عصر مفرط في نيتشويّته: لا أخلاقية اليأس
نيتشه فيلسوف محظوظ. في العربية، هو من الفلاسفة القلائل ممن تتوفر معظم أعمالهم، بعضها عَرفت ترجمتين أو ثلاثاً. أما في الغرب، فقد تسرّب فكره إلى كل شيء، وتزاحم حول منجزه المفكّرون مستثمرين خطواته العملاقة إلى الأمام وفي العمق، ومعيدين قراءته لدى كل منعطف تاريخي.
يبدأ نيتشه، من الأصول. انفتح منذ سنوات الدراسة على اللغة الإغريقية القديمة، ووضع أمامه مشروعاً، سيحافظ على بعض من ملامحه ويدمّر أجزاء أخرى منه. كان مقتنعاً بأن الفلسفة مندمجة مع تاريخها، لذلك سيُعرف في سنوات بروزه الأولى كفيلولوجي (مشتغل على تاريخ الفلسفة) لا كفيلسوف.
بمعنى ما، اعتُبر بأنه من تقنيّي المعرفة الفلسفية، على حد توصيف أحد المتحمّسين له في ما بعد، ميشال فوكو. بعد ذلك، سيأتي نيتشه على جلّ مواضيع الفلسفة من الطريق الذي اختاره لنفسه.
لعل أكثر سؤال طُرح، ويُطرح حتى الآن حول نيتشه، الذي تمر اليوم ذكرى رحيله الـ 115، هو هل فكّرنا معه بحق؟ لقد خلّف تركة من الأفكار، معظمها نبوءات، فماذا حدث حين وصلت البشرية إلى النقاط التي توقّعها؟ كثيرون يتساءلون اليوم عن هيمنة قراءة دون أخرى على نيتشه، حتى قيل “ألم يَحجُب الشرّاحُ نيتشه عن القرّاء؟” خاصة أن كبار المفكّرين تصدّوا لهذه المهمة من مارتن هايدغر إلى جيل دولوز.
قياساً عليه، لنا أيضاً أن نتساءل: ألم يحجب المترجمون العرب مناطق من عبقريّته عنا؟ كثر هم مترجمو نيتشه في العربية، منذ فليكس فارس (“هكذا تكلم زرادشت” – 1938) إلى موجة ترجمته في العقود الأخيرة، مع علي مصباح ومحمد الناجي وفتحي المسكيني وحسان بورقية وشاهر عبيد وغيرهم.
اللافت، هو أنه كلما تكاثرت الترجمات اكتشفنا أن النص المترجم الأول مختلف عن الثاني، وكأنّ أكثر من نيتشه وصل إلى العربية. هذا دون أن ننكر أنها عموماً ترجمات ممتعة.
إن كل هذه الأسئلة التي تُطرح اليوم عن نيتشه، هي نفسها قيمة مضافة نيتشوية في الفكر. إذ قلما نجد قبله حرصاً على الانتباه عند قراءة الفلاسفة.
فمنذ أعماله الأولى، دعا صراحة إلى ضرب أفلاطون، كقاعدة انبنى عليها صرح الفلسفة، معتبراً أن العقل الغربي استسلم لسحر كتاباته فتجرّع بسلاسة سموم الانحطاط الذي بدأ يجثم في عصره على اليونان.
تجرّأ نيتشه أن يُسقط أفلاطون من قائمة الفلاسفة الحقيقيين، فهو ببساطة قد وقع في فخ الانبهار. بذلك يصل إلى ضرب صنم فكري آخر هو سقراط، ليعود نيتشه إلى النظرة الإغريقية ويقدّم مشروعيتها من جديد: سقراط كان مفسداً بحق.
هذا الرجل، بحسب نيتشه، “يكره العالم الواقعي ويسعى إلى ترويج هذه الكراهية”. بناء فكري شامخ سوف ينبني على هذه الملاحظة، خصوصاً حين يطبّق ذلك على كامل الصرح الأخلاقي للبشرية. ذلك الصرح الذي ظل ينفي عمق الحياة، باعتباره تحريفاً متواصلاً للأصل.
كانت هذه الآراء الحادة والغريبة، ورغم جودتها الفلسفية، بالنسبة لمتكلّمي القرن التاسع عشر، فلاسفة وأكاديميين، حجة للإبقاء على نيتشه في الظل. أما هو، فقد عرف، في وحدته، أن الحفر الذي يشتغل عليه سيوصله إلى الناس.
وقف نيتشه ضد تقديم أي عزاء أمام الحقيقة، حتى ولو كانت مُرعبة، وفي الغالب هي كذلك. اعتبر أن كل الآراء السائدة خمول ذهني، بل إن كل “كلمة، أي كلمة هي حكم مسبق”. رفض أن يسير كل شيء في العالم بقوة الوهم، مُوجّهاً للمناهج الفلسفية والعلمية أقسى الانتقادات، معتبراً إياها قيوداً وسلوكات تدل على خوف من الحقيقة.
بتلك المناهج، لم يكن أحدٌ يستطيع التفكير في المعضلات الكبيرة للعصر. كانت سبباً مُعطلاً منع الفكر من أن يرى أن أوروبا، ومشروع الحداثة الذي تمجّد به نفسها، قد سكنته العبثية وأنه يفضي إلى طريق مسدود. كان هجوم نيتشه أشنع من الوقوف عند تبيان الخلل، فهاجم صمت وعجز رموز عصره. كان يمتلك شجاعة أن يكون مُزعجاً.
لعل الصمت والعجز ما زالا مُهيمنَيْن إلى اليوم على منظومة الفكر. فالمشروع البديل بتجاوز الحداثة سرعان ما اصطدم بعُقمه. كما ظل التاريخ يتحرّك بقوة الوهم، بل إن المنجز التكنولوجي والفني للعقود الأخيرة، إضافة إلى الأدوات القديمة التي فكّكها نيتشه، سرّع وتيرة سيطرة القيم المُغالِطة على قيم الحياة الحقيقية، حتى تحوّل الواقع كما قالت نبوءته إلى “عملية تزييف للعالم باستمرار”، وتحوّلت فكرة القطيع إلى واقع معمّم تحت تسمية جديدة “المجتمعات الجماهيرية”.
يعتبر نيتشه أن كل النظم من طبقات وزواج وتربية (النظام السياسي أيضاً بلا شك) وغيرها، تستمدّ قوّتها ودوامها من إيمان العقول المستعبدة، أي من غياب الحجج. ويضيف أن العقول المستعبدة لا تعتنق إلا المبادئ التي تعود عليها بالمنفعة.
لعلنا اختبرنا شيئاً من هذا الحديث مع موجة الثورات والانتفاضات العربية الأخيرة. ما لبثت التجارب التي نجحت في إسقاط “أصنامها” أن خضعت مرة أخرى لها (بأشكالهم المستحدثة). في تونس أو في مصر أو في اليمن، ومنذ أن تحرّكت منظومة المنافع القديمة حتى دغدغت العقول المستعبدة لتعود إلى مبادئها الأولى، وتغمر هذه البلاد أو تلك موجة العودة إلى ما كانت عليه، عبر القوة وعبر اللعبة الديمقراطية وكواليسها.
لكأن ما يحدُث يبرهن على عبثية تسكن هذا الواقع العربي، ضمن عبثية أوسع للتاريخ البشري العام. هنا، تتشابه العصور، بين عصر نيتشه وعصرنا، عصورٌ عبثية بامتياز، ولا مخرج منها سوى الفكر النقدي.
يؤبد هذه العبثية أو تلك سيطرة “فاقدي الوعي” على الفكر، واحتكارهم للفرص. وهؤلاء بالضرورة، كما يرى نيتشه، يحبّون إنتاج فقدان الوعي وتعميمَه، وحين تهتز بهم الأرض تُسعفهم منظومة علاقات دولية مشبّكة في تحالفات داخلية ليستمر التضليل وقلب القيم رأساً على عقب.
إن عودة بلدان عربية إلى المربّع الأول؛ أتت مرة أخرى بطبقة من “الكهنة” السياسيين، يخترقها العجز أمام التحديات الاقتصادية والمجتمعية والجيوسياسية، فلا تملك أن تقدّم سوى مغالطات ومراوغات لتستمر في مواقع السلطة (حفر قناة سويس جديدة أو بناء جدار للتصدّي للإرهاب كأمثلة). يقول نيتشه: “الكهنة هم الأكثر إفساداً لأنهم الأكثر عجزاً. العجز الذي يُنمّي حقداً عقلياً مسموماً”.
فُتن نيتشه في شبابه ببسمارك، وخيّب أمله من جاؤوا بعده إلى الحكم، فانبرى يَسخر من الشعب الذي “ينتظر تقدّم الحمقى إلى الأمام”. يتواتر حضور هؤلاء مع العصور والبلدان، ويتحرّكون في المساحة الخالية التي تتركها الشعوب، حين تنسى أن تتسلح بإرادتها وبانتمائها للحياة، فـ “الذي يحيا يريد قبل كل شيء تحرير طاقته. الحياة نفسها إرادة قوة”. أما “اليأس فهو غير أخلاقي، وهو احتقار للواقع”. هكذا تحدّث نيتشه.