سينما ومسرح

من عصر الشاشة إلى ذاكرة السينما

لِمَ أضحت السينما اليوم غير سينما الأمس، وغدت الرسوم المتحركة غير ذاتها، وغدت معها حياتنا غير تلك التي عشناها؟ وأنا أطرح على نفسي هذه الأسئلة وغيرها، يتملكني حنين خفيف إلى وقت كان فيه ولوج قاعة السينما طقسًا أسبوعيًا شكّل إيقاعًا لحياتنا ونحن صغارًا، وأضحى وتيرةً مفعمة بالنضال وأحلام ثقافية كبرى كنا نعيشها شبابًا في حضن مدننا.

وحين يتحدث بعضهم اليوم عن الشبكية تعود بي الذاكرة إلى السبعينيات حيث كانت شبكة الأندية السينمائية تضم من الخلايا والأفراد أكثر مما كانت تحوز عليه أغلب الأحزاب في تلك الفترة حتى الأكثر جماهيرية منها.


حين كانت أغلب الصور التي تلتقط لنا، وأغلب التلفزات التي تلج بيوتنا، لا تزال تتسربل فقط بالأبيض والأسود، مثلها مثل أحلامنا، كانت قاعة السينما وبعدها قاعة النادي السينمائي تشكل فردوسًا ملوَّنا لمتخيلنا المملوء بالحكايات وبقايا الخرافات والأساطير، ثم بالأخبار السياسية وما يقع في العالم من ثورات واغتيالات.

 

  • من قاعة السينما إلى النادي السينمائي

بالمغرب، كما ببلدان أخرى كمصر وتونس وغيرها، كانت الأندية السينمائية في السبعينيات تشكل المقابل الثقافي للكتابة الأدبية والنضال السياسي. ونوادي المغرب، التي كان وراء تأسيسها وانتشارها أستاذ الفلسفة والعاشق للسينما، نور الدين الصايل، لم تكن فقط مجالًا لترويج سينما مغايرة لسينما القاعات، وإنما أيضًا لإنتاج ثقافة سينمائية متجذرة في وعي الشباب.

وهكذا وجدنا أنفسنا ننتقل من طفولتنا السينمائية المتشبعة بالأفلام الهندية والوسترن، كما بأفلام الكاراتيه والأفلام البوليسية وأفلام الحركة، إلى عالم سينمائي ذي إيقاع خاص، بشخصيات تبدو لنا كأنها تخرج من الروايات، وبذكاء يتلاعب بارتقابنا ومنتظراتنا… فلقد دخلنا النادي السينمائي بفرحة واضطراب يكاد يشبه خروجنا من الطفولة إلى عالم اليفاعة والشباب.

والحقيقة أن الشبه كبير، إذ إننا ولجنا هذا المجال وكأنه شاشة كبرى تنعكس عليها صورة العالم. تسللنا للنادي ولأطره تدريجيا، ثم بفضل وجود الطلبة والمثقفين المنخرطين فيه، استطعنا أن نتولى تسييره بعد انتخابات حاسمة. هكذا أضحى النادي السينمائي مصدر إيقاع لحياتنا، ولنقاشاتنا.

وكان علينا أن نمارس فيه “تصفية الاستعمار” بفرض اللغة العربية في مناقشات الأفلام إلى جانب اللغة الفرنسية وأن نعمل على تثبيت ثقافة سينمائية خليقة بهذا الدور الجديد الذي منحناه لأنفسنا.

 وهكذا قمت بترجمة منتظمة للبطائق التقنية (لأول مرة في تاريخ الأندية السينمائية) إلى اللغة العربية حرصًا منا على أن تكون مزدوجة اللغة. فنحن رغم قوميتنا لم نكن نعادي اللغة الفرنسية، إن لم نكن عشاقًا لها. وقد ظلت هذه البطائق تُستخدم سنوات طويلة بعد ذلك.

كانت تلك أولى محاولات الترجمة التي ستلازمني حتى اليوم… وفضلًا عن هذا أصدرنا في النادي مجلة (تسحب بتقنية الرونيو) بدأنا ننشر فيها كتاباتنا الأولى عن السينما المغربية والعربية والعالمية، وقمنا أيضًا بالاشتراك في أهم مجلة سينمائية فرنسية هي “دفاتر السينما”، التي كتب فيها وخرج من أحضانها نقاد وسينمائيون شهيرون كجان لوك غودار، وفرانسوا تروفو وغيرهما.

كان نور الدين الصايل يوظف علاقاته العربية والغربية لاستدعاء مخرجين عرب وأجانب  

كان النادي يعيش على إيقاع متعدد، وبوسائل أولية لم تكن تتيح له الاستقلالية، إلا في هوامش ضئيلة تتصل بمبادرة مسيريه وأعضائه. فالأفلام رهينة بالتوزيع، والمكتب المركزي للفيدرالية الوطنية للأندية السينمائية يستقيها من السفارات ومن المركز السينمائي المغربي، وأحيانًا من المخرجين أنفسهم على سبيل الاستعارة.

وكم تكون الخيبة كبيرة حين يتأخر وصول الشريط عبر الحافلة، لهذا السبب أو ذاك، فيعم الاضطراب، ويكون على مكتب النادي أن يرتجل نشاطًا إن لم يعتذر بكل بساطة للمنخرطين. لحسن حظ نادينا أنه كان موجودًا في المدينة التي يوجد بها موزع الأفلام، ومخزن الأفلام.

وكنت لهذا السبب أتقرّب كثيرًا من هذا الموزع “الأسطوري” الذي كان حارسًا عاما بإحدى الثانويات، بل إني صرت من أعز أصدقائه لسنوات طويلة بعد ذلك، حتى وفاته. هذه الصداقة كانت تمكنني من أن أعلم مسبقًا خبر تأخر الفيلم أو إلغائه، وأن أستبق الأمر بعرض فيلم آخر… بل إن معرفتي بمحتويات مخزن الأفلام وبالأفلام الجديدة المقتناة، كان أمرًا يمكننا من تنظيم أسابيع سينمائية خاصة بنا.  


  • النادي السينمائي: الدخول إلى عصر الصورة

حين تحدث رولان بارت عن السينما، لم تكن تهمه الصورة ولا بلاغتها (كما في حال الإشهار مثلا)، بل تجربة الخروج من السينما والدخول إلى السينما. ففي هذا المقال الذي صدر في الفترة نفسها من أواسط السبعينيات يجعلنا بارت نعيش حال الحلم والتنويم الذي نعيشه في سواد القاعة.

وحين يقارن الفيلم في السينما مع الفيلم في التلفاز يعتبر أن البيت، أي المكان الأليف الذي يوجد به التلفاز، مكان تنزع ألفته الطابع الإيروسي عن عملية المشاهدة.

كنا نحن أيضًا نرتاد السينما العمومية ليلًا لمشاهدة أفلام نتصيد ونترقب ظهورها في قاعات المدينة الجديدة، ونهرع لمشاهدتها قبل أن ينتزع الملصق من واجهتها، لأن عرضها لم يكن يدوم أكثر من يومين أو ثلاثة، نظرًا لأنها لم تكن أفلامًا جماهيرية.

بيد أننا كنا ننظم عروضنا وأنشطتنا في النادي في صباح الأحد، أي في أوقات شغور القاعة. وكنا نعيش أحلامنا في قاعة مظلمة تشبه الرحم، وحين نخرج نكون مشبعين بالنقاش والكلمات والسجالات. كنا نعيش حلم يقظة ثقافيًا وسينمائيًا ممهورًا بأحلام كبرى.

والسينما التي نتداولها في النادي السينمائي كانت تتراوح بين السوريالية (دزيغا فيرتوف) والواقعية (أيزنشتاين، تاركوفسكي…) والتجريب (جان لوك غودار، فرانسوا تروفو، سيدني بولاك، إنغمار برغمان)… هنا أيضًا اكتشفنا السينما العربية الأخرى (يوسف شاهين، صلاح أبو سيف…)، والسينما التسجيلية (برهان علوية، وسينما أميركا اللاتينية).

كان النادي بوابتنا المشرعة على عالم موازٍ، نتمتع به بشكل مزدوج: بالفكر السينمائي كما بمعطيات عن بلدان لم نكن نعرف إن كنا سنزورها في يوم ما.

حين تحدث رولان بارت عن السينما، لم تكن تهمه الصورة ولا بلاغتها، بل تجربة الخروج من السينما والدخول إلى السينما

بل إن هذه الأندية السينمائية كانت مشتلًا لتخريج السينمائيين. أتذكر أن السينمائيين المعارضين في أميركا اللاتينية كانوا ينتجون أفلامًا بكاميرا “السوبر 8” التي كانت في المتناول، والتي كانت تجهيزاتها (طاولة المونتاج، والعارض على الشاشة) قابلة للاقتناء والتنقيل.

كما أتذكر أن أول شيء اقتنيته بعد الحلول بباريس، كان آلة تصوير من هذا النوع استخدمتها مرارًا، مع ملحقاتها، ولا زلت أحتفظ بها لحد اليوم. كانت الأندية مخبرًا كبيرًا للتكوين الثقافي والجمالي والتقني في مجال كان لا يزال ببلادنا حينئذ يتلمّس معالم طريقه.

فهنا اكتشفنا السينما المغربية الوليدة، وكنا حين نعرض الأفلام، نناقشها بحضرة مخرجيها. أحيانًا، كان نور الدين الصايل يوظف علاقاته العربية والغربية لاستدعاء مخرجين عرب وأجانب. فقد استقبلنا المخرج الفلسطيني ميشال خليفة وناقشنا معه فيلم “عرس الجليل”، واستضفنا جاك دوايون المخرج الفرنسي المعروف بعد عرض فيلمه “الأصابع في الرأس”…


  • أفول الفرجة، وانتعاش الذاكرة

ذاكرة السينما هذه ظلت ذاكرة شفهية. ولعل هذا ما يفسر أن نور الدين الصايل، مؤسسها الفاعل فيها، الذي حين يتحدث عنها يبدو كسلسبيل ينبع من آلهة الصورة، لم يترك لنا نصوصًا كثيرة عنها ولا عن تجربتها. إنها ذاكرة مخزونة في أعين وأسماع من عاشوها برفقته.

فشبكة الأندية السينمائية هذه عرفت أندية قوية في مدن كبيرة وأخرى صغيرة، وتسربل بمخيلتها النشيطة الكثير من الكتاب والسينمائيين والمثقفين. إنها بحاجة إلى حكايات وشهادات متقاطعة. فأفول هذه التجربة جاء نتيجة التطور المتسارع لتقنيات الصورة والتواصل، بعد أن صار الشريط السينمائي يستنسخ بالفيديو، ثم بالقرص المدمج، ثم بشكل رقمي يمكن أن تحمله في مفتاح صغير لا يتجاوز حجم بطاقة الهاتف النقال.

لقد كانت الأندية السينمائية تخلق قبائل جديدة ترتبط بأواصر غير معهودة. لم يكن الهم السياسي النضالي هو المحرك، بالرغم من أهميته القصوى، بل متعة الصورة واكتساب ثقافتها المستغلقة على اللغة أحيانًا. والفردية الجديدة التي خلقتها الأندية كانت ضد “مجتمع الفرجة” (غي دوبور) الذي كانت تروج له قاعات السينما العادية، الذي يخلق الفرد ويحافظ عليه باستلاب وعيه…

كانت الأندية تخلق مثقفًا جديدًا مرتبطًا بعالم جديد، ليس هو الأدب ولا المسرح، وإنما الصورة المتحركة (جيل دولوز)، التي تكاد اللغة والفلسفة تقف أحيانًا عاجزة عن الإمساك بحركيتها. بل إنها كانت تخلق عواطف جديدة مفعمة بأحلام مغايرة.

لقد صرنا نعيش هذه اللحظات، وإن بشكل مغاير، في المهرجانات الكثيرة التي كان أفول النوادي سببًا مباشرًا في انبثاقها هنا وهناك. ومع أن هذه المهرجانات، التي صارت تنبثق كالفطر في كل مدينة أو قرية، ليست دومًا نابعة من هموم سينمائية بحتة، بل من مطامح دنيوية أخرى، إلا أنها تسمح بين الفينة والأخرى، لمن ذاق الدفء الثقافي لنوادي السينما، أن يعيش، مرة أخرى، لذة السينما والمشاهدة الجماعية وأحلام القاعة المظلمة. 


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى