يعتبر «جاك بويزي» واحدًا من الرجال الأفذاذ الذين انتزعهم منّا الموت خلال العام (2020) الكارثي، وذلك عن عمر يناهز 93 عامًا.
لقد عرف هذا الأخير أكثر من أي شخص آخر كيف يكون الشخص الذي لا تصنعه شاشات عمالقة الإنترنت (Gafam) والبنية التقنية للإعلام المعاصر. في سياق الاحتفاء بهذا العلم الفذ.
خلال هذا الأسبوع، تحاول الإعلامية الفرنسية الشهيرة «ناتاشا بولوني» (Jacques Puisais) تقديم شخصية «جاك بويزي» تكريمًا له، وهو فيلسوف الذوق بامتياز، باعتباره “الكنز الحي” الذي توفي في 6 ديسمبر الماضي.
سوف يدخل عام 2020 إلى التاريخ من بابه الواسع، وذلك باعتباره عام التغيير بامتياز. هذا ما نعاقده، بلا شك، قياسًا إلى الأحداث التي عرفتها هذه السنة. إنّ الانطباع بالسقوط في نوع من الجاهلية «une dystopie» أمر مرعب ومثير للشفقة في الوقت نفسه، حيث ترسّخ طغيان الخوف وانتشرت المعايير العبثية طيلة هذه السنة المزرية بامتياز.
فالواقع يشي بأنّ حروب جيلنا لم تعد ولن تكون بطولية كما الأمر في العصور الماضية، إذ عادة ما تتم أنشطتنا خلال هذه المدة عبر اللقاءات الافتراضية، التي تتم بواسطة تقنية “الزوم” Zoom – أي عن قرب، وذلك مع وجود كل هذه الفجوة النهائية.
سواء تم احترام الحد الأقصى البالغ ستة أشخاص بالغين حول الطاولة في عيد الميلاد، أم لم يتم. لكن، كيف أصبحنا نعيش مثل هذه القصة، كما لو كانت قصة «فيليب موراي» (Philippe Muray)، أو قصة فيلم «تيري جيليام» (Terry Gilliam)؟
إنّنا نشعر جميعًا ونحن في حيرة من أمرنا – لأنّ هذا من دون شك أصل هذه المعاناة النفسية التي تغمرنا اليوم – أنّ العالم الآخذ في الظهور، والذي يتسارع فيه انتشار الفيروس اللعين (كوفيد19)، يسير على خلاف مجرى الأمور، حيث أصبح يعاكس الحياة المعتادة تمامًا.
لقد أصبحت الحياة خارجة عن السيطرة تمامًا، ولم تعد سهلة، سواء على مستوى الوجود العيني في العالم، أو على مستوى العيش مع الآخرين.
- «جاك بويزي» الإنسان
إنّه الإنسان الرفيع الذي انتزعه منّا هذا العام (2020) أخيرًا، عن عمر يناهز الـ93 عامًا. كان يَعرف أكثر من أي شخص آخر كيف لا يمكن اختزال البشر فيما تفعل بهم الشاشات، وكذا مواقع التواصل الاجتماعي (Gafams) ومختلف البنيات التقنية المعاصرة.
لقد كان «جاك بويزي» فيلسوف الذوق الرفيع في فرنسا، مما يعني أنّه كرس حياته لمحاولة فهم كيف تشكلنا أحاسيسنا وكيف تهيكلنا. ثمّ كيف تتناسب التجربة المعيشة معنا، طالما أننا نعطي وقتنا لهذه الأحاسيس التي ينقلها جسدنا إلينا.
إذا كان العالم من حولنا، قبل كل شيء، يعطينا هذه الأحاسيس، نورًا، أو نسمة ريح، أو جمال منظر طبيعي أو مبنى. فلطالما يخبرنا الطعام، الذي نضعه في طبقنا، بقصص عن هذه الأمور، بدلاً من أن يرسل لنا تركيزًا مدمنًا من الدهون والسكر والملح والنكهات القياسية- والموحدة.
إنّ فيروس كورونا، وهذه هي المفارقة الجديدة، قد سلّط الضوء على سخافات نظام خاضع كليًا للمؤقّت وللمدى القصير، بل وللتوسع المستمر في السوق، وإلى التدفق الضيق الذي يحرمنا من أي مجال للمناورة. ولكن، في الوقت ذاته.
وعلى الرغم من هذا الإدراك، قام بتسريع التغييرات الجارية، مما جعلنا ننزلق أكثر قليلاً إلى هذا الكون حيث لا يمكن سوى للهياكل غير الإقليمية الكبيرة الخروج من اللعبة، من خلال منطق أقوى من أي وقت مضى لتصنيع العمليات وتوحيد الشركات.
كل انعكاسات السيد العجوز، كلّ تحذيراته حول ضرورة أن يندمج الإنسان في دورة الحياة، ليتذكر أنه كائن متجسد، موهوب بعشرة أصابع وبالفعل (بالقرار) الذي به يسمي ويسمح بترتيب العالم، هي أشياء مؤكدة. أكثر من أي وقت مضى، يجب أن نسلك طريق الإنسانية هذا إذا أردنا أن يظل هذا العالم قابلاً للعيش.
- الدموع الصفراء لهذا العالم
في اليوم التالي للمظاهرة الأولى لـ “السترات الصفراء”، وبينما عبّر الكثير من المثقفين والمفكرين عن رعبهم أمام من رأوا أنهم فاشيين وفصائل، وقع «جاك بوزي» على مدونته نصًا بعنوان “دموع صفراء من البحر للبحر”. كتب: “العالم عبارة عن فسيفساء من الابتسامات. عندما تتلاشى تلك الابتسامة، تتدفق الدموع “الصفراء”.
يتدفقون اليوم تحت سيل من القطع الصفراء الصغيرة ذات الدمى المتعددة: الضرائب، المحظورات، تبدد العلاقات الشخصية، اختفاء السلع والموارد الوطنية، الانتقال، التركّزات الاقتصادية، الأكاذيب … غسيل المخ، القضاء على الأحاسيس الجميلة.
لم يعد سكان الأرض يشعرون بأي شيء. […] سكان شعب أرض فرنسا الذين صعدوا إلى باريس بدموعهم الصفراء [أصحاب السترات الصفراء] في محاولة منهم لفهم ما يقع، قد اختلطت عليهم الأمور بالرغم من أنّ بلطجية حضريين مجهولين قد اندسوا معهم، فقد تعرضوا للضرب بالعصي في الوقت الذي ينتظرون فيه أن تجفف دموعهم.
- من أجل نظام لا تسيل فيه «الدموع الصفراء»
يتمثل دور المجتمع الديمقراطي في تصميم وبناء نظام لا تسيل فيه مثل هذه الدموع، حيث يمكن للجميع، بغض النظر عن أصلهم، أن يزدهروا ويسعدوا.
إنّ الاضطرابات التي تثير غضب المجتمعات الغربية بشكل عام، وفرنسا على وجه الخصوص، تكشف لنا مدى خيانة هذا الوعد: في كل يوم ندمر القليل من جمال العالم، نقبل أن يتم اختزال الأفراد في عمل يخلو من أي معنى، بهدف واحد ووحيد هو زيادة ربح البعض منهم، وننتج بنية تقنية مهووسة بفكرة حبس الإنسان في معايير معينة، وحرمانه من هذه الفردانية، وهذه الحرية غير القابلة للاختزال التي هي طبيعته.
ينحني «جاك بويزي» في الأسبوع الذي خصّصت فيه صحيفة «ليبراسيون» (le journal Libération) على صفحتها الأولى للحوم الاصطناعية، لإبراز كيف استثمرت المليارات للصناعات الجديدة في مجال الزراعة، وغيرها.
يتم تشجيع الإنتاج الزراعي كصناعة رسمية باسم الحفاظ على الكوكب ورفاهية الحيوان، بينما الهدف الحقيقي هو تغذية البروتينات الاصطناعية للبشر(للناس) المحرومين بشكل دائم من أي ارتباط بدورة الحياة. إنتاج لحم اصطناعي فاتح للشهية والتسمين، وفي المقابل هو تضخيم للشر الذي ندعي أنّنا نحاربه.
أمّا وأنّ الأمر كذلك، فهل لا تزال هناك أديرة وصوامع لـ«تيليم» (de Thélème) في كلّ مكان في فرنسا، كما كانت عناية فرانسوا رابليه، أو «جاك بويزي»، تعمل على تكريس فنّ كيف نصبح إنسانيين بكلّ بساطة.
- الهوامش:
1 – تم النشر بتاريخ 12/10/2020، على الساعة: 14:34، أنظر الموقع الرقمي لمجلة مريان (Marianne) على الرابط الآتي:
https://www.marianne.net/agora/les-signatures-de-marianne/jacques-puisais-ou-lart-detre-humain
2 – «جاك بويزي» (Jacques Puisais)، المولود في 8 يونيو 1927 في بواتييه وتوفي في 06 ديسمبر من سنة 2020 في شينون. يعتبر عالم أحياء فرنسي، وخبير في صناعة النبيذ الرفيع في فرنسا. يعدّ مؤلفًا مرموقًا للعديد من الكتب المكرسة لظاهرة التذوق الرفيع. وهو أيضًا فيلسوفًا إنسانيًا، ومصممًا لـ”الذوق المعتدل”. أنظر الويكيبيديا بالفرنسية.