النسبية في الأخلاق: لا يمكن أن يجتمع النقيضان
هل أنت نسبوي؟ النسبوي هو من يقول أشياء مثل: «هناك أوجه عدة للحقيقة، وطرق عديدة لرؤية الأمور». قارن هذا الكلام مع قول شخص غير نسبوي أو مؤمن بالمعايير الأخلاقية المطلقة يقول: «هكذا هي الأشياء، وليس هناك طرق أخرى لرؤيتها».
ما رد فعلك تجاه هاتين الرؤيتين المتعارضتين. إذا بدا لك النسبوي محترمًا ولا يطلق أحكامه على الآخرين ومتفهمًا وشخصًا تشعر أنك قريب منه؛ في حين يبدو الإطلاقي متحيزًا وغير متسامح وغير مفكر، شخصًا ترغب في تجنبه – إذًا أنت القارئ الذي أستهدفه.
بالطبع يستطيع المرء دون أي إشكال أن يكون نسبويًا في ذوقه تجاه الفن أو البستنة أو شيء يتضمن تقييمًا ذاتيًا بشكل كامل.
لكنّ نوع النسبية المثير من الناحية الفلسفية هو النسبية الثقافية والمعروفة أيضًا بالنسبية الأخلاقية، أو على الأقل تشكل النسيبة الأخلاقية جزءًا كبيرًا من النسبية الثقافية (فيما يأتي ستشير كلمة «نسبوي» خصيصًا إلى النسبوي الأخلاقي).
الثقافات المختلفة تنظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة؛ حقيقة لا تثير أي نوع من الإشكال إذا كنت تقرر أين تتناول عشاءك على سبيل المثال. لكنّ قبول الاختلافات قد يصبح مسألة مخادعة عندما تتخذ قرارات تخص قضايا أخلاقية.
كيف يجب على المرء أن يفكر ويتصرف عندما تخوض الثقافات صراعًا أخلاقيًا أو تتصادم الأنظمة الأخلاقية المختلفة؟ أي القواعد يجب عليك اتباعها؛ قواعدك أم قواعدهم؟ كيف نقرر؟ وما الذي يجب أن يفعله نسبويٌّ صالح؟
هذه الأسئلة اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، كثيرًا ما يتحدث الأشخاص المحترمون من الثقافات الحديثة ذات الأصول الغربية عن المتطلبات اللازمة لتقبل واحترام الناس المنتمين لثقافات أخرى. لكن تفاصيل هذا الإطار النسبوي النظري تحوي فخًا أو اثنين يجب عليك أن تحذر منها.
- إليك جولة سريعة حول حقل الفِخاخ.
1. هل ناقضت نفسي للتو؟
لنبدأ بالنظر في الفكرة القائلة بأن النظام الأخلاقي نسبي بحسب الثقافة التي تتبناه إذا تشرّب المرء مسلماته الأخلاقية عبر الثقافة ولم يكن للفضيلة الأخلاقية مشرب دون ذلك. إذن، لا تكون أمامنا طريقة للاختيار بين الأنظمة الأخلاقية المختلفة.
ويجب على المرء حينها أن يحترم القرارات الأخلاقية لثقافات الآخرين. بعبارة أخرى، تقضي الفكرة بأنه لا يجب على المرء إطلاق الأحكام الأخلاقية على «الأحكام الأخلاقية» للثقافات الأخرى أو أفعال الأشخاص المنتمين لثقافات أخرى.
هذه حجة مثيرة جدًا. إنها جذّابة بشكل خادع وباطلة بشكل كبير. المشكلة أن عبارات النسبويين مثل «لا يجب على المرء أن يطلق أحكامه الأخلاقية على الأشخاص المنتمين لثقافات أخرى» ليست نسبية على الإطلاق.
بل هي عبارات مطلقة قصد بها أن تكون قواعد أخلاقية تنطبق على كل الأشخاص في كل الثقافات. لذا وللمفارقة، فإن المقولة المركزية للعديد من النسبويين الأخلاقيين هي عبارة أخلاقية مطلقة، وتستبطن نفس المنطق الذي تنفيه نظريتهم الخاصة.
في أفضل الأحوال، بإمكان المقولات التي تطالب بعدم إطلاق أحكام أخلاقية على الثقافات الأخرى أن تمثل بشكل سلس قرارًا أخلاقيًا داخل إطار ثقافة المرء الخاصة (إذا افترضنا تجاوزًا – لوهلة- أن كل أفراد ثقافة معينة لديهم نفس المعتقدات الأخلاقية).
بعبارة أخرى، يمكنك أنت والأفراد الآخرون المنتمون لثقافتك أن تعتقدوا أن مثل هذه المقولات صحيحة؛ لكن وفقًا لنفس المقولات يحق لشخص آخر ينتمي لثقافة مختلفة أن يقول: «حسنًا، النسبية الأخلاقية هي ما تؤمنون به في ثقافتكم، لكن في ثقافتي لا نؤمن أنه لا يجب على المرء إطلاق الأحكام الأخلاقية على أفراد الثقافات الأخرى.
نحن أحرار تمامًا في إصدار الأحكام الأخلاقية على من نشاء، وكذلك عليك وعلى ثقافتك». لعلك واجهت هذا الرد الحاسم.
لنفكر الآن في مقولة النسبويين التي تقضي بأنه «يجب عليك أن تكون متسامحًا مع المسلّمات الأخلاقية للآخرين»، ماذا إذن عن المسلمات الأخلاقية التي تفرض على المرء أن لا يكون متسامحًا مع معتقدات الآخرين الأخلاقية؟
هل يجب على المرء أن يتسامح مع هذه القاعدة الأخلاقية؟ هل يتسامح المرء مع عدم التسامح؟ بالطبع يجب على النسبوي المتسق مع ذاته أن يفعل، لأنه اعتقاد أخلاقي. وما إن تقبل بأن تكون متسامحًا مع معتقدات الآخرين الأخلاقية، تكون ملزَمًا بتقبل تعصب الآخرين باسم التسامح المطلق.
2. هل هذا ما أعنيه؟
دعنا نفترض أننا قبلنا بأن الاحكام الأخلاقية نسبية بحسب الثقافات المختلفة وأن هذه النسبية تمنح كل ثقافة نوعًا من الحماية من نقد الثقافات الأخرى، ودعنا نرى إلى أين يقودنا هذا.
الآن، قد يكون من المقبول في ثقافتي بشكل عام الاعتقاد بأن الأشخاص من ذوي البشرة الداكنة أقل مكانة وشأنًا وأن لدينا الحق في استعبادهم واستخدامهم لمنافعنا، وبسبب دونيتهم هذه لسنا مخطئين أخلاقيًا بفعل ذلك.
الاعتقاد الأخلاقي لداكني البشرة في هذه الحالة ليس مهمًا في حد ذاته (ولا المعتقدات الأخلاقية لأي ثقافة أخرى): بإمكانهم أن يصدروا ما يشاؤون من أحكام أخلاقية، لكن لا شأن لهم بثقافتي؛ لأن نظامي الأخلاقي منفصل عن أنظمتهم، ولا يمكن الحكم عليه من خلال معتقداتهم.
لنأخذ في الاعتبار على سبيل المثال حالة قبطان سفينة مسلم يتاجر في العبيد بين أفريقيا والشرق الأوسط في القرن التاسع عشر (قد يشعر بعض القراء بالانزعاج لاختياري المسلمين بالذات.
هل ستشعر بنفس عدم الارتياح لو أنني اخترت المسيحيين؟ لا؟ هل هذا بسبب اعتقادك بأنه لا يجب على المرء أن يطلق أحكامه على الثقافات الأخرى؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد أحسنت: لقد اجتزت اختبار «هل أنا نسبوي مشوه؟» بنجاح فائق).
إذا عارضت أخلاقية نشاطات تاجر العبيد، مشيرًا إلى أن بريطانيا قد حظرت تجارة العبيد عام 1807، قد يجيبك قائلاً: «لماذا يجب علي أن أعير الأمر اهتمامًا؟ في ثقافتي العبودية مقبولة. إذا أردت أن تحظر العبودية في ثقافتك، هذا أمر عائد إليك. دعني وشأني».
يتّخذ تاجر العبيد هذا قرارات أخلاقية بناء على إطار نظري نسبوي. يعد هذا التاجر نسبويًا أخلاقيًا أصيلاً. أجل لا يمنعه هذا عن التصرف السيئ تجاه أفراد الثقافات الأخرى. في الحقيقية، يزيده شجاعة في فعل ذلك.
إليك مثال آخر، احتقر العديد من الكتاب الحجج العقلية لهؤلاء النسبويين الثقافيين، خصوصًا أولئك الذين يزعمون أيضًا أنهم نسويون، الذين شرعنوا طقس الساتي الهندوسي، حيث تلقي الزوجة نفسها على محرقة جثة زوجها في جنازته، أو ممارسة الختان الشائعة في الثقافة الأفريقية، بمصطلحات نسبية ثقافية.
هذا الاحتقار مستحق تمامًا لأن هذا التسامح يتضمن التغاضي عن معاناة النساء بدافع شعور ما بعد كولونيالي بالذنب، بدلاً من التقيد بأي نظام أخلاقي متين مفكَّر فيه جيدًا.
ما أريد الوصول إليه هو أن النسبية لا تؤدي إلى تعارض ذاتي فقط، بل أيضًا في بعض الأحيان إلى نفس الخلاصات الأخلاقية المقيتة التي أرادت تجنبها، وتقدِّم عذرًا لأي نوع من السلوكيات التي يرغب أفراد ثقافة ما في ممارستها بشكل جماعي.
فكّر في رد أي دولة سلطوية تتهمها منظمة العفو الدولية بخرق حقوق الإنسان: «ليس لديكم الحق في الحكم على الآخرين، ولا التدخل في شؤونهم».
هذا هو الدفاع المثالي ضد أي نسبوي. لاحظ أيضًا أن النسبية لا تفرض مطالبات معينة بتقبل الأغراب في الوسط المحيط بالمرء: كما يشير تزفيتان تودوروف:
«قد يطالب نسبوي متسق مع نفسه تمامًا كل الأجانب بالعودة إلى وطنهم، حتى يكون بإمكانهم العيش محاطين بقيمهم الخاصة» (عن التنوع الإنساني: الوطنية، العنصرية والغرائبية في الفكر الفرنسي، ترانس سي بوتر 1993 الصفحة 34).
3. ما مدى ضخامة ثقافتي؟
تواجهنا أيضًا مشكلة ما الذي يشكل الثقافة. بناء على تعريفك للمصطلح، قد تكون الثقافة مجموعة عائلية أو اتحادًا يجمع عدة دول.
لكن المشكلة تصبح مهمة بشكل حرج عندما يواجَه النسبوي بسؤال متى يجوز أن ترتفع فيه الجُدُر الثقافية لتحمي مجموعة ما من النقد الأخلاقي.
هل كانت عائلة مانسون [عصابة ظهرت في كاليفورنيا بقيادة تشارلز مانسون وتورطت في عدد من عمليات القتل بمزاعم دينية وميثولوجية] مجموعة ثقافية؟ من نواحٍ عديدة، كانت كذلك بالفعل. إذن هل كان يجب علينا أن نتسامح ونحترم قراراتهم ونظامهم الأخلاقي؟
نميل دائمًا إلى الحديث عن «الثقافة» ببعض الاستخفاف. قد يتباهى أحدهم في حفل غداء بمعرفته عن «الثقافة الإسبانية» أو «ثقافة الإنويت» كما لو أن لكل ثقافة قائمة من المعتقدات والممارسات ما يلتزم به الجميع؛ بالطبع هذا مجرد هراء.
هناك تنوع هائل في التفكير الأخلاقي داخل أي ثقافة، إلى درجة أن المرء يستطيع الإجابة بحسم على مقولة «هذا ما نفعله في ثقافتنا» بـ «من قال ذلك؟» أو «ما الذي تعنيه بثقافتنا؟».
مع ذلك، إذا كان الصواب والخطأ الأخلاقيان ينبنيان على المعتقدات الثقافية، فيجب أن تكون هناك طريقة للاتفاق على تعريف موحد لهذه المعتقدات.
لكن ألم ننقض الآن المقولة الرئيسية للنسبية الأخلاقية ذاتها؟ يجب أن يتمظهر النظام الأخلاقي بشكل طبيعي كونه جزءًا من أي ثقافة،
لكن مع ذلك تبدو النسبية وكأنها لا تصلح إلا للفرد المجرد في كل الأوقات، أو في أفضل الأحوال لقبيلة صغيرة تعيش على ضفة نهر.
هل يشكل الأمر فرقًا إذا تحدثنا من المنظور الزماني؟ بحسب معظم مقاييس الاختلاف الثقافي، بالإمكان اعتبار المستعمرين البريطانيين في نيوزيلاندا في القرن التاسع عشر ينتمون إلى ثقافة مختلفة تمامًا عن كل من بريطانيا أو الثقافة النيوزيلاندية في القرن الواحد والعشرين.
يبدو الأمر وكأنه مهما كان ما فعله المستعمرون أو لم يفعلوه فيما يخص سلب الأراضي وإساءة معاملة شعب الماوري (غير ذي الصلة) فهم خارج نطاق النقد الأخلاقي بحسب النسبية الأخلاقية.
لذا لا يستطيع أفراد شعب الماوري اليوم انتقاد أفعال المستعمرين لأن الماوري ينتمون إلى ثقافة مختلفة عنهم.
بالفعل إذا اتبعنا هذا النهج من التفكير، نجد أن الماوري لا يستطيعون مطالبة حكومة نيوزيلاندا الحالية بأي نوع من التعويض أو الإصلاح لأن الحكومة تنتمي أيضًا إلى ثقافة مختلفة عن المستعمرين.
هل ينتمي رجال الأعمال الغربيين الأغنياء والأنيقين إلى ثقافة مختلفة عن النشطاء الغربيين الفقراء ذوي ضفائر الشعر الطويلة المعادين للعولمة؟ بالتأكيد لديهم قيم مختلفة بشكل جذري وكذلك نظم أخلاقية مختلفة.
وبالتالي يجب أن يخلُص النسبوي إلى أنهم ينتمون إلى ثقافات مختلفة، بالتالي يأمن كل منهم نقد الآخر له. تشرّبت ثقافة كل منهم معتقداتهم الأخلاقية وسلوكياتهم.
وإذا كانوا نسبويين حقًا، فيجب عليهم أن يتراجعوا عن نقد ثقافة الآخر واحترامها؛ وإلا فإن نقد أحد الطرفين للآخر مثل التظاهر وإلقاء البيض يعد بكل بساطة شكلاً من أشكال الإمبريالية الثقافية ومحاولة من المرء لفرض ثقافته بالقوة على الآخر: محاولة لاستعماره ثقافيًا.
4. التسامح مقابل الاحترام
يتساءل بعض النسبويين إن كانت النسبية الثقافية تقتضي التسامح أو الاحترام. فضّل الأنثروبولوجيون الأوائل مصطلح التسامح أو التقبل، لكن المتأخرين منهم جادلوا بأن التسامح في حقيقته ينبني على موقف قوة يقرر فيه المرء القبول بأفعال يدينها أو يراها خاطئة، كما يفعل الأبوان مع ابنهما المراهق المنحرف.
يصل البعض إلى حد اعتبار هذا سلوكًا ثقافيًا يستصغر الآخرين، وينطوي على إصدار أحكام تقييمية. نتيجة لذلك، كثيرًا ما رُفض مصطلحا التسامح والمسامحة من قبل النسبويين لصالح الاحترام.
على سبيل المثال، يرى طارق رمضان، أستاذ الدراسات الإسلامية الحديثة في كلية الدراسات الاستشراقية بجامعة أوكسفورد والمولود في سويسرا، في كتابه «البحث عن معنى: تطوير فلسفة تعددية» (2010).
أن التسامح يعد نوعًا من «الصدقة الفكرية» وبالتالي هو بمثابة إهانة بما أن «المرء حين يقف على قدم المساواة لا يتوقع أن يعامل بمجرد التسامح أو القبول على مضض».
يرى أيضًا أن التسامح تجاه المجموعات الأخرى ليس كافيًا لأنه يتضمن الإذعان لعلاقات القوة السائدة: «دعوة الأقوياء للتسامح عنت سابقًا أن تطلب منهم أن يخففوا من قوتهم لتقييد قدرتهم على إحداث الضرر.
ينطوي هذا الأمر في حقيقته على قبول بعلاقات القوة التي قد تكون حاضرة بين الدولة والأفراد، أو الشرطة والمواطنين، أو بين المستعمِرين والمستعمَرين». بدلاً من هذا التسامح المستصغر يريد رمضان الاحترام والتقبل من الثقافات الأخرى.
هنالك نقطتان هامتان هنا (في هذا التحليل استفدت من مراجعة فرانك فوريدي الرائعة في مجلة Spiked العدد 42 لعام 2010):
أولاً: لا ينطوي التسامح في حد ذاته على علاقات قوة معينة، ناهيك عن أن ينطوي على علاقة يتسامح فيها القوي فقط مع الضعيف. يتسامح كثير من المستضعفين، ابتداءً من الزوجات اللواتي يتعرضن للقمع وصولاً إلى ثقافات الأقليات.
مع سلوكيات من هو أقوى منهم، لأسباب عدة، ومع بعض الإلحاح قد يقرّون في بعض الأحيان أن هذا الأمر لا يضمن السلامة فقط،
بل هو الفعل الصائب أيضًا. ونحن باعتبارنا مواطنين نتسامح مع نزوات حكوماتنا المركزية والمحلية (حين لا نتبرم منها أو نعارضها)، في حين نعترف بحقها في ممارسة السلطة علينا.
في الحقيقة، يعد تسامح القوى الأكبر جزءًا من العقد الاجتماعي. بإمكاننا أيضًا أن نسأل رمضان عن سبب عدم احترامه لوجهة نظر الأشخاص الذين يفضّلون مجرد التسامح والقبول التدريجي للثقاقات الأخرى، أين احترامه لهذه الثقافة؟
ثانيًا: ما السيئ في أن يتم التسامح معك وقبولك على مضض؟ ففي النهاية هذا ما يشعر به معظم الأكاديميين تجاه بعضهم البعض (في أيامهم الجيدة). المنظور الشائع في المجال الأكاديمي هو «أظن أن نظرياتك مجرد هراء وأن عملك غير دقيق، لكنني أعترف بحقك في نشر آرائك».
بالفعل يمكننا اعتبار هذا الشعور هو نواة فكر التنوير: أن تتسامح مع ما تختلف معه بشكل جذري لأنك لا تعتقد أن الأشخاص من ذوي الأراء المختلفة عنك يجب إسكاتهم.
ينطبق هذا أيضًا على سلوك الثقافات المختلفة: بإمكان تطبيق القوانين بالتساوي على كل المواطنين، إلى جانب التسامح والقبول على مضض بين المجموعات الثقافية، أن يعتبر نواة للتعددية الثقافية.
ولا يمكن استبعاد هذا التصور هكذا اعتباطًا. ففي النهاية، من السهل أن تحترم شخصًا تكن له الاحترام في الحقيقة؛ لأنك تتفق مع قيمه. أما التسامح مع شخص تختلف معه جذريًا وتزدري معتقداته وسلوكياته يعد في الحقيقة إنجازًا هائلاً.
لنفترض مع ذلك أنه يجب على الشخص أن يحترم المعتقدات الأخلاقية للآخرين. ما الذي يلزمنا به هذا الأمر من ناحية اتخاذ القرار والحكم؟ هذا سؤال حاضر وملح، لأن المطالبة باحترام معتقدات الآخرين ليست فكرة يتداولها من يكتبون عن التعددية الثقافية وحسب.
بل غالبًا ما تظهر في التشريعات التي تتعامل مع القضايا الأخلاقية التي تضم ثقافات ووجهات نظر مختلفة، مثل الآراء حول حقوق الأجنة. يصبح الاحترام غالبًا مطلبًا قانونيًا.
هذا بالإضافة إلى أن قدرًا هائلاً من الجهد والمال استخدم في أشكال وصيغ متعددة من التداول والتشاور المجتمعي من قبل الحكومات المحلية والمركزية، حيث يتطلب الأمر وجود احترام صريح أو ضمني لوجهات نظر كل المشاركين. وبذلك يكون لفكرة الاحترام تطبيقات عملية هائلة.
لكن إلامَ يؤول هذا الاحترام؟ هل يعد احترامًا مني لوجهة نظر شخص ما إذا سمحت له بالكلام واستمعت له بانتباه وسألته عن نقاط لتوضيحها ثم رفضت كل اقتراحاته؟ كيف يمكن أن يقال إنك تحترم معتقدات شخص ما إذا تجاهلت ما يقوله؟
هل يعني هذا أن الاحترام ينطوي على الموافقة أو الإذعان للناس؟ بالتأكيد لا، نظرًا لأن العديد من الآراء تخالف بعضها بعضًا، ومع ذلك يجب اتخاذ قرارات عملية.
لتلخيص الأمر: من الصعب أن نرى كيف يمكن لأي من «التسامح» أو «الاحترام» مساعدة النسبوي. بالفعل، الحقيقة المجردة التي تقضي بأن الثقافات المختلفة لديها أنظمة أخلاقية مختلفة لا تنطوي في ذاتها على أي شعور أخلاقي تجاه الثقافات الأخرى،
حتى لو لم توحِ بأي تسامح أو احترام، حينها سنكون ملزمين بالتسامح واحترام أكثر المجموعات الثقافية المنفرة التي يلقيها علينا التاريخ.
أخيرًا، في خضم الصراع الثقافي، حين نكون مشغولين باحترام وتقبل بعضنا البعض كيف سنقرر مسار الأمور؟ لا تقدم النسبية الثقافية أية إجابة، ولا طريقة لاتخاذ القرارات الأخلاقية.
5. لقد أفسدت كل شيء للتو
حين يصل المرء إلى نتيجة مفادها أن المعتقدات الأخلاقية مجرد عادات تشربناها داخلنا عن طريق الثقافة المحيطة مثل تقنيات الطبخ، وأنه ليس هناك حق مطلق أو باطل مطلق،
لا يبقى أمام المرء سبب يدفعه للتصرف بطريقة أخلاقية، بعيدًا بالطبع عن أي شعور بالتعاطف يشعر به مصادفة أو لتجنب العقاب والإهانة.
رغم أن النسبية الأخلاقية انطلقت في الأساس لتمثل اللياقة والاحترام، إلا أنها تدمر أي أساس للسلوك الأخلاقي لأنها لا تمنح الشخص سببًا موضوعيًا ليكون أخلاقيًا.
وينطبق هذا الأمر على طريقة تصرف الشخص تجاه أي أحد، بما فيهم أفراد الثقافات الأخرى وجيرانه الذين يسكنون في المنزل المجاور وعائلته الخاصة ونفسه.
إذا كان النظام الأخلاقي يعني بكل بساطة ما يقوم به الناس دون أي سلطة موضوعية للحكم، في النهاية سيكون بإمكانك أن تفعل ما تشاء دون أن يشكل ذلك فرقًا.
ليس من الصعب أن نشعر أن هذا الاستنتاج وصل إليه العديد من الناس في المجتمع الحديث خصوصًا الشباب.
تخيل أن تسمع بانتظام «حسنًا ليس هناك أساس موضوعي للسلوك الأخلاقي، لكن بالمناسبة يجب عليك مع ذلك أن تكون لطيفًا، خصوصًا تجاه الأشخاص ذوي المظهر والسلوك المختلف عنك». لماذا يعير أي أحد انتباهه لمثل هذا الكلام؟
6. لا أحد في الحقيقة نسبوي أخلاقي
إذن تقودك النسبية الأخلاقية لمناقضة نفسك، أو تجد نفسك متسامحًا مع الاستعباد، أو تقضي على أي سبب موضوعي للتصرف بكياسة. مع ذلك، ومع أنك قد تدّعي أنك نسبوي أخلاقي، إذا تعمقت بما يكفي ستجد بلا شك ممارسة لا تودّ أن تعتبرها مسألة ثقافية،
سواء كانت الاعتداء الجنسي على الأطفال أو المذابح الجماعية، أو التعذيب أو الاغتصاب. معظم الناس الذين يدّعون تبنيهم لوجهات نظر نسبية سيذعنون وينسحبون في مرحلة ما،
مصرين على أن الفعل نفسه بكل بساطة خاطئ حتى لو مارسه أو تغاضى عنه أفراد مجموعة ثقافية بأكلمهم، مثل ممارسة الأزتيك الممنهجة التي تتضمن تقديم أسرى الحرب على شكل قرابين بشرية.
هذا التناقض الأساسي هو جزء لا يتجزأ من كون المرء نسبويًا مشوّهًا. النسبوي المشوه هو شخص يعتنق النسبة الأخلاقية («يجب على المرء أن يحترم المعتقدات الأخلاقية للآخرين») في لحظة،
بينما يصدر تصريحات غير نسبية في اللحظة التي تليها («الأغنياء الرأسماليون الذين يتجنبون دفع الضرائب يجب وضعهم أمام الجدار وإعدامهم»).
بالفعل كل شيء تقوله يتضمن مطالبة الناس بفعل كذا أو نهيهم عن فعل كذا، وهذا في الحقيقة تصريح غير نسبوي.
يكاد يكون من المحتوم أن كل نسبوي هو نسبوي مشوه: هناك دائمًا شيء ما يجدونه منفّرًا وإن بطريقة غير واعية، وسيكون عليهم الاعتراف بكونه خاطئًا.
- استنتاج
قد يجول بذهنك الآن السؤال التالي: هل تعني هذه الإشكالات التي تعتري النسبية الأخلاقية أنه لا يجب علينا أن نتسامح مع التنوع؟ هل يعني هذا أنه يجب علينا محاكمة أفراد الثقافات المختلفة عنها على قواعدهم الأخلاقية المختلفة؟ إجابتي هي: بالتأكيد لا.
لكن هذه الإشكالات تعني أن التسامح الكوني المجرد تجاه كل القواعد الأخلاقية هو نهج أخلاقي غير ممكن، وغير ذي معنى.
بدلاً من ذلك نحن في حاجة لإطار نظري متين تناقَش داخله تعارضات الأنظمة الأخلاقية والمختلفة، وليس شيئًا يتداعى بمجرد أن تفحصه للمرة الأولى.
إذن ما هي الإجابة؟ ما الذي أدعو له؟ دعوة إنجيلية، الوعيد بالنار والكبريت، قائمة متماثلة بالقواعد الواجب اتباعها؟ لا.
ما أود قوله أن وضع حظر مجرد على نقد قيم ومعتقدات الآخرين الأخلاقية هو نوع من الخضوع، وله نتائج عكسية وخطيرة، يوقِف النقاش في النقطة التي كان يجب أن يبدأ منها.
يعني الاحترام الحقيقي لأفراد الثقافات الأخرى أن تتفاعل معهم وتأخذهم بالجدية الكافية التي تسمح بمساءلة قراراتهم الأخلاقية: لماذا تعتقد ذلك؟ كيف تبرر فعل ذلك؟ ما النتائج المترتبة على هذا القرار؟ ألم تناقض نفسك للتو؟ هل كل من في ثقافتك يوافق على هذا الأمر؟
يجب أن تتمحور القواعد الأخلاقية في النهاية حول النقاش وإبداء الأسباب، وتقديم الأدلة. لا أن تكون فقط ما تشجعك ثقافتك أن تكونه.