فكر وفلسفة

نعوم تشومسكي: علينا تغيير الوعي

- ترجمة: عبدالله بن محمد -

عاش نعوم تشومسكي، بكلّ المقاييس، حياةً استثنائيّةً للغاية. في أحد الفهارس، تمَّ تصنيفه في المرتبةِ الثامنة بين أكثر الأشخاص الذين يتمُّ الاستشهاد بهم في التاريخ، مع أرسطو، وشكسبير، وماركس، وأفلاطون وفرويد. في سن الـ91، وبالإضافة إلى عشرات المُؤلَّفات، لا يتوقَّف عن الكتابة وإجراء المُقابلات لوسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم.


وُلدت عام 1928، بعد عقدٍ من تفشي «الأنفلونزا الإسبانيّة» في العالم، التي تسبَّبت في وفاة مئات الآلاف من الولايات المُتحدة وعِدّة ملايين حول العالم. أوّل حالة تمَّ الإبلاغ عنها كانت في قاعدة عسكرية أميركيّة في كنساس في عام 1918. عندما كنت صبيّاً في فيلادلفيا، هل تحدَّث الناس عنها؟ هل لديك أي ذاكرة عنها؟


– أنت محق. بدأ التفشّي في قاعدة عسكرية في كنساس، عندما ذهب الجنود الأميركيّون إلى أوروبا نشروها هناك، ثم انتشرت في كلّ مكان. لقد وُلدت بعد 10 سنوات، 1928. لم أسمع كلمة واحدة عنها. علمت عنها لاحقاً، عندما كنت أبحث في كتب التاريخ. وبعد مرور 10 سنوات، لم ألتقِ مطلقاً بأي شخصٍ يتحدَّث عنها.


لنتحدَّث عن الوباء الحالي، الذي أدَّى إلى وفاة ما يقرب من ربع مليون أميركيّ وملايين الحالات، وهي أرقام من المُؤكَّد أنها أعلى من ذلك بكثير. وقد تعرَّض النظام في واشنطن لانتقاداتٍ واسعة، لا سيما من الأوساط العلميّة والطبيّة.

وصفت مجلة «The New England Journal of Medicine» الصادرة في 7 أكتوبر/تشرين الأول أسلوب تعامل النظام مع الوباء بأنه «غير كفؤ للغاية». لقد «حوَّل الأزمة إلى مأساة. وبدلاً من الاعتماد على الخبرة، لجأت الإدارة إلى «قادة الرأي» والدجَّالين غير المُطلعين الذين يحجبون الحقيقة ويسهِّلون نشر الأكاذيب الصريحة».

ودعت مجلة «The Lancet» البريطانيّة المرموقة الأميركيّين إلى عدم انتخاب ترامب مجدّداً. ما هو شعورك تجاه ما يحدث واستجابة واشنطن؟


– في الأساس، هُم لا يهتمون. إنه لأمر مدهش للغاية أن المجلة الطبيّة الأميركيّة الكبرى، «The New England Journal of Medicine»، والتي كانت موجودة منذ أكثر من قرنين من الزمان، ولأوّل مرّة في تاريخها اتّخذت موقفاً من الانتخابات. «Scientific American» نفس الشيء، وقد سبقتهم «The Lancet» منذ بضعة أشهر. وهو أمرٌ شائن.

في الواقع، إذا نظرنا إلى التاريخ، فسيكون الأمر أكثر إثارةً للغضب. الأمر يستحق النظر إلى السجل، لأننا نواجه الموقف نفسه مرّةً أخرى الذي واجهناه في عام 2003. من الأفضل أن نفهم كيف حدث هذا إذا كنّا نأمل في منع حدوثه مجدّداً.

ويمكن أن تكون المرحلة التالية أسوأ بكثير. لقد كنّا محظوظين نوعاً ما حتى الآن. فيروسات كورونا شديدة العدوى، ولكنها ليست قاتلة للغاية، مثل هذه الفيروسات؛ كانت شديدة الخطورة، ولكنها ليست شديدة العدوى، مثل الإيبولا.

المرحلة التالية، على حدِّ علمنا، قد تكون شديدة العدوى وقاتلة للغاية، وقد نعود إلى شيء مثل الموت الأسود. من المُحتمل جدّاً أن يحدث ذلك.


الطريقة التي يجب أن نكون مستعدين لها هي دراسة فيروسات كورونا، وإيجاد لقاحات محتمَلة، ووضع أنظمة استجابة، بحيث تكون جاهزاً للتحرُّك عندما تأتي. لا يكفي أن تكون لديك المعرفة، بل الشخص المناسب ليقوم بشيء ما، المرشَّح الواضح.

شركات الأدوية، لديها أرباح طائلة، ومختبرات ضخمة، والكثير من الموارد، لكن المنطق الرأسماليّ، الذي مازال قائماً، يقف سداً منيعاً. أنت لا تضع المال في شيء قد ينجح بعد عامين من الآن، وبالتأكيد لا تضع المال في اللقاحات، التي يستخدمها الناس مرّةً واحدة ثمَّ ينتهي الأمر.

تضع أموالك في أشياء يمكنك جني الأرباح منها غداً. هذا هو المنطق الرأسمالي. لذا فقد تراجعت شركات الأدوية.


بعد ذلك تأتي الحكومة، مرّة أخرى، موارد كثيرة، ومختبرات رائعة. لكنهم محاصرون بشيء يُسمَّى النيوليبرالية، وهي نسخة متوحِّشة من الرأسمالية. تمَّ إنتاج جوهرها في جملتين في خطاب تنصيب رونالد ريغان: «الحكومة هي المشكل وليس الحل».

بمعنى أننا نزيل القرارات من الحكومة، التي تستجيب جزئياً للسكّان، ونضع القرارات في أيدي القطاع الخاص، غير الخاضعين للمُساءلة على الإطلاق، قطاع الشركات. سوف يتخذون القرارات.

لكن دعونا نعد إلى الوباء. شركات الأدوية مُستبعَدة من قِبل المنطق الرأسماليّ، الحكومة مُستبعَدة من النسخة النيوليبرالية للرأسماليّة الوحشية. ماذا تبقى؟ القادة، الذين قد يفعلون أو لا يفعلون شيئاً. 

تذكر بوب وودوارد، الصحافي الشهير في واشنطن بوست ذائع الصيت في فضيحة «ووترغيت». ما رأيك في قراره الذي تضمَّنه كتابه «Rage» بعدم الكشف عن المعلومات التي ذكرها ترامب «كوفيد – 19 قاتل … إنه الطاعون». لقد احتفظ بهذه المعلومات لأشهرٍ وأشهر.


– لقد قدَّم أسبابه. حكمي الخاص، كان غير لائق تماماً. تعلّل بأنه لم يتم التحقّق من صحّة المعلومات، لقد أراد التأكد من صحّتها. حسناً، هذه حجّة إذا كنت تكتب كتاباً لمصالح المُستقبل. لكن هنا مئات الآلاف من الأرواح معرَّضة للخطر. شعوري الخاص هو أنه في هذه المرحلة، من المُفيد الإفصاح عن المعلومات، حتى لو لم يتم التحقّق منها بالكامل.

ماذا عن اللقاحات المُحتمَلة التي يتمُّ تطويرها للتصدي لفيروس كورونا، ومَنْ سيقوم بإعطائها، وكم تكلفتها، وهل ستجني شركات الأدوية الكبرى الأرباح؟

– الأمر بأيدينا. ليس هناك سبب وراء قيام شركات الأدوية الكبرى بجني الأرباح. إذا نظرت إلى اللقاحات والمُستحضرات الصيدلانية بشكلٍ عام، فإن الكثير من الأعمال الرئيسية تقوم بها الحكومة، إما من قِبل المعاهد الوطنية للصحَّة أو عن طريق المنح المُباشرة إلى شركات الأدوية من الحكومة.

حسناً، هناك بالفعل قانون -قانون بيرش بايه لعام 1981 – ينصّ على أنه إذا كان للحكومة دورٌ كبير في تطوير الأدوية واللقاحات، فيجب عرضها للعموم في سعرٍ تنافسي، لا أرباح. هذا ما هو مدوَّن. أعتقد أنه ربّما تمَّ إلغاؤه الآن، لكنه كان موجوداً. وهذا يعني عدم السعي وراء الأرباح.


يجب أن أقول إننا خُنقنا أيضاً بواحدة من هدايا كلينتون العظيمة للنيوليبرالية ، قواعد منظَّمة التجارة العالمية، التي توفِّر ما يُسمَّى بحقوق الملكية الفكريّة وحقوق براءات الاختراع من النوع الذي لم يكن موجوداً في الماضي.

إنها ترقى إلى حقوق التسعير الاحتكارية الضخمة. بالنسبة لصناعة المُستحضرات الصيدلانية، فهي بمثابة ثروة كبيرة. تساعد الحكومة، وتدفع أجزاء مهمَّة من تطوير بعض الأدوية، ثمَّ تخبر شركات الأدوية، يمكنك جني الأرباح منها والاحتفاظ بها إلى الأبد.


حرائق الغابات والأعاصير والفيضانات وذوبان الجليد في القطب الشمالي وغرينلاند. كان سبتمبر/أيلول الشهر الأكثر سخونة على الإطلاق. سجّل وادي الموت أعلى درجة حرارة مسجّلة على سطح الأرض: 54 درجة مئوية. نحن نتجه نحو كارثةٍ مناخية.

– كل تنبؤات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ بدت متحفِّظة للغاية، ولم تكن مثيرة للقلق بالشكل الكافي. يحذرنا العلماء البارزون أننا في مرحلة الخطر الآن. الآثار المُميتة للكارثة البيئية ليست بعيدة. ارتفاع هائل في مستوى سطح البحر، سيحدث ببطء، ليس غداً.

إنّ العلامات المُبكِّرة للكارثة موجودة حولنا بالفعل، كما ذكرت. ستزداد الأمور سوءاً. لا نعرف حجمها. هناك هامش خطأ. لكن كلّ تحليل جاد يتنبأ بخطرٍ شديد، وربّما نهاية لإمكانية الحياة البشريّة المنظّمة. ليس غداً، ربّما في نهاية القرن، ربّما بعد قرون.


لكن مصير المُستقبل بين أيدينا. ربّما أمامنا 10 أو 20 سنة للتحكُّم فيه. وسائل التغلب عليها متاحة. أجرى المُؤلِّف المُشارك، روبرت بولين، الاقتصاديّ بجامعة ماساتشوستس، دراسات دقيقة ومفصَّلة للغاية. ويتمُّ تنفيذها في بعض البلدان.

هناك أدلة مقنعة للغاية على أنه ربّما بنسبة 2 % إلى 3 % من الناتج المحلي الإجماليّ يمكننا من السيطرة على كلّ هذا. توصّل محلّلون آخرون، مثل جيفري ساكس في كولومبيا، باستخدام نماذج مختلفة نوعاً ما، إلى تقديراتٍ مماثلة تماماً. هناك احتمال كبير جدّاً أنه إذا اعتمدنا التدابير الصحيحة، المُتاحة والمُمكنة، يمكننا أن نوقف السباق نحو الكارثة -وهذا أمرٌ حاسم- نخلق عالماً أفضل بكثير، عالم به وظائف أفضل، حياة أفضل، وظروف عيش أفضل، ومؤسَّسات أفضل.


ذكرت روبرت بولين. لقد ألَّفت معه كتاباً جديداً بعنوان «أزمة المناخ والصفقة الخضراء العالمية الجديدة». تستشهد فيه بالمُلاحظة الشهيرة لأنطونيو غرامشي حول «القديم يحتضر والجديد لا يمكن أن يُولد؛ في فترة الاستراحة هذه، تظهر مجموعة كبيرة ومتنوِّعة من الأعراض المرضية».

ثم تكتب، «لكن مثل هذه الأعراض المرضية يقابلها تحرُّك متزايد بشأن تغيُّر المناخ والعديد من الجبهات الأخرى. الجديد لم يولد بعد، لكنه آخذ في الظهور بعدّة طرق معقَّدة، وليس من الواضح ما هو الشكل الذي سيتخذه».

من حيث طبيعة التحرُّك المطلوب الآن والحركات الضرورية ومشاركة المواطنين، كيف نكسر قبضة ما تسمّيه «المنطق الرأسمالي»؟


– لا يمكنك كسر القبضة تماماً، لكن يمكنك تعديلها. هذا ليس سراً. ما يُسمَّى بالرأسمالية هو في الواقع نوع من رأسمالية الدولة. لا يوجد بلد رأسمالي. المُجتمع الرأسمالي سوف يدمِّر نفسه بنفسه بسرعة، بحيث لا يمكن أن يوجد.

أصحاب المصالح لن يسمحوا بذلك. لذا، فإن كلّ مجتمع هو شكل أو آخر من أشكال رأسمالية الدولة. يمكن أن يكونوا أكثر حقداً، ويمكن أن يكونوا أكثر إحساناً. في غضون الفترة الزمنية الحالية، بعد عقدين من الزمن، لن نطيح بالمُؤسَّسات الرأسمالية.


يمكننا تغييرها بجدية. من المُمكن تماماً، على سبيل المثال، فرض ضريبة كربون ليس من النوع الذي تمَّ اقتراحه، ولكن ضريبة كربون حقيقية والتي ،على سبيل المثال، ستعود بـ 75 % من الإيرادات إلى العاملين والأشخاص الذين يحتاجون إليها، ضريبة الكربون الخاصّة بإعادة التوزيع.

حاول ماكرون فرض زيادة في ضرائب الوقود، لكن وقع تمرُّد من الناس الذين يقولون بحق، نحن ضحايا ذلك. إنّ الفقراء والعاملين هُم مَنْ يدفعون هذا المبلغ بشكلٍ مبالغ فيه، وهُم الذين يحتاجون إلى الإغاثة وليس العبء الإضافي.


علينا تغيير الوعي. هناك أشياء لا حصر لها يمكن القيام بها في جميع المجالات: فرديّ، حكوميّ، محليّ، اتحاديّ، دوليّ. يجب أن يكون هناك جهدٌ دوليٌّ. لا توجد حدود للاحتباس الحراري. يجب أن نضع في اعتبارنا أن ما يقرب من نصف الانبعاثات في المُستقبل ستأتي من ما يُسمَّى بالمُجتمعات النامية، المُجتمعات الأفقر.

إنهم بحاجة إلى مساعدة. إنهم بحاجة إلى المُساعدة في الانتقال إلى طاقة أكثر كفاءة وأرخص وأكثر فائدة واستدامة. لكن في المراحل الأولى هُم بحاجة إلى المُساعدة للتحرُّك نحو الطاقةِ المُستدامة.


حوار: ديفيد بارساميان

المصدر: lithub.com

نتاريخ: 27 أكتوبر 2020


 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى