الدراسات الأدبية

لا روايات بوليسية في البلدان الاستبدادية..!

 

يقوم أدب الجريمة على قصة رجل بوليس أو تحر يسعى لحل لغز جريمة كاملة، وعادة ما يستخدم كاتب الرواية أو القصة أسلوبا تشويقيا يحاول من خلاله خداع القارئ الذي يشارك في محاولة حل هذا اللغز.

ويعتبر الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو (1809-1849) مؤسس مثل هذا النوع من الأدب بعد نشر قصته “جرائم شارع مورغ” في عام 1841، ثم أتبعها بقصة “لغز ماري روجيه”.

بينما كان رائدها في الرواية الإنجليزي تشارلز ديكنز (1812-1870) مع نشر روايته “البيت الكئيب” في عام 1852، وبعدهما تتالت شهرة أدباء كثيرين مثل أجاثا كريستي (أكثر من ستين رواية بوليسية)، وآرثر كونان دويل (مخترع شخصية شرلوك هولمز)، وجورج سيمنون وغاستون ليرو، وغيرهم.

ويعتبر هذا النوع من الأدب رائجا في العالم الغربي، وكثير من كتابها تحولوا إلى نجوم وأثرياء، بعد تحقيق رواياتهم أرقاما هائلة في المبيعات، وكذلك بعد تحويل العديد منها إلى أفلام أو سلسلة أفلام، وأيضا لأن روايات أدب الجريمة تأتي عادة في أعلى قائمة الأكثر مبيعا.

وفي الوقت الذي وجدت وتوجد أنظمة عربية بوليسية إلا أن هذا الأدب ما زال ضعيفا أو متعثرا في العالم العربي.

في هذا التقرير نستطلع آراء روائيين بشأن أدب الجريمة في العالم العربي، وأسباب ضعفها وتعثرها رغم وجود تجارب هنا وهناك ولهفة القراء لقراءتها، وهل ذلك يتعلق بهذه الأنظمة أم بالمخيلة الضعيفة لعالم الجريمة ولكتابها؟ ومتى سيصبح لدينا أدب جريمة عربي؟ وما شروط ذلك؟

  • أدب جريمة عربي

بداية، يرى الروائي والناقد السوري نبيل سليمان (1945) أن ثمة وهما سائدا يتمثل في أمثلة الرواية البوليسية الغربية، وبالتالي في فقدانها أو محدوديتها في الإنتاج الروائي العربي.

واستطرد سليمان بالقول للجزيرة نت إن الأساس في هذه الأمثلة هو “اتخاذ الرواية الغربية أنموذجا مقدسا يغيب معه السؤال الحاسم والحارق: هل للمحقق عندنا أدنى صفات المحقق “هركيول بوار” في روايات أجاثا كريستي، أو “شرلوك هولمز” في روايات آرثر كونان دويل؟ هل البوليس حبيب الملايين أم عدوها؟ هل الشرطي حاميها أم حراميها؟ أما الجرائم فما أكثرها، وأما العصابات فحدث ولا حرج، وبالتالي فهذه عناصر أساسية في الرواية البوليسية متوفرة عندنا، لكنها لا تكفي إزاء الأسئلة عن المحقق والتحري، وليس هذا هو الأهم”.

  • الجريمة غير استثنائية

أما الروائية والمترجمة اللبنانية نجوى بركات (1966) فتجد أنه “حتى لو كتبنا نحن الكتاب العرب رواية تقترب من النوع البوليسي في بعض النواحي فهي ستبقى طارئة أو دخيلة عليه”.

وتبرر ذلك في حديثها للجزيرة نت بأن ذلك يعود لافتقاد تلك الأعمال السياق الثقافي والأرضية اللذين يجعلان أحداثها وشخصياتها قابلة للإقناع أو التصديق، “فالرواية البوليسية كما درجت في الغرب هي ابنة المدينة والقوانين والحقوق والأنظمة الديمقراطية، ومن شروطها خرق هذه القوانين أو الإساءة إليها، والسعي من ثم إلى تقويم الخطأ من خلال إدانة المجرم وإنزال العقوبة به”.

في المقابل، تجد بركات أن المجتمعات العربية تعاني اختلالات عدة على هذه الأصعدة “فالدولة فيها ليست دائما حامية القوانين، بل قد تكون هي الجهة المارقة والقامعة، مرتكبة الجريمة ومشرعة الفساد، أما بنيتها فقد تفتقر إلى وجود حد أدنى من المؤسسات الناظمة المدافعة عن حقوق المواطن والميسرة لأمور عيشه، هذا ناهيك عن سيطرة وشيوع كل ما يبعدها عن أن تكون دولا، أمما بالمعنيين الحديث والمعاصر، لأنها في أغلبيتها إما بلدان ذات بنية قبلية عشائرية، وإما هي عسكرية”.

لذلك تجد صاحبة رواية “مستر نون” أنه في تلك الأحوال لا تعود الجريمة شيئا استثنائيا ناتجا عن وجود بعض الانحرافات في ممارسة القانون أو القضاء أو الديمقراطية “بل تصبح هي القاعدة التي لا يمكن تصويبها والتي تنتفي بوجودها كل عدالة اجتماعية أو سياسية أو حتى أخلاقية”.

  • سفاح الإسكندرية

ولدى سؤاله عن قراءاته لأدب الجريمة وتأثيراتها عليه، قال الروائي سليمان “لقد وفرت لي قراءة روايات أرسين لوبين في الصبا متعة لم تنفد رغم السنين، وما لا أنساه هو ما كانت تلك الروايات تنفح به مخيلتي، وقليل من ذلك كان ما وفرته لي قراءاتي لروايات بوليسية مترجمة أو مشاهدتي لأفلام ومسلسلات بوليسية”.

ويتابع سليمان “وأقل من ذلك ما وفرت لي قراءاتي لروايات عربية إلا ما يبلغ بالكاد عدد أصابع اليدين، مثل “السؤال” لغالب هلسا، وشقيقتها “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، والروايتان -كما هو معلوم- تمحورتا على سفاح الإسكندرية الشهير “محمود أمين سليمان”، ولا أنسى رواية كمال الرياحي “عشيقات النذل”، أو رواية عمارة لخوص “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك؟””.

ويستطرد صاحب رواية “سمر الليالي” بأن ثمة روايات عربية جمة كانت لها رائحة الرواية البوليسية الأوروبية، مثل “تصطفل ميريل ستريب”، أو “ليرننغ إنغلش” لرشيد الضعيف، أو بعض روايات ياسمينا خضرا.. بل حتى “من قتل ليلى الحايك؟” لغسان كنفاني تلفحها البوليسية كما تلفح “من قتل أسعد البروري؟” للحبيب السالمي.

ويوضح “يلفتني هنا أن يكون لتونس روايتا الرياحي والسالمي المذكورتان، ورواية فرج الحوار “في مكتبتي جثة” ثلاث روايات!! وكنت قد أدرت حول الأخيرة ومعها رواية السعودي نايف الصحن “النساء قادمات” فصلا حول الرواية البوليسية في كتابي “شهر زاد المعاصرة- 2008″”.

  • لغة السر

وبسؤال نجوى بركات مؤسسة “محترف، كيف تكتب رواية؟” عن تجربتها الشخصية في كتابة روايات لها طابع بوليسي، فقد أوضحت “أنا شخصيا كتبت روايتين لم تخلوا من بعد بوليسي ما إذا صح التعبير، إذ تضمنتا بعض مقومات الرواية البوليسية، ألا وهي ارتكاب فعل مخالف للقانون وإجراء تحقيق لكشف الفاعل، أكان هذا الأخير قاتلا أم لصا أم مجرما من أي نوع كان، ففي رواية “لغة السر” هناك محاولة لكشف سارق “اللوح المقدس” الذي أدت سرقته إلى حدوث جرائم قتل استدعت تكليف مأمور بإجراء تحقيق لكشف اللغز”.

كذلك هو الأمر مع رواية “باص الأوادم” التي لا تخلو من إيقاع بوليسي، حيث يتم توقيف ركاب الباص بعد اكتشاف رأس مقطوع مخبأ في كيس زيتون ومحمل على ظهر الباص ضمن أمتعة الركاب.. “وفي الحالتين، وعلى الرغم من وجود عناصر مثل التحري والتحقيق والتشويق فلم تلتصق صفة “البوليسي” بالعملين، لأنها تستلزم ربما أدوات أخرى إضافية وأهدافا مخالفة، لا بل وحتى أسلوبا مغايرا”.

  • وحي الواقع

أما عن محاولته الشخصية لكتابة رواية بوليسية فيقول صاحب رواية “تاريخ العيون المطفأة” للجزيرة نت “لقد سولت لي نفسي الأمارة بالسوء أن أكتب رواية بوليسية عندما اعتدى علي شابان في ليل 13/1/2001 إبان ما عرف بربيع دمشق، فالمعتديان معلومان جدا ومجهولان جدا جدا، وقد طوت الشرطة التحقيق في يومه الرابع أو السابع، كما ظل الادعاء الذي قدمته أمام النائب العام معلقا إلى يومنا هذا، والحق أني لم أكن قد فكرت يومئذ مليا بمعوقات كتابة رواية بوليسية تتأمم بالرواية البوليسية الغربية”.

أما الآن -يتابع سليمان- “أظن أن تلك الإجابة خاطئة، ولا مناص من (تبيئة) الرواية البوليسية، وإذا ما تحققت هذه التبيئة فالمستقبل واعد جدا لهذه الرواية جراء ما يتلاطم منذ عقود في حياتنا من جرائم ومجرمين، من خطف وقتل وتشويه وتسفيل للحق وإعلاء لباطل الأنظمة الاستبدادية والدكتاتوريات القبيحة: أليس اختطاف رزان زيتونة في 9/12/2013 في الغوطة واختفاؤها حتى اليوم، أليس (مادة) لرواية بوليسية؟ أليس اختطاف عبد العزيز الخير من على طريق المطار واختفاؤه حتى اليوم (مادة) لرواية بوليسية؟ هل أتابع ضرب الأمثلة؟”.

وعند سؤالها عن الشروط التي يحتاجها أدب الجريمة لكي يصبح ابن المكان، قالت صاحبة رواية “يا سلام” للجزيرة نت “حين يجيء اليوم الذي نتوصل فيه إلى كتابة رواية بوليسية عربية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة سنكون قد بنينا دولا حديثة تسود فيها معان، مثل الحق والقانون والعدالة والمحاسبة والإنصاف”.


عارف حمزة – هامبورغ

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى