الذكاء الاصطناعي وتحديات النزاهة في التعليم والتوظيفتربية وتعليمعلم النفس

الغش كـ”حق مشروع” من وجهة نظر المتعلم: دراسة نفسية تربوية

في قاعات الامتحان، يتجلى أحيانا موقف صادم يتمثل في اعتقاد بعض الطلاب أو المتعلمين؛ أن الغش ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل حق مكتسب. هذه الظاهرة تفتح الباب أمام تحليل نفسي واجتماعي عميق، يكشف أن الإشكال لا يقتصر على الرغبة في النجاح السريع، بل يتجاوز ذلك إلى ديناميات نفسية وثقافية معقدة.

1. الخلفية النفسية لظاهرة الغش

  • 1.1 الغش كآلية دفاع نفسي

بحسب نظرية التحليل النفسي الكلاسيكي (Freud, 1937)، يمكن تفسير الغش باعتباره آلية دفاعية تلجأ إليها “الأنا” لحماية الذات من مشاعر العجز والخوف من الفشل. التلميذ الذي يشعر بعدم الكفاءة قد يرى في الغش وسيلة لتعويض إحساسه بالدونية، والحفاظ على صورة ذاتية مقبولة أمام المجتمع.

مثال: تلميذ يعاني شعورا بالقصور مقارنة بزملائه المتفوقين، فيعتبر الغش وسيلة لاستعادة تقديره لذاته في لحظة حرجة.

2. الإطار الاجتماعي والثقافي للغش

  • 2.1 ثقافة النتيجة على حساب الوسيلة

في مجتمعات تُمجّد النتائج الرقمية وتُهمل قيمة الجهد، يتشكل لدى الطالب تصور أن “الغاية تبرر الوسيلة“، مما يجعل الغش يبدو سلوكا مقبولا اجتماعيا (Merton, 1938).

أمثلة: عبارات مثل “المهم النجاح، مهما كانت الطريقة” أو “العلامة أهم من التعلم” تغذي هذه القناعة.

  • 2.2 التطبيع مع الغش

عندما يلاحظ الطالب تساهلا في التعامل مع الغش أو مشاركة جماعية فيه، تتشكل لديه قناعة تدريجية بأن الغش ممارسة طبيعية لا تتطلب شعورا بالذنب، بناء على مفهوم “التعلم الاجتماعي” (Bandura, 1977).

3. التحليل النفسي لمبررات الغش من منظور التلميذ

  • 3.1 الإحساس بالظلم المؤسسي

يشعر بعض الطلاب أن الامتحانات لا تعكس قدراتهم الحقيقية أو أن المناهج غير منصفة، مما يؤدي إلى تصور أن الغش هو رد فعل “عادل” على نظام ظالم (Sirin, 2005).

مثال: تلميذ يرى أن نمط الأسئلة لا يراعي الفروق الفردية، فيعتبر الغش استعادة لعدالة مفقودة.

3.2 آليات التبرير الذاتي

استنادا إلى نظرية التنافر المعرفي (Festinger, 1957)، يقوم التلميذ بتقليل الشعور بالذنب عبر تبني تبريرات مثل:

  • “الجميع يغش.”
  • “الظروف صعبة ولا خيار آخر.”
  • “المدرسون لا يمنعون الغش بجدية.”

4. مراحل تكوُّن قناعة “الحق في الغش”

المرحلة الوصف
التعرض الأولي ملاحظة الغش دون عواقب أو مع تساهل اجتماعي.
التطبيع الداخلي اعتبار الغش جزءا مألوفا من الحياة المدرسية.
التبرير الأخلاقي تطوير مبررات تجعل الغش يبدو مبررا أو حتى مشروعا.
الدفاع العدواني مقاومة وصف الغش كتصرف غير أخلاقي أو سلبي.

5. العوامل النفسية الفردية المؤثرة

  • 5.1 ضعف تقدير الذات الأكاديمي

الطلاب ذوو التقدير الذاتي المنخفض غالبا ما يبحثون عن وسائل “إنقاذية” لتفادي الفشل المتوقع (Rosenberg, 1965).

  • 5.2 القلق الامتحاني

القلق الشديد المرتبط بالامتحانات (Zeidner, 1998) يمكن أن يحوّل الغش إلى مخرج يُنظر إليه على أنه ضرورة لا اختيار.

  • 5.3 اضطرابات الهوية الأكاديمية

في مرحلة المراهقة، قد تؤدي صراعات الهوية إلى استخدام الغش كطريقة لإثبات الذات مؤقتا (Erikson, 1968).

6. النتائج النفسية السلبية لقناعة “الحق في الغش”

  • فقدان مفهوم الاستحقاق: يفصل الطالب بين الجهد والنتيجة.
  • تآكل البنية الأخلاقية: يصبح خرق القوانين أمرا عاديا.
  • تعزيز الفشل المستقبلي: يحرم الغش الطالب من تنمية مهاراته الحقيقية.

خلاصة واستنتاج:

إن اعتبار الغش “حقا” هو نتيجة تفاعل معقد بين الخوف الداخلي من الفشل، وضعف تقدير الذات، وضغوط ثقافية تُمجِّد النتيجة على حساب الوسيلة. والتصدي لهذه الظاهرة يستدعي تفكيك البنية النفسية والاجتماعية التي تغذيها، عبر سياسات تربوية تركز على بناء ثقافة الجهد والنزاهة لا مجرد القمع والعقاب.

مقترحات تربوية عملية مدعومة علميا

1- بناء ثقافة الجهد والاستحقاق الأكاديمي

  • الآلية: تنظيم ورشات عمل بعنوان “رحلة التعلم أهم من النتيجة”، وتقديم جوائز للطلاب المجتهدين بغض النظر عن العلامات.
  • تعزيز علمي: تؤكد دراسة دويك (Dweck, 2006) حول “عقلية النمو” أن تقدير الجهد يعزز الأداء الأكاديمي ويقلل من الميل للغش.

2- تصميم تقييمات عادلة ومتعددة الأبعاد

  • الآلية: الاعتماد على أسئلة تحليلية، ومشاريع بحثية، وعروض تقديمية بدل الاقتصار على الحفظ.
  • تعزيز علمي: يشير Biggs & Tang (2011) إلى أن تنويع أنماط التقييم يعزز التعلم العميق ويقلل من السلوكيات الغشية.

3- تعزيز الوعي الأخلاقي لدى الطلاب

  • الآلية: تنظيم حصص نقاشية حول “النزاهة الأكاديمية“، وتشجيع الطلاب على التفكير النقدي في أبعاد الغش.
  • تعزيز علمي: دراسة جيمس ريست (Rest, 1986) تثبت أن تطوير الحكم الأخلاقي يتم عبر الحوار والنقاش.

4- تطبيق رقابة امتحانية عادلة وشفافة

  • الآلية: تدريب المراقبين على ممارسات إشراف داعمة وغير قمعية، مع شرح الإجراءات للطلاب.
  • تعزيز علمي: تقرير اليونسكو (2016) يؤكد أن بيئة الامتحان الشفافة تحد من الغش أكثر من الرقابة القمعية.

5- إشراك الأسرة في ترسيخ قيم النزاهة الأكاديمية

  • الآلية: عقد لقاءات دورية مع أولياء الأمور وتقديم مواد إرشادية لتعزيز السلوك الأكاديمي السليم في المنزل.
  • تعزيز علمي: تؤكد دراسة إبستين (Epstein, 2001) أن الشراكة بين المدرسة والأسرة تقلل من المشكلات السلوكية لدى الطلاب.

خاتمة:

الغش الأكاديمي بوصفه “حقا مشروعا” يعكس أزمة قيمية وتربوية معقدة لا يمكن معالجتها عبر العقاب وحده، بل من خلال بناء ثقافة تعليمية جديدة تُعلي من قيمة الجهد، وتحترم الفروق الفردية، وتكرس النزاهة الأكاديمية باعتبارها حجر الزاوية في تكوين شخصية الطالب المستقل والمسؤول.

  • قائمة المراجع:
  1. Dweck, C. S. (2006). Mindset: The new psychology of success. Random House.
    رابط المصدر

  2. Biggs, J., & Tang, C. (2011). Teaching for quality learning at university (4th ed.). Open University Press.
    رابط المصدر
  3. Rest, J. R. (1986). Moral development: Advances in research and theory. Praeger.
    رابط المصدر
  4. UNESCO. (2016). Promoting academic integrity and preventing plagiarism. UNESCO Publishing.
    رابط المصدر
  5. Epstein, J. L. (2001). School, family, and community partnerships: Preparing educators and improving schools. Westview Press.
    رابط المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى