حال الفلسفة في الوطن العربي
في 20/11/ 2003م كنت مشاركًا في ندوة دولية عقدتها اليونسكو في سياق الاحتفال السنوي باليوم العالمي للفلسفة، وكان عنوانها: «العالم العربي والعالم الغربي: حوار فلسفي يتجاوز الثقافات».
وكان الرأي عندي أن مغزى هذا العنوان يكمن في أن المقصود هو الفلسفة ليس في معناها الأيديولوجي إنما في معناها الأصيل وهو أنها من صنع العقل وليست من صنع أي مصدر آخر سواء كان سوسيولوجيًّا أو لاهوتيًّا.
ولهذا فالسؤال المطلوب إثارته هو على النحو الآتي: ما العقل؟ وجوابي هو أن العقل قوة معرفية تدرك الواقع الخارجي لا على نحو ما هو عليه إنما على نحو ما تراه هذه القوة بحكم أنها قوة مزودة بأدوات تمكنها من تكوين «علاقات» بين الوقائع، ومن ثم تكون هذه العلاقات من صنعها.
ومن هنا نقول عن هذا الإدراك بأنه إدراك عقلاني، ثم أضفنا القول بأنه إدراك عقلاني لحقيقة ما. والذي أضاف هذا القول هو الفيلسوف اليوناني من القرن الخامس قبل الميلاد بروتاغوراس في عبارته الشهيرة «الإنسان هو مقياس الأشياء جميعًا».
وكان يعني بالإنسان العقل، وكان يعني بالعقل المَلكة التي ندرك بها الحقيقة. ومن هنا جاء تأليفه لكتاب عنوانه «الحقيقة» وردت في مفتتحه هذه العبارة: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين فإن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم أخصها غموض المسألة وقصر الحياة» فاتُّهم بالإلحاد وحُكم عليه بالإعدام ولكنه فر هاربًا.
إلا أن أفلاطون انتقد هذه العبارة بعنف لأنه كان يرى أن مفاهيم الحق والخير والجمال هي مفاهيم مطلقة؛ لأنها ليست من صنع العقل إنما من صنع ذاتها وقائمة في عالم آخر غير هذا العالم المحسوس وهو ما سمّاه «عالم المُثُل».
الصراع إذن بين بروتاغوراس وأفلاطون هو صراع بين عدم إمكان قنص الحقيقة أو إمكان قنصها في حدود العقل وحده. هذا كان حال الفلسفة في بدايتها في العالم الغربي، فماذا كان حالها في العالم العربي؟
إثر ترجمة المؤلفات الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية أصدر أبو حامد الغزالي من القرن الحادي عشر كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة» وجاء في مفتتحه أن فلاسفة المسلمين من أمثال الفارابي وابن سينا كفار؛ لأنهم انبهروا بفلاسفة اليونان الوثنيين من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو.
وقد تحول هذا الكتاب إلى تيار مقاوِم للفلسفة في المشرق العربي. وقد حاول ابن رشد من القرن الثاني عشر منع المغرب العربي من التأثر بذلك التيار، فأصدر ثلاثة كتب مكرسة كلها للهجوم على الغزالي وهي على التوالي: «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» إلا أنه اتُّهم بالإلحاد، وأُحرِقت مؤلفاته ونُفي إلى أليسانه.
وأظن أن سبب ذلك الاتهام مردود إلى ثلاث أفكار وردت في هذه المؤلفات الثلاثة: إعمال العقل في النص الديني، وإخراج علماء الكلام وبالذات الأشعرية من المجال الفلسفي بسبب رفضهم للفلسفة، وتأسيس علاقة ضرورية بين العقل ومبدأ العلية التي بمقتضاها قوله بأن مَنْ ينكر العلية ينكر العقل.
ومن يومها والفلسفة الرشدية هامشية في العالم الإسلامي في حين أنها كانت السبب في إخراج أوربا من العصور الوسطى وذلك بفضل تأسيس تيار الرشدية اللاتينية.
وتأسيسًا على ذلك يمكن القول: إن الحوار الفلسفي بين العالم العربي والعالم الغربي ممتنع. وإذا كان ذلك الحوار ممتنعًا فالفلسفة في العالم العربي تكون ممتنعة. والمفارقة هنا أنها وهي ممتنعة إلا أن تدريسها وارد. والسؤال اللازم بعد ذلك:
- بأية كيفية تُدرس؟
- الحقيقة متغيرة
في شهر يوليو من عام 1970م التقاني الدكتور محيي الدين صابر وزير التربية والتعليم في زمن الرئيس جعفر النميري ليطلب مني قبول الإعارة لجامعة الخرطوم أستاذًا للفلسفة المعاصرة للمشاركة في تطويرها ابتداء من أكتوبر من ذلك العام، وقد كان.
وفي شهر فبراير من عام 1972م طلب مني الوزير تأليف كتاب في الفلسفة للصف الثالث الثانوي- القسم الأدبي فوافقت بشرط أن ألتقي مدرسي الفلسفة لمدة أسبوعين لكي أدربهم على كيفية تدريس الكتاب، والفكرة المحورية فيه تدور حول أن أية حقيقة هي مرهونة بزمان معين ومكان محدد بسبب الواقع المتطور، ومن ثم فالحقيقة متغيرة.
وفكرة من هذا القبيل لا تستقيم مع تحكم الإخوان المسلمين في النظام السياسي. فرغت من تأليف الكتاب ودربت المدرسين وبعد ذلك طلبت إنهاء إعارتي بسبب تحكم الإخوان المسلمين في داخل جامعة الخرطوم وفي خارجها.
وبلغني بعد ذلك أن كتابي بعد طبعه مُنع توزيعه على الطلاب. ولم أتمكن من الحصول على نسخة منه إلا بعد خمس سنوات وبالمصادفة.
وهذا الذي حدث في جامعة الخرطوم كان إرهاصًا لما حدث في كلية التربية بجامعة عين شمس التي أعمل بها. ففي عام 1974م كنت أحاضر طلاب الفلسفة بالسنة الثالثة. وذات يوم قلت للطلاب: أنتم غير منصتين. قالوا: نعم، نحن كذلك. قلت: لماذا؟ أجابوا: لأننا ملتزمون بما جاء في القرآن.
وبالتالي نحن لسنا في حاجة إلى ما تقوله من أفكار. قلت: إذن أخرج. قالوا: لا داعي. ابق معنا ولكننا لن نكون معك.
- «الفلسفة المصرية» مرهونة بفكر الإخوان
وفي أغسطس من عام 1988م انتُخبت عضوًا في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية ممثلًا للجمعية الفلسفية الأفروآسيوية حيث كنت في حينها مؤسسًا ورئيسًا لها. وكنت أول مصري عربي انتخب عضوًا في هذه اللجنة التي كان عدد أعضائها أربعين.
وإثر ذلك فوجئت برئيس الاتحاد يسلمني خطابًا يريد تسليمه لرئيس الجمعية الفلسفية المصرية لكي يحرضها على المشاركة الفعالة؛ إذ هي لا تسدد الاشتراك السنوي ولا تشارك في أي نشاط يقوم به الاتحاد الدولي، وقد كان، وإذا بالمسؤول الفعلي عن الجمعية يقول: نحن لسنا في حاجة إلى ذلك الاتحاد بل هو الذي في حاجة إلينا،
وسيأتي اليوم الذي يحتاجون فيه إلينا. ولم أتمكن من إحداث أي تعديل لهذا الموقف أثناء عضويتي باللجنة التنفيذية العليا التي كانت مدتها خمسة عشر عامًا. وإذا سئلت: لماذا لم أتمكن؟ فجوابي أن الجمعية الفلسفية المصرية محكومة بفكر الإخوان المسلمين الذي يستند إلى فكر الفقيه ابن تيمية من القرن الثالث عشر والذي يدور حول رفض إعمال العقل في النص الديني،
أي رفض التأويل لأن التأويل، في رأي ابن تيمية، رجس من عمل الشيطان وهو بالتالي بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وفي مواجهة هذا التحكم من قِبل ابن تيمية ارتأيت لزوم إحياء فلسفة ابن رشد تمهيدًا لتأسيس تيار الرشدية العربية من أجل إجراء حوار مع العالم الغربي، فعقدت في القاهرة في عام 1994م مؤتمرًا فلسفيًّا دوليًّا تحت عنوان «ابن رشد والتنوير» وانتهينا منه إلى تأسيس «الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير».
وإثر انتهاء المؤتمر اتُّهِمت داخليًّا وخارجيًّا بأن عندي «سوء طوية» في ذلك الاهتمام بإحياء ابن رشد، لأن العالم الإسلامي لا يصلح له إلا المتصوفة من أمثال الملا صدرا وابن عربي والحلّاج. ومع ذلك كله فقد جرأت جامعة ليدن بهولندا بإنشاء كرسي ابن رشد لنصر حامد أبو زيد وعُيِّنَ في 27 نوفمبر عام 2000م،
ثم انتقل بعد ثلاث سنوات إلى جامعة أوترخت بهولندا لكي يشغل الكرسي نفسه الذي أُنشئ له خصيصى. والمفارقة هنا أن نصر أبو زيد بدلًا من أن ينشغل بإجراء بحوث عن ابن رشد انشغل بإجراء بحوث عن المتصوف الإسلامي ابن عربي مسايرًا في ذلك ما قاله المستشرقون الغربيون من أن العالم الإسلامي لا يصلح له إلا التصوُّف.
وفي عام 1997م هاتفني رئيس الجامعة الذي كان يعتز بأنه من قرائي منذ أن كان طالبًا بالمرحلة الثانوية وطلب مني أن أكف عن تدريس طلاب مرحلة الليسانس بسبب شكاوى أُرسِلت إليه من قبل هؤلاء الطلاب تدور كلها حول أفكاري التي تسبب لهم ازعاجًا وقلقًا.
وهو أمر من شأنه أن يكون مهددًا للأمن القومي، وبالتالي يلزم أن أتوقف عن التقائهم وأن أكتفي بتدريس طلاب مرحلة ما بعد الليسانس وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهو أمر من شأنه ألا يكون مهددًا للأمن القومي فاستجبت بلا تردد.
ومع ذلك دار في ذهني هذا السؤال: منذ متى لم تكن الفلسفة مزعجة للعقل؟ ألم يقولوا عن سقراط: إنه مثل ذبابة الماشية؟ لأنه كان يحرض محاوريه على التشكك فيما ورثوه من أفكار والتساؤل عن مدى صحة ما يناقشونه من أفكار.
- فلسفات ماتت بموت أصحابها
ومع ذلك كله فإنه قد يقال: إن الفلسفة في الوطن العربي لم تكن كذلك في الأربعينيات من القرن الماضي فقد كان لدينا ممثلًا للتوماوية الجديدة متمثلة في فلسفة يوسف كرم، وكان لدينا المذهب التكاملي متمثلًا في فلسفة يوسف مراد،
وكانت لدينا الفلسفة الوجودية متمثلة في فلسفة عبدالرحمن بدوي. وأنا أقول بدوري: إن هذه الفلسفات الثلاث لم تتحول إلى تيار؛ إذ ماتت بموت أصحابها.
ولم يبقَ من الفلسفة غير تدريسها على هيئة معلومات تكون موضع سؤال في الامتحان من غير أن تتحول إلى رؤى فلسفية يكون في إمكانها الإسهام في تطهير مصر من جرثومة التخلف المتمثلة في المحرمات الثقافية التي يتوارى فيها العقل الناقد الذي هو أساس التفلسف.
وإذا توارى هذا العقل فإننا نصاب بما أصيب به كانط قبل التفلسف وهو ما سمّاه «السُّبَات الدوجماطيقي» ومعناه الاستغراق في وهم واحد محدد، وهو الاعتقاد في ملكية حقيقة مطلقة واحدة التي من شأنها الامتناع عن التفلسف.
وليس من مخرج من هذا السبات سوى إحياء فلسفة ابن رشد المناقضة لفكر ابن تيمية. وهذا هو التحدي الذي يواجه أساتذة الفلسفة في الوطن العربي في القرن الحادي والعشرين.
إلا أن هذا التحدي لن يكون ممكنًا إلا بتأسيس تيار آخر يقف ضد تيار الإخوان المسلمين، هذا مع ملاحظة أن هذا التيار الآخر لن يكون ممكنًا إلا بتأسيس تحالف فلسفي عربي إسلامي يتجاوز الاجتهادات الفردية لأساتذة الفلسفة.
مراد وهبة – مفكر مصري.
للأسف أظهر الكاتب أنه موغل في سباته الإيديولوجي والذي يضع ابن تيمية/الإخوان مقابل ابن رشد/الفلاسفة العرب معطيغ بذلك حق التفلسف وحده رافضا أن تكون للهصوم فلسفة. سيتعرى مذهبه الإيديولوجي في دعوته الفاافسة العرب لتكوين وحدة للوقوف أمام المد الإخواني الذي يريد التأكيد على أنه سبب كل مصائب الفلسفة في العالم العربي. أما حينما قال عن ابن تيمية أنه عدو الفلسفة فهنا أظهر الكاتب جهلا بفكر ابن تيمية ولعلع لم يقرأ فه إلا سطحيا.