوت. أخذ معه سيجارًا إيطاليًا، وبعض أجبان البورليفون والسلامي، وزجاجة عرق إيطالي.

وهو كل ما يستعمله رجال المافيا الإيطالية. وضع كل هذه الأشياء في غرفة معيشة براندو. عندما استيقظ هذا الأخير وجد كل ما وضعه كوبولا أمامه، فجلس وبدأ في تناول قطع الجبن وشرب العرق، ثم أشعل السيجار، ثم رفع شعره الأشقر الطويل لأعلى رأسه. رن جرس الهاتف فذهب براندو للرد.

يقول كوبولا: “نظرت إليه بدهشة وقد تحول فجأة من براندو إلى شخصية فيتو كورليوني”. استطاع كوبولا بهذا الفيديو القصير إقناع الجميع برأيه ليقوم براندو بالدور في نهاية الأمر، ورغم أنه يذكر صعوبة التجربة إلا أن نجاح الجزء الأول كان سببًا في إنتاج الجزأين الآخرين دون ترتيب مسبق.

  • ذكرى مروعة

يقول كوبولا إن ذكرى الفيلم ما زالت مروعة بسبب الأحداث التي مرّ بها خلاله، لكنه الفيلم الذي وضعه على خريطة المخرجين، وجعله يعمل بعد ذلك بالطريقة التي يفضلها.

يعد الفيلم عملًا جماعيًا أو خلطة فنية مثيرة صنعها كوبولا ومعه آل باتشينو ومارلون براندو والكاتب ماريو بوزو والمصور السينمائي جوردي ويليس.

وعندما تستعيد الجماهير المحبة للفيلم ذكراه، أو تشاهده الأجيال الجديدة لأول مرة، لا يتوقع أحد كم المصادفات والمشاحنات التي حدثت ليخرج الفيلم بصورته النهائية. ربما تفتح ذكريات صناعة الفيلم أفق المشاهدين على خيال كبير من الأبطال والنجوم المحتملين لأدوار الفيلم الذي يعتبر جزءًا من تاريخ السينما العالمية بالكامل.


  • مصادر:

https://www.cheatsheet.com/entertainment/the-godfather-director-francis-ford-coppola-once-revealed-the-secret-way-he-cast-marlon-brando.html/
https://www.limaohio.com/features/entertainment/491345/secrets-of-the-godfather-unraveled
https://www.mentalfloss.com/article/62427/15-things-you-didnt-know-about-godfather
https://www.cigaraficionado.com/article/the-godfather-speaks-6147


ضفة ثالثة

سارة عابدين

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى