الدراسات الأدبية

عن اشتغال الفن والفكر في روايات الميلودي شغموم

جاء اشتغال الموسيقى والفن التشكيلي في روايات الميلودي شغموم في الرواية العربية متأخرًا، مثل اشتغال الفكر كيلا أقول: الفلسفة. ولا يزال هذا الاشتغال محدودًا، تلتمع فيه روايات هاني الراهب (خضراء كالبحار)، أو ريم الكمالي (تمثال دلما)، في الأولى: الرسم، وفي الثانية: النحت، كذلك رواية أسعد محمد علي (الضفة الثالثة) ولطفية الدليمي (عشاق فونوغراف وأزمنة)، في الأولى: الموسيقى، وفي الثانية: الموسيقى والفكر، وكل ذلك على سبيل التذكير وضرب الأمثلة.


في هذا المنجز الروائي الجديد ينتظم عدد من روايات الميلودي شغموم. وأشير أولًا إلى رواية (الأناقة- 2001)، حيث يقدم البروفيسور جمال العوني (نظرية الأناقة) بطلب وتمويل من المعهد العالي للبحث في الأشكال الخارجية، في كاليفورنيا. تسرد هذه النظرية باللطافة وبالسخرية اللتين تسمان أسلوبية الميلودي شغموم بعامة، حيث لا ظل ولا أثر للغلظة أو الرطانة اللتين تنالان عادةً من الاشتغال الروائي على الفكر أو الفلسفة، ولم تنج منه – مثلًا- بعض روايات إدوار الخراط أو عبدالله العروي أو صنع الله إبراهيم.

يتحدث البروفيسور العوني عن أناقة الفراغ، وأناقة الظل، وأناقة القناعة. ويشرح أن أناقة البساطة تمزج بين الظل والصدى، وهي، مثل أناقة التهكم، نادرة (عندنا – في المغرب – حيث ظهرت منذ أربعة عقود، بينما ظهرت في الغرب منذ أربعة قرون). وهذه الأناقة هي ما ينبغي أن تشكل القاعدة، لأنها تعبر عن أعلى ما ينشده الإنسان. أما الأناقة الأكثر شيوعًا في المغرب، وهي أناقة الواجهة أو أناقة الوظيفة أو المهنة، فتقوم على وظيفة الإخفاء والتظاهر، ولا تتعلق باللباس، فقط بل هي “تهم كل ما ليس لك حقًا، وما لا يعبر عنه بالفعل”.

وفي النظرية أيضًا أناقة الخواء أو العري التي توسع مفهوم اللباس، ليشمل ما يستر الفرد أو الجماعة من دُوْرٍ أو ذهب أو غطاء أو كفن أو قبر أو علاقات، ومع ذلك يظل المرء عاريًا. وتمضي الرواية بنظرية الأناقة، ليكون الشكر أناقة، ولباس البهلوان أناقة معكوسة، حتى إذا جمع حفل البتول في النهاية زينب الرنجي – سافرت إلى باريس لتدرس الفن، وطلع لها (التوزير) إذ عادت – مع المرشح لمنصب الوزير الأول، أعلنت البتول أن الحب “هو أناقتنا الوحيدة، خارج الموضة، ضد الزمن، ضد الرجل، لمقاومة الشيخوخة”.

  • الكونشرتو واللوحة ونظرية المجاز

منذ مطلع رواية (الليالي القمرية – 2006) يلتمع الفكر المستبطن فيما يُتوهَّم أنه نقيضه من الأخيولة واللامعقول، فيتساءل عليّ العزيزي في إفران: “ما معنى أن أنام وأنا نائم، أشاهد نفسي أنام وأنا نائم بالفعل، كأني بعبارة السيد أوجست كونت، أنظر إلى نفسي من الشرفة وهي تمر في الشارع”.

في هذه البداية تحضر الموسيقى في بوليرو موريس رافيل، وفي إحساس علي العزيزي بالخدر بقدر ما ترتفع حدة الموسيقى، قبل أن ينام، أو يطير إلى السماء السابعة، أو يقرأ في كتاب (المعيار أو دور السياسة والتجارة في نمط الأخلاق).. وسيكون للرواية لغزها المشع، وإيقاعها الخفي في تلك اللوحة الفارغة المعلقة بين نافذتين، وفي أعلاها ملصق صغير كًتب عليها (كل الحكاية).


فكّر العزيزي أن اللوحة البيضاء تحذو حذو القصيدة الصامتة التي يقرأ الشاعر عنوانها ثم يصمت، أو حذو القصة الصامتة التي يضع القاص عنوانها، أو يكتفي بتوقيع الصفحة البيضاء، تاركًا للقارئ أن يملأها بما يشاء. غير أن اللوحة لا تستقر على حال، وها هو العزيزي يلاحظ ذات صباحٍ أن نقاطًا سوداء بحجم حبات العنب تتوسطها، مع أربعة خطوط سوداء مستقيمة ورقيقة.

في منتهى الرواية تكتمل اللوحة. وعلى الطريق إلى ذلك لا تني الرواية ترمي بشذرها الفكري، وأهونه ما تومئ إليه عنوانات الكتب المتخيلة، ومنها مما يقرأ لغريبي عروب: (تاريخ الخليلية وتحولات المجتمع: قواعد النفاق) و(الفئات الفقيرة والمتوسطة: المخاطر الاجتماعية – السياسية وانزلاقات وكالات الإشهار) و(الأمازيغية والعربية الدرجة: كواليس الإشهار والدعاية).

أما النسق الفكري، أي النظرية التي تطلقها الرواية، فهو ما يتولاه المهدي، ابتداءً بـ (الزمن)، حيث كل ما يسعى إلى قوله الشعراء والكتاب والحكماء، كل بطريقته وعلى قدر موهبته، هو أن الزمن إله، بينما الوقت ناقة عشواء، و”عدد النوق لا يكف عن الارتفاع، النوق لا تكفّ عن التوالد”.

يطلق المهدي نظرية المجاز التي بني عليها الكون والحياة والعلوم والفنون والسياسة، حتى قبل أن تكتمل. وبفضلها تكون الحياة فردية أو جماعية، ممكنة، إيجابية أو سلبية، غنية أو فقيرة، يقوم فيها المعنى والقيمة.

يجلجل المهدي أن الإنسان حيوان، لكنه حيوان يعيش المجاز، أي: حيوان مجازي. ويدعونا المهدي إلى قراءة الأساطير وقصص الحيوان وقصص الأطفال ونشوء اللغات بكل أشكالها، لنرى أن ما يقوله هو شيء أولي، بدئي، ويكاد يكون بدهيًا. وينصح المهدي بإعادة قراءة الروسي تولستوي والياباني موراكامي والألماني هرمان هسه، لنتبين من سبقوه إلى نظرية المجاز من المفكرين والعلماء الكبار.

في النظرية العتيدة أن الحلم مجاز. وفي كل ما يفعله الناس أو يرونه أو يعرفونه أو يقع لهم، تعمى أبصارهم وبصيرتهم عن المجاز. وفيما يحدّث علي العزيزي عن النظرية: “كل شيء مجاز، لا شيء غير المجاز، ولا شيء يمكن أن يوجد خارج المجاز”.

فمن المجاز: المرض والموت، ومنه الصحة والعافية والإرادة والتفاؤل، ومنه السعادة والشقاء. والعزيزي في منتهى الرواية ينصح: إذا صادفت مجازك تمسّكْ به، وفي هذا المنتهى، تحضر الموسيقى كما في البداية، إذا يستمع العزيزي إلى كونشترو أرنخوليس، لصاحبه الأعمى رودريجو: “جنات من بعدها جنات، وآلات مختلفة، كطيور شادية في تناغم تام، تعزف زهورًا وعطورًا وأشجارًا وماءً وهواءً”.

  • الفن ونظرية التوالد الفني

تنهض بالحمولة الفنية الفكرية لرواية (المرأة والصبي) شخصيتا الفنان داوود حمدي والفرنسية ماريز، بخاصة، ويشاركهما بقسط زميل قديم لداوود هو حميد المهتم بتاريخ الفن وعلاقاته بتحولات المجتمع. وتبدأ الرواية بسؤال داوود لحميد عن سر اختفاء لوحة (الرجل العجوز).

في جواب حميد أن صورًا تحيا وصورًا تموت. إنه (الاستهلاك)، والناس غرقوا في ألوان من الصور بفعل وسائل الإعلام، فآلاف الفتيات والمسنّات والرجال من كل الأعمال والأعمار، باتوا يعشقون من خلال الصور في الإنترنت. إنه سحر الصورة الذي سيودي باللوحة الأصلية/ الفن، ليقوم (التوالد الفني) الذي يقوم في الرواية كنسغٍ ونظرية.

يذهب داوود إلى أن النسخ مهما اقتربت من الأصل (لوحة، منحوتة..) تظل نُسخًا. وهذا النسخ/ المسخ، هذا الاستنبات يشوه الأصل. وكما في الفن، كذلك في السياسة، ليس النسخ غالبًا غير فضائح أو مهازل. ولأن داوود يذهب هذا المذهب سماه بعض الفنانين (أفلاطون) لأنه وحده يرفض المحاكاة. وفي حوار بين داوود وماريز حول توالد النسخ، يعبر لها عن إحساسه بأن رسام لوحة العجوز والزجاجة يطلب منه أن يمعن النظر فيها كي يجد السر.

وإذ يتمعن داوود في أية نسخة للوحة، لا يجد إلا الخير والشر، الموت، الفراغ، الحياة، الخمرة، الامتلاء، لكأن الزجاجة تضم ملاكًا هو الخير وشيطانًا هو الشر، لكأنْ ليس في الزجاجة غير ما هو موجود دائمًا “فينا وفي الخارج”. وتصوغ ماريز هذا (النظر) للنسخ في قولها: “النسخ في كل المجالات الإبداعية تنتهي دائمًا إلى تهميش الأصل أو قتله وأخذ مكانه”. كما تتحدث شخصية أخرى، هي روجي، عن قتل النسخ للنموذج.

لكن داوود يتحرز إزاء (النظرية) بعامة، فيدعو إلى أن تؤخذ بما يلزم من التريث والحذر، وإلى أن تُراعي فيها مستويات التطبيق والاختلاف بين سجلاتها. وينتهي داوود إلى أن جميع النظريات، في ذاتها، ليست صائبة ولا خاطئة ولا مفيدة ولا ضارة.

تحضر ماريز للبحث عن اللوحة التي اختفت. وفي لعبة روائية حاذقة وماكرة، تبتدع الرواية للوحة الاصلية رسامها، وهو الفنان المتخيل جان كلود – بواسون. وتتحدث ماريز عن متحف فريد في بروطانيا، يسعى إلى جمع صور عجوز اللوحة للتعريف بثقافة التوالد الفني. ولتحقيق غرضها، تنطلق ماريز مع داوود في جولة في أنحاء المغرب: الرباط، الدار البيضاء، مراكش، الصويرة، لكن العجوز سيظل مختفيًا، فتقرأ ماريز في هذا الاختفاء تعبيرًا عن انتهاء مرحلة في حياة المجتمع، بل – ينشب السؤال -: “لم لا يكون مؤشرًا على انتهاء جيل بأكمله؟”

تتعدد (ملاعبات) الرواية، فتضاعف غوايتها، ومن ذلك اللعبة العلمنفسية في شخصية داوود، حيث الطفل فيها لا يفتأ يلكز الراشد، ينير له أو يضلله أو يحفزه أو يثبطه. وللعلمنفسية شأوها أيضًا في عري ماريز، والعري في الفن بعامة، كما يتبدى في حديث ماريز في الصويرة عن مقالة لداوود، زعم فيها أن الرسام الكبير كالنحات العظيم: عندما يصور جسدًا عاريًا يلبسه دائمًا لباسًا سحريًا، ولا يصوره أبدًا عاريًا كما هو.

وهذا سر الإعجاب بالأجساد العارية في الفن أو في الظلام، والظلام رداء. وقد وصف داوود من عارضوا فكرته هذه بأنهم أشباه فنانين مكبوتون. ولكن داوود نفسه يقف مترددًا أمام جسد ماريز، ويقرع نفسه ساخرًا من الفنان العبقري الملهم المغفل داوود حمدي الذي يتكلم عن الفرق بين الواقع والفن، بينما تقف ماريز عارية أمامه: “عاملْ هذا الجسد كلوحة أو تمثال”.

يختم داوود الرواية بالحسرة على قرب حاله من حال عجوز اللوحة الأصلية ونسخها جميعًا. وفي هذا الختام يتوّج داوود فكرية الرواية، بعامة، وليس بصدد نظرية التوالد الفني فقط، فيذهب إلى أن “الحقيقة كلها نسخ وظلال، تصوير وتصوّر”. والحقيقة بذلك تشبه نسخ لوحة العجوز والزجاجة، ما اشترته منها وما لم تشتر، ما عثرت عليه وما لم تعثر، وما لم يرسم بعد من هذه النسخ، أو قد لا يرسم. وأخيرًا، بل أولًا وأخيرًا: “قد تكون الحقيقة حقائق تتبدل مع الوقت وأهل الوقت”.

تتخاطب أغلب روايات الميلودي شغموم وهي تشكل عالمًا روائيًا متعدد العلامات، مثل علامة الاختفاء، ومنها اللوحة في رواية (المرأة والصبي) واختفاء المخطوط في رواية (سرقسطة) واختفاء العميد ممتاز الفكاك في رواية (أرانب السباقات الطويلة). ولعل العلامة الأبرز أن يكون اشتغال الفكر – والآن أقول: الفلسفة – حيث السلاسة، واللطافة، والتسريد الماكر، وحيث السخرية أيضًا. هكذا أمكن للروائي الميلودي شغموم، صاحب (الوحدة والتعدد في الفكر العلمي الحديث) وصاحب (المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي) وسواهما، أن يقول ما قد يعجز الفيلسوف عنه، ومن لا يصدق، ليسألْ أمبرتو إيكو.


ضفة ثالثة

نبيل سليمان

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى