فكر وفلسفة

لماذا يشقى المفكر ويسعد الجاهل؟!

من مظاهر التخلف في المجتمع أن يشقى فيه المفكر الواعي ويسعد الأمي الجاهل! وهذا الأمر ليس بالجديد ولا هو بالمميز لعصر دون غيره، فقد شهدته كل العصور وخبرته كل المجتمعات، القوية المتطورة منها قبل الضعيفة المتخلفة، ولو أنه في هذه الأخيرة يكون بشكل أوسع وأشّد.


وقد شغل هذا الموضوع جل المفكرين والفلاسفة منذ الحضارات القديمة إلى غاية يومنا هذا، فقد تساءل الفيلسوف اليوناني الكبير سقراط ذات يوم مستنكرًا: «هل حقًا الجهلة والسذج أكثر سعادة من أعقل العقلاء؟»!.. فيما عبر شاعرنا الكبير أبو الطيب المتنبي عن هذا الأمر في بيت بليغ وحكيم، حيث قال:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

                       وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم


وقد شغل هذا السؤال عصر النهضة والتنوير قبل العصر الحديث مما جعل الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير يبدع قصة في الموضوع، دارت أحداثها حول رجل مفكر وحكيم يعيش في قصر إلا أنه تعيس، وتعيش بجواره عجوز هندية أمية فقيرة إلا أنها سعيدة بحياتها الساذجة البسيطة، فهي لا تشغل بالها بتلك الأسئلة المحيرة التي كان يطرحها ذلك الحكيم (البراهماني) على نفسه، من مثل ما سر هذا الوجود؟ لماذا أتيت؟ وإلى أين أذهب؟ وهل حقًا ما يتوعدنا به الدين من آخرة حقيقة أم خيال؟ وهل، وهل، وغيرها من تلك الأسئلة الوجودية والهموم الفلسفية الميتافيزيقية العميقة. فيما كانت هي سعيدة بحياتها البسيطة الساذجة وكان هو شقيًا، تعيسًا، قلقًا..

وحينما طرح عليه السؤال: «أليس من الغباء أن تعيش تعيسًا رغم علمك وغنائك، في حين أن تلك العجوز الجاهلة الفقيرة تعيش سعيدة مطمئنة؟!» قال: «أفضل أن أحيى عالمًا تعيسًا خيرًا من أن أعيش جاهلاً سعيدًا». وقد ظلّ هذا الطرح مستمرًا، شاغلاً كل مفكري وكتاب العصور المتلاحقة، وها هو الكتاب والمفكر والأديب الروسي الكبير (ليو تولستوي) يصرح في هذا الشأن بقوله: «إن التفكير يشقي البشر أكثر مما يشقيهم أي شيء آخر».


  • المفكر والجاهل بين الماهية والمصير:

بداية، دعونا نتفق على مدلول المفكر الذي نقصده في هذا السياق، إذ أننا لا نعني به ذلك المفكر الصرف المهتم بالشؤون الفكرية المحضة، ولكننا نعني به كل مثقف وفنان ومبدع صادق يحمل بداخله همًّا فكريًا وقلقًا فلسفيًا يكون رسالته في هذه الحياة وهذا الوجود. ومن هو دون ذلك فقد لا يجد مكانًا في هذا الطرح.

كما أحب أن ألفت الانتباه إلى أن هذه الظاهرة سوف تظل مستمرة ومتواجدة في كل العصور والمجتمعات إلاّ أنها تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، ففي المجتمعات المتقدمة تأخذ مظاهر وأسباب مختلفة عن تلك التي في المجتمعات المتخلفة.

حيث إن شقاء المفكر في المجتمعات المتقدمة يكون فلسفيًا ومعنويًا أكثر منه ماديًا وشخصيًا، في حين أنه في المجتمعات المتخلفة يجتمع العاملان معا، والضغوطات تحاصره من كل جانب وفي كل المجالات، السياسية والاجتماعية والثقافية والعقائدية والاقتصادية وغيرها.

لكونها مجتمعات منغلقة ويغلب عليها الجهل واللاوعي والتفكير السطحي الهامشي، وهم أكثر قسوة وأشد بطشًا من المجتمعات المتحضرة والمتقدمة. وأظنني في حلّ من ضرب أمثلة عن هذا الأمر والبؤس ونحن أقرب الناس إليه وأكثرهم معايشة ودراية. أو كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:

العلم يرفع بيتا لا عماد له

                      والجهل يهدم بيت العز والشرف


  • لماذا يشقى المفكر؟

يتفق أغلب الفلاسفة بأن المفكر الصادق هو كائن تعيس وحزين لا بذاته ولكن بفكره، فقد تجده غنيًا مستكفيًا وصاحب منصبي عالي، ولكنه ليس سعيدًا، لأنه يحمل هما إنسانيًا وألمًا بشريًا مجردًا، قد لا يعيشه هو بالضرورة ولكنه يتقاسمه شعوريًا وفكريًا مع الآخرين الذين يعايشونه.

ليس ذلك فحسب بل إن المفكر له عالمه الفكري الخاص الذي ينأ به عن الواقع والحياة، مهتم بالأسئلة اللامتناهية والمحيطة به من كل جانب، فهو دومًا يتساءل في حيرة عن الوجود والإنسان ومصير العالم وعن كل ما هو ميتافيزيقي ووجودي مبهم! لأن المفكر لم يخلق ليعيش لذاته ولا لمصالحه الخاصة ومآربه الشخصية، فهو كائن مجرد بفكره، وهب نفسه للفكرة والبحث وفي سبيل ذلك يهيم ويشقى.     

ولذلك فللظّاهرة لها جوانب متعددة ومختلفة، منها ما هو ذاتي وآخر موضوعي. ولكلا الجانبين خصائص ومميزات.


أما الذاتي: فهو متعلق بطبيعة المثقف أو المفكر في حدّ ذاته، إذ ما سمي المفكر مفكرًا إلا لأنه يشتغل أو منشغل بالفكر وعملية التفكير المستمر، فهو يحوّل كل ما هو محيط به إلى أسئلة وجودية يطرحها على نفسه ويشقى ليهيم بحثًا عن جوابها وماهيتها، كما أنه يختلف في رؤيته للحياة والوجود عن نظرة الإنسان العادي غير المثقف أو المفكر الواعي، فإذا كان الإنسان العادي منشغل بهمومه الخاصة والضيقة فإن الإنسان المفكر والمثقف الحق تجده يحمل على عاتقه هموم الإنسان بصفة مجردة، وما أن ينغمس في التفكير أو في الابداع تجده قلقًا مضطربًا يغلي بداخله كالبركان الهائج أو حزينًا كئيبًا كمن فقد عزيزًا غاليًا!

وكل ذلك يتحرك بداخله ويتفاعل فيعيش في عالمه الداخلي في الأصل والخارجي بالاهتمام بله بالعالم الخارجي وما يدور فيه من فسافس الأمور اليومية والمصالح الضيقة. ولذلك تجد الجاهل أكثر نجاحًا في الحياة من المفكر والمثقف الواعي والفنان الصادق لأن هذا الأخير تجده منشغل عن الواقع والدنيا بالواقع ذاته والحياة ولكن بمفهومها الفلسفي الفكري فيما الإنسان الجاهل يصب كل اهتمامه وجهوده على الواقع المادي ويصارع من أجل المكاسب والمناصب.

وهذا ما جعل الكاتب والفنان والممثل الفكاهي (مارك توين) يقول: «كل ما نحتاجه في الحياة هو الجهل والثقة». وهذا ما هو مترجم بالمعنى في مثلنا الشعبي (صحح وجهك واصدم!) فتجد مثلاً أن أغلب من يتصدرون الواجهات المختلفة سواء الفنية منها أو السياسية أو الاجتماعية هم من الجهلة الطامعين الواثقين من أنفسهم، حتى وإن رافقتهم الشهادات الخاوية إلى تلك المناصب والمرافق.

وقد يجد المثل عزاءه فيما ذهب إليه المفكر الإنجليزي الشهير جورج برنارد شو في هذا السياق بقوله: «هو لا يعرف شيئًا ويظن أنه يعرف الكثير إذًا فهو يمتهن السياسة».


  • لماذا يسعد الجاهل؟

تساءلت مرة، هل للجهل فوائد؟! … فوجدت أن الجهل أنواع ودرجات، ويمكن أن نصنفه إلى جهل فطري بسيط، وجهل مكتسب مركب. أما الجهل الفطري البسيط، فنجده عند الأطفال الصغار، وقد أحيلك إلى الشارع والتأمل في وجود أطفال أولئك الأفارقة اللاجئين كيف هم يمرحون ويلعبون في الطريق وبين صفوف السيارات المارة يشحتون وكأنهم يقطفون الأزهار من حدائق غناء!

وهو جهل طبيعي يتجاوزه المرء بعد النضج. بخلاف الجهل المركب والذي هو داء يصاب به المرء بعد النضج وهو أضر وأخطر لأن صاحبه لا يعلم بأنه جاهل، فهو سعيد، بل يظن نفسه الأهم والأعلم، ولذلك تجده يقتحم كل الأبواب ويخوض في كل المجلات دون خوف أو تردد، سلاحه في ذلك الجرأة والثقة العمياء بالنفس.

وقد يحقق له ذلك شيئا من المآرب والمكاسب المادية والسياسية لأن طبيعة المجالين تشجع الجهل وتستغله. تمامًا مثل المرء الذي يجهل بأنه مصاب بداء قاتل خطير فتجده يمرح ويلعب حتى يفاجأ بالألم والموت، بخلاف ما إن كان يعلم بمرضه فقد تجده تعيسًا وحزينًا ومقعدًا حتى ولو لم يكن به ألم أو شلل. قد تبدو في ذلك سعادة، ولكنها سعادة كاذبة ومزيفة.

ولا يوجد مما هو أخطر من الجهل على المجتمع وعلى صاحبه، وكما يقول المثل العربي المعروف: «يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه» أو كما يقول الناشط الحقوقي الأمريكي /الأفريقي الأصل (مارتن لوثر كينج): «ليس من شيء في العالم أخطر من الجهل الصادق والغباء حي الضمير»! ويبقى الفرق بين المفكر والجاهل كالفرق بين الليل والنهار والشر والخير، أو كما يقول أرسطو: «يختلف المتعلم عن الجاهل بقدر اختلاف الحي عن الميت».


خاص لمجلة فكر الثقافية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى