تربية وتعليم

التعليم والإنتاج الاجتماعي

التربية هي تلك العمليّة التي يتمّ بواسطتها نقل التراث الثقافيّ من جيلٍ إلى جيل، بقصد حفظه والاستفادة منه والعمل على تطويره. ويشمل التراث الثقافيّ كلَّ ما أنتجه الفكر البشريّ والخبرة البشريّة من معارف وعلوم وقيَم وفنون وأساليب وأدوات عَيش.

وتتمّ عمليّة التربية في كثيرٍ من المؤسّسات الاجتماعيّة كالأسرة والمؤسّسات الدينيّة والتربويّة والإعلاميّة والسياسيّة.


أمّا التعليم، فهو تلك التربية النظاميّة التي تتمّ في مؤسّسة المدرسة تحديداً، وهو يقوم بنقل أجزاء مُختارة من التراث الثقافي منظَّمة في المنهج التعليمي الذي تحرص السلطة السياسيّة على نقله للمتعلّمين واستيعابه من خلال تدريب المعلّمين وتوجيههم والامتحانات الرسميّة التي تُجريها.

والغاية من كلّ ذلك إعداد الموارد البشريّة، أطفال اليوم وشباب الغد، ليكونوا مواطنين فاعلين، عقلاً وعِلماً وصحّةً وجهداً وخلقاً… من أجل الإسهام في نهضة المُجتمعات التي يعيشون فيها حاضراً ومُستقبلاً.

وتسعى علوم التربية إلى دراسة أوضاع التربية والكشف عن مَواطِن ضعفها لمُعالجتها، ومَواطن القوّة لتعزيزها ودعْمها. ويركِّز أحد هذه العلوم، علم اقتصاديّات التربية، على ثلاثة أمور أساسيّة: 1- جودة التعليم؛ 2- كيف يتوزَّع التعليم اجتماعيّاً على فئات المُجتمع وطبقاته؛ 3- ناتج التعليم الاجتماعي وطنيّاً واقتصاديّاً.

إنّ مفهوم التعليم المُنتِج يذهب إلى ما بعد جدران المدرسة ليتبصَّر بالمُخرجات، أي بالمُتعلِّم بعد تخرُّجه: ماذا أفاد مُجتمعه، وماذا استفاد هو كفردٍ اجتماعي، ليصل إلى النظر بما حقَّقه ذلك التعليم على المستوى الاجتماعي ومصداقيّته وجدواه.


فاقتصاد التربية ينظر إلى المدرسة والتعليم على أنّهما مَركز صناعةٍ تحويليّة، لهما مُدخلاتهما ومُخرجاتهما، ويهدفان إلى إنتاجٍ يخدم احتياجات (السوق) المُجتمع ومَطالبه، وينسجم أو لا ينسجم مع مواصفاته المرجوَّة، وتعلو أو تنقص قيمته (الثقافيّة) على ما أنفقته عليه هذه الصناعة (التعليم) من إدارة وتنظيم وجهد ومال.

بهذه الرؤية يُصبح التعليم مثله مثل سائر الأنشطة الإنتاجيّة ذات القيمة المُضافة أو الناقصة او بغير قيمة، لا لأنّه خيرٌ أو شرٌّ بذاته، لكن بسبب إدارته وتنظيمه، ومدى انسجام مُخرجاته مع حاجات السوق الاجتماعيّة.

هكذا نَجِدُ أنفسَنا أمام مفهوم “التعليم المُنتِج”، وهو ذلك التعليم الذي لا ينعزل عن المُجتمع من حيث مُدخلاته ومُخرجاته. فالإنسان المتعلِّم حاضراً ومُستقبلاً هو غاية ووسيلة، فرداً في ذاته، وعضواً نافعاً في مُجتمعه. ونوعيّة تعليمه وفائدته وقيمته المُضافة في الحياة هو الشغل الشاغل للإدارة التربويّة.


هذه الرؤيا العلميّة والاجتماعيّة للتعليم تنطلق من منظورٍ نظامي يجعل التعليم وكأنّه “خطّ عمل” أو “خطّة إنتاج” مُتّصل الحلقات: بدءاً من المدخلات (المُتعلّمين) ومروراً بالعمليّات (التعليم: مناهجه وطرائقه) وانتهاءً بالمُخرجات أي العوائد الإيجابيّة أو السلبيّة للتعليم.


هَمُّ التعليم المُنتِج هو مصداقيّته في المُجتمع وفائدته في التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والدليل على المصداقيّة والفائدة هو (العائد) أي مردود المُخرجات في الحياة العمليّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. والنّاتج النهائي للتعليم هو متعلِّم ينتقل من داخل المدرسة إلى خارجها مزوَّداً بالقدرة على الإسهام في تنمية نفسه والمُجتمع الذي يعيش فيه، مُتجاوِزاً انقساماته ومُصمِّماً على إيجاد الحلول لها، مُستنداً إلى صدق ما تعلّمه وفائدته.


لا بدّ للمنظور الاجتماعي للتعليم أن ينطلق من رؤيةٍ تحليليّة صادقة وغير متحيّزة للمُشكلات والحاجات الاجتماعيّة، تتبيَّن أسبابها، وتتقصّى عواملها، وتُفتّش عن الحلول المُناسبة لها، لتبني مناهجها على أساسها، وتختار طرائقها وعمليّاتها ومضامينها بما يتناسب مع الصورة المتوخّاة لخرّيجيها.

فالإنسان المتعلّم حاضراً ومُستقبلاً، هو وسيلة وغاية في آن. وسيلة للتغيير الاجتماعي، وغاية للتخلُّص من كلّ المُشكلات الاجتماعيّة التي تُعيق وحدة المُجتمع وأمنه وتطوُّره.

إنّ هَمّ التعليم المُنتِج إذاً ليس التعليم بحدّ ذاته، بل هو صدق هذا التعليم أو مصداقيّته في المُجتمع، وفائدته في التنمية الاجتماعيّة الاقتصاديّة.


وفي إطار العلاقة بين التعليم والإنتاج الاجتماعي، يُمكننا التمييز بين علاقة التعليم بمُختلف مراحله وأنواعه، وبين النماء الفردي والاقتصادي والاجتماعي. لذا من المفيد التمييز بين أنواع عوائد التعليم:

1- ينمّي التعليم قدرة الفرد على القراءة والبحث، فيزيد قدرته على التفكير والوصول إلى مَصادر المعرفة. لكنّ هذا الأمر يتطلَّب حُسن اختيار طرائق التعليم ومحتواه وتنظيماته.

2- يَزيد التعليمُ قدرةَ المرء على فَهم نفسه وتحقيق ذاته، فيتعرَّف إلى ميوله ومَواهبه فيُحسن استثمارها. لكنّ ذلك رهنٌ بالجهود والطرائق والأساليب التي يعتمدها التعليم للوصول إلى ذلك.

3- يُساعد التعليمُ في زيادة قدرة الفرد على فَهْم الآخرين والتفاهُم معهم وعلى حُسن التعامُل معهم. ولكن إذا كان محتواه وطرائقه وأساليبه قائمة على التنافُس والأنانيّة، فإنّه لن يؤدّي إلّا إلى البغض والانقسام.

4- يَزيد التعليمُ فَهْمَ الفرد لثقافة مُجتمعه وللثقافة العالَميّة، شريطة أن يُراعي التعليم هذه الجوانب ويحترمها في محتوياته وطرائقه.

5- يَزيد التعليمُ قدرةَ الفرد على التغيير، وتقبُّله، والإسهام في السعي تجاهه، لكنّه يؤدّي إلى نتائج عكسيّة إذا كانت مضامينه وأساليبه تنمّي الجمود والتعصُّب والتبعيّة.

6- يُسهم التعليم في الحركيّة الاجتماعيّة الأفقيّة والعاموديّة، وفي تذويب الفوارق بين الطبقات والفئات الاجتماعيّة، شريطة تبنّيه سياسة اجتماعيّة واقتصاديّة شاملة تتعارض مع ثقافة طبقة أو فئة معيّنة في المُجتمع ومَصالحها.

7- يَزيد التعليمُ من قدرة الفرد على الاضطلاع بنشاطٍ اجتماعي فعّال، وعلى المُمارَسة الديمقراطيّة، واتّخاذ القرارات المُعقْلَنة، والالتزام بالصالِح العامّ. شرط ألّا يكون في محتواه وأساليبه وتنظيماته مُباعِداً بين الفرد والمُمارَسة الديمقراطيّة، فيؤدّي عند ذلك إلى التعصُّب والانتماء الفئوي.

8- يزوِّد التعليمُ الفردَ بالمهارات الفنيّة والإداريّة اللّازمة للنماء والتقدُّم الاجتماعي والاقتصادي في مُختلف المجالات. لكنْ إذا كان هناك خَلَلٌ في تنمية تخصُّصات الفرد وأنواعه، وفي تقدير المَطالِب الاقتصاديّة والفنيّة للسوق، فإنّه سيخلق بطالة المُثقّفين، والنقص في المَهارات البشريّة، ما يؤثِّر سلباً على التنمية الاجتماعيّة.

9- يُنمّي التعليمُ القدرةَ الابتكاريّةَ ذات الأثر الكبير على التقدُّم والنماء، فيزدادُ المُجتمع اندفاعاً نحو التجدُّد والتقدُّم، شرط أن يبتعد التعليمُ في تنظيماته وأساليبه عن الجمود والتحجُّر فتنعدم عوائده.

10- يُساعد التعليمُ على تحسين المستوى الصحّي الفردي والعامّ، ونستدلّ على هذا الأمر من خلال الارتباط بين مستوى التعليم من ناحية ومتوسّط الأعمار من ناحية أخرى، لما يساعد التعليم في اكتسابه من ثقافةٍ ومُمارساتٍ صحيّة ووقائيّة. لكن إذا بقي التعليم قائماً على الحفظ الببّغائي، ولم تواكبه سياسة صحيّة عامّة تكمل الجهود الصحيّة خارج المدرسة، فإنّه سيكون ضعيف الأثر.


هذه بعض النتائج التي توصَّلت إليها الدراسات والأبحاث في شأن العلاقة بين التعليم والنماء والتقدُّم الاجتماعي والاقتصادي. فالتعليم ضرورة اجتماعيّة لا يُمكن الاستغناء عنه في بناء الفرد والمُجتمع في آن، والإسهام في عمليّتَيْ النماء والتقدُّم الاجتماعي والاقتصادي. ولكن أيّ تعليمٍ هو المقصود؟ فالتعليم عمليّة تتطلَّب: التخطيط، والتنظيم، والإدارة، والتقويم… لكي يستطيع تحقيق المرجوّ منه.


د- حسان قبيسي: أكاديميّ متخصّص في علوم التربية – لبنان


مؤسسة الفكر العربي

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى